رجل القبو و دوستويفسكى: الوعى خطأ كونى

-رسائل من القبو- هى العمل الاول -قصة قصيرة- الذى سبق الاعمال الاربعة الكبرى للاديب-النفسانى الروسى العملاق دوستويفسكى.
هذه القصة او النوفيلا هى اول عمل ادبى وجودى-نفسى فى التاريخ و هى فى غاية العمق و التعقيد و الفهم للحالة الانسانية رغم قصرها الشديد.
وهى كما ذكرت كانت تحضير لروايات دوستويفسكى الاربعة الكبرى -الجريمة و العقاب, الاحمق, الشياطين, الاخوة كارامازوف-.
وللذكر فان هذه النوفيلا كانت احدى نقاط ارتكاز نيتشة فى وجوديته الاساسية و هى ايضا نقطة ارتكاز فرويد فى علم النفس فهو قد اتخذ رجل القبو نموذجا مثاليا للتحليل النفسى فى كتاب منفرد كامل.
هذه الرواية -حسب بحثى فى الامر- هى اول رواية ترد فيها الفكرة الوجودية العظيمة -الوعى خطأ وجودى- التى تقدم ادق تعبير عن العبثية و العدمية.
على صفحة البلوغر -الوعى و الوجود- تجدون خلاصة قراءتى الشخصية لهذه الرواية.
انصحكم بقراءة الرواية مباشرة. لان الذى اذكره هنا هو رأيى فى رجل القبو و هو قد لا يكون متوافقا مع رأى دوستويفسكى فى رجل القبو. بل اننى استخدمت مصطلحاتى الفيزيائية-النظرية الخاصة فى التعبير عن كثير من افكار دوستويفسكى النفسانية-الوجودية.
انصحكم ايضا بقراءة الرواية فى غير العربية فهذا افضل بكثير.
ومن استطاع على الاصل الروسى فهو افضل و افضل.
لكن الترجمات الانجليزية هى افضل الترجمات بالاجماع.
قرأت هذه الرواية الصائفة الماضية و كانت فى الحقيقة لحظة كشف فكرى نادرة بالنسبة لى حققتها مع اديب روسى آخر -بعد تجربتى السابقة مع تولستوى- وهو كشف فكرى لم استطع تحقيقه طوال 30 سنة من القراءة المكثفة مع جميع اعلام الاسلام ربما استثنى من ذلك ابن عربى -عندما افهمه- و بدرجة اقل الغزالى.

خلاصة قراءتى تكمن فى 11 نتيجة اساسية.
1 الفشل فى الشر
2 الوعى مرض معضل و الثنائية بين (وعى بالخير) و (الرغبة فى الشر)
3 العطالة الوجودية
4 الاستعذاب بالعذاب
5 الهايبر-وعى هو نكاية و غضب و حقد و غش الوعى للوعى
6 المعضلة الوجودية: الوعى محدد للوجود و ليس العكس
7 الحرية جوهرها الفساد و الشر كما ان الوعى جوهره الشقاء و الألم
8 وجود الشر ضرورى حتى يكتمل وجود الانسان
9 قانون الانسانية: الخلق-و-الفوضى و المعاناة هى اصل الوعى
10 المعاناة غير موجودة فى الجنة اذن الوعى غير موجود فى الجنة
11 الكتابة من اجل النسيان
التفصيل على صفحة البلوغر -الوعى و الوجود-.

All react

1  الفشل فى الشر

يبدأ دوستويفسكى Dostoevsky روايته على لسان  رجل القبو underground man بالقول:

"انا رجل مريض.

انا رجل حقود.

انا رجل غير جذاب."

وهذا من اقوى الاعترافات التى يمكن قراءتها  فى جميع الادب الفلسفى و دوستويفسكى -وهو محلل نفسى-وجودى من الطراز الرفيع قبل ان يكون اديب- سيواصل هذا النوع من الاعترافات العميقة و القوية على مدار الجزء الاول من روايته  الاولى (رسائل من القبو Notes from the Underground).

رجل القبو هو شخصية غريبة جدا. 

فهو رجل متعلم لكنه يؤمن بالخرافة.

وهو رجل مريض لكنه يرفض رؤية الطبيب من حقده  اولا على الاطباء لكن ايضا من حقده على نفسه. بل على التحقيق هو لا يذهب الى الطبيب كرها لنفسه اكثر من كرهه للاطباء و المجتمع.

 رجل القبو هو رجل اشتغل لسنوات طويلة فى الوظيفة الحكومية و لم يأخذ ابدا الرشوة و مع هذا فهو رجل فاسد و هو يعترف بذلك. بل ان عدم اخذه للرشوة لم يكن الا تعبيرا عن حقده على المجتمع و ليس تعبيرا عن اى مبدأ اخلاقى او دينى. 

رجل القبو كان موظفا فاسدا لانه مع عدم اخذه للرشوة فهو كان يتسبب فى تعطيل حوائج الناس لسبب و لدون سبب.  فهو يعترف بذلك و يقول (كنت اسعد جدا عندما انجح فى اتعاس الآخرين).

وقد استقال رجل القبو من وظيفته و اعتزل المجتمع فى شقته الرثة فى ضواحى بطرسبرغ   Petersburg مع خادمته الريفية الامية المسنة (التى يكرهها ايضا كرها شديدا) و هذا بعد ان ورث مبلغا من المال من احد الاقرباء يسمح له بالاعتزال الذى يعيشه منذ سنوات و سمح له الآن بهذا الاعتراف.

وهو يعيش فى ضائقة مالية مستمرة و نصحه من يعرفه بالانتقال عن بطرسبرغ و هو يقول انه ادرى بوضعيته من هؤلاء المتذاكين الذين يدعون النصح الامين.

ثم يقول هو لن يغادر بطرسبرغ لسبب بسيط وحيد هو انه لا يوجد اى فرق بين بطرسبرغ و غير بطرسبرغ فالجميع سواء.

اذن لم يتبقى لرجل مثله الا متعة واحدة هى التكلم عن نفسه بكل امانة و شفافية و نزاهة حتى لو احتوى هذا الكلام على التناقض فان اى اعتراف نفسى-وجودى حقيقى يجب ضرورة ان ينطوى على تناقضات النفس  و الوجود.

ولهذا فهو يعترف هنا لنفسه و للقارئ. و لب اعترافه يكمن فى اعترافه بالسوء و الحقد و الكره و الشر.

لكن هل  رجل القبو هو فعلا بهذا السوء.   يواصل الرجل اعترافاته الغريبة للقراء. و يترك القرار للقارئ لكنه هو غير مهتم ابدا برأى القارئ فيه.

هو يعترف لنفسه و للقارئ  ان اكثر ما كان يشعر به فى الوعي الداخلى ليس هو  هذا الحقد  الذى يدعيه و يتفاخر به بل هو عدم  اقتناعه الحقيقى بأن حقده هو حقيقى بما يكفى و اذن فان غضبه المستمر على نفسه و على مجتمعه يرجع لا الى هذا الحقد الظاهرى بل يرجع الى عدم ايمان رجل القبو فى هذا الحقد و فى هذا الشر اللذان يدعيهما. 

فهو اذن رجل كاذب بالاساس و ليس حاقد او شرير.  و اكبر الكذب الذى يمارسه على نفسه اولا هو  اقناعه نفسه بأنه يكره ذاته و يكره المجتمع. لكن رجل القبو غير مقتنع بكل هذا الكذب وهذه هى مشكلته.

رجل القبو ليس شريرا بل هو يكذب فى ادعاءه بأنه شرير. وهذه هى حقيقة حقده. فهو يحقد من الكذب الذى يعيشه. فهو لا يستطيع ان يكون حاقدا حقيقيا او شريرا كاملا. بل هو لا يعرف اصلا كيف يمكنه ان يكون حاقدا و شريرا. فهو يحقد من عجزه فى ان يصبح حاقد. 

يقول رجل القبو "لا اعرف كيف اصبح اى شيء, لا حاقد و لا طيب, لا نذل و لا أمين, لا بطل و لا حشرة".

اذن مشكلة رجل القبو تكمن فى العجز و اليأس و ليس فى الشر و الخير.

ولهذا فهو يعيش معزولا فى شقته المزرية على هامش المجتمع. مقنعا نفسه ان الرجل الذكى لا يمكنه ان يحقق اى شيء فى هذا المجتمع. وفقط الرجل الاحمق يمكنه ان يحقق كل شيء.

الرجل الغنى فكريا و اخلاقيا محدود جدا فى هذا المجتمع الذى لا يقبل الا المخلوقات الفقيرة فكريا و اخلاقيا.

هذه هى قناعتى  منذ 40 سنة -يقول رجل القبو-. 

و 40 سنة هو عمر كامل. ثم من هذا الذى يعيش اكثر من 40 سنة. العيش اكثر من 40 سنة هو ابتذال و هو من سوء الاخلاق. ومن هذا الذى يعيش اكثر من 40 سنة. سأجيب بكل امانة: هم الحمقى و من لا قيمة لهم. ولهذا فاننى شخصيا سأعيش الى 60 و الى 70 و الى 80 سنة.

وهذا اعتراق قوى آخر من رجل القبو فهو يعتقد انه  رجل احمق و انه لا قيمة له و لهذا فهو سيعيش طويلا و يعمر.

يقول بعد ذلك رجل القبو لقراءه (تعتقدون اننى احاول تسليتكم). يقول ان هذا ابعد شيء ممكن عن الحقيقة. فالحقيقة تكمن فى انه  يسلى نفسه و لا يهمه تسلية غيره. لكن هذه التسليىة هى تسلية جادة و جدية  و ليست لعب و هزل. فهو لم يتبقى له اى متعة فى الحياة الا الاعتراف لنفسه و للقارئ بحقيقته السوداء. وهو  هنا لا يبحث عن رضا القارئ بقدر ما يبحث عن حقيقة نفسيته.


2 الوعى مرض معضل و الثنائية بين (وعى بالخير) و (الرغبة فى الشر)

يواصل رجل القبو اعترافاته فيقول:


"أريد ان اخبركم الآن ايها السادة, حتى لو لم يكن يهمكم الامر,  لماذا لا استطيع ان اصبح حتى حشرة. 

فقد حاولت مرات عديدة ان اصبح حشرة. 

لكننى لا اساوى حتى ذلك.

اؤكد لكم ايها السادة ان الوعى مرض.

الوعى مرض حقيقى شامل."


نصل هنا الى أهم فكرة عند دوستويفسكى على لسان رجل القبو.

الوعى مرض معضل. فالانسان لا يحتاج الى كل هذا الوعى. فوعى الانسان البسيط الذى يسميه دوستويفسكى (الشخص المباشر direct person او رجل الاكشن man of action) يكفى جدا فى تحقيق كل متطلبات الحياة.

لكن ان يكون لديك وعى يزيد عن هذا القدر المتوسط فهو مرض بل هو مرض معضل سيعانى بسببه صاحبه و لن تنتهى معاناته ابدا.

الرجل المثقف الذى يعى هذه المعضلة و يعى ان هذا الوعى الزائد الذى يتحلى به يريد ان يعيش بل يريد ان يتعايش مع هذه المدنية  -التى يصفها دوستويفسكى على لسان رجل القبو نظرية theoretical و قصدية intentional-  لن يكون سعيدا ابدا. 

يذهب دوستويفسكى ابعد من هذا و يقول ان اى نوع من الوعى هو فى الحقيقة مرض و علة.

وحجة رجل القبو وراء هذا الادعاء هى من اغرب بل من اقوى الحجج. 

فهو يؤكد انه  عندما يتمكن فعلا من الشعور  بكل تلك القيم السامية و الجمالية و الخيرة  فانه -وكأنه مصنوع هكذا- يشعر بأسوء الاشياء بل انه يستطيع ان يفعل فى تلك اللحظة افظع الامور.

اذن كلما زاد الوعى بقيم الخير كلما زاد غرقه فى الوحل و كلما ازداد استعداده لاغراق السفينة بكل شيء.

اذن هذا فعلا رجل يعترف بحقيقته  السوداء لنفسه. فكلما زاد وعيه بالخير -وماهية الخير- كلما زاد وعيه بقدرته على و استعداده ل بل رغبته فى فعل الشر. 

فهو يعرف حقيقته -التى هى حقيقة كل انسان- و لهذا فهو لا يستبعد فعل كل شيء عكس ما يدركه وعيه من قيم الخير و الجمال. 

وهذا هو الصراع بين الحرية و الوعى. فالوعى مرض كما يقول الكاتب و الحرية نقمة ليست نعمة (كما يقول سارتر بعد ذلك بسنوات).


هذه الحالة كما يؤكد رجل القبو هى حالة طبيعية عادية فى الانسان. الحالة التى تجمع فى ثنائية الوعى (الزائد) بالخير و الحسن لكن الارادة و القدرة  (بل الاستعداد و الرغبة) على فعل الشر و القبيح.  

وقد كان  رجل القبو يعتقد انه الرجل الوحيد على ظهر الارض الذى يعانى من هذا المرض. و كان فى خضم تلك المعاناة النفسية الشديدة يقاوم هذا الميل الذى يجده فى نفسه. لكنه اليوم تغير منظوره للامور بالكلية. فهذا الصراع الذى يجده فى نفسه بين الوعى الزائد و الشر الفطرى هو ليس مرضا ابدا بل هى حالة طبيعية و هى حالة متشركة بين جميع بنى البشر. وبعد ان ادرك هذه الحقيقة و اقتنع بها اصبح يجد متعة شديدة فى هذا الميل الذى يجده فى نفسه عكس تلك المعاناة الشديدة التى كان يعشر بها قبل ان يفهم حقيقة نفسه و حقيقة الانسان.

هذا يذكرنى بقول ابن عربى فى تحول عذاب النار الى استعذاب بالنار فى وعى المخلدين فى النار بعد انتهاء فترة العقوبة التى يجب ان تنتهى مهما طالت باذنه سبحانه و تعالى. بالمثل هنا فان عذاب الوجود تحول الى استعذاب بالوجود فى وعى رجل القبو بعد ان ادرك الحقيقة و التى سيدركها جميع من يتحلى بالهايبر وعى الذى يتكلم عنه دوستويفسكى على لسان رجل القبو.

دعنا نستمع الى تعبير رجل القبو  عن هذه المتعة الوجودية التى وصل اليها. يقول:

سأشرح. هذه المتعة تتأتى من الوعى الشديد بالانحطاط الذى يصل اليه المرء. تتأتى من الشعور بأننا قد وصلنا الى نهاية المطاف, و بأن الامر كان فظيع, لكن لا يمكن ان يكون غير ذلك, و انه لن يكن هناك مفر منه. تتأتى من الشعور بأنه لا يمكنك ان تصبح رجلا مختلفا, و انه حتى لو سمح لك الزمن و الايمان بالتغير فانك لن ترغب فى التغير, و انه حتى لو رغبت فى التغيير فانك لن تفعل شيئا لان الحقيقة انه ليس هناك شيء يمكنك  ان تتغير له".

وهذا  من اقوى التعبيرات الوجودية قاطبة. 

اذن هذا الوعى المفرط يؤدى تلقائيا الى هذه الحالة الطبيعية فى الانسان التى تجمع فى ثنائية بين وعيه الزائد بماهية الخير و استعداده الغريزى على فعل الشر. 

هذه الوعى المفرط و هذه الثنائية الطبيعية تؤديان الى عطالة فى الانسان تتمثل ليس فقط فى عدم قدرته او بالاحرى عدم رغبته فى التغيير بل ايضا فى عجزه عن فعل اى شيء بخصوص حقيقته.

اذن الشرير هو شرير ليس لانه شرير بل لانه موجود و هذا ايضا يذكرنا بقول ابن عربى ان المشمش هو مشمش ليس لانه مشمش بل لانه موجود.

وهذا نوع من الجبر. لكن دوستويفسكى على لسان رجل القبو و كذلك ابن عربى اعمق من يذهبا فى اتجاه الجبر بل هما على التحقيق من دعاة الحرية المطلقة و ليس الحرية التواؤمية المقيدة.

اذن مع هذا الوعى المفرط و هذه الثنائية الطبيعية وعى-شر و هذه العطالة الوجودية ليس هناك مفر بعد كل هذا الفهم الا المتعة الوجودية التى هى بالاساس متعة اليأس و القنوط من هذا الوجود و من عدم قدرتنا على تغييره.

 لكن اللوم كل اللوم -يواصل رجل القبو اعترافاته- يقع  دائما على عاتق المرء -ليس لخطأ ارتكبه هو بالضرورة- بل لخطأ الطبيعة التى خلقت فيه هذا الوعى بكل هذا الوعى و الطبيعة و الخير و الشر. 

وهذه فكرة عميقة اخرى.


3 العطالة الوجودية

يواصل رجل القبو  تحليله للفرق بين الشخص المباشر  او رجل الأكشن و بين رجل الوعى المفرط او الهايبروعى.

رجل الاكشن لا يفكر لكن يفعل بدون  اى تردد اما رجل الهايبروعى فهو يفكر و لا يفعل شيء و بحث عن المبررات حتى لا فعل شيء.

الشخص المباشر أو رجل الأكشن هو الرجل العادى  الحقيقى عند دوستويفسكى على لسان رجل القبو. 


يقول رجل القبو ببلاغته الغريبة: "رجل الاكشن هو الرجل كما ارادته امه الطبيعة الحنون عندما اخرجته الى الوجود على ظهر هذه الارض".

 

وهذا من اجمل التعبيرات. فرجل القبو يعترف ان الطبيعة جاءت برجل الاكش وهو رجل غبى عنده لكنه رجل جميل. فرجل الاكشن يمثل الاطروحة thesis اما رجل الهايبروعى فهو يمثل الاطروحة-المضادة antithesis. وهذه المصطلحات (الاطروحة و الاطروحة-المضادة) هى مصطلحات هيجل و التوليف الجدلى بينهما هو الوحيد الذى يمكن ان يؤدى الى الحقيقة غير-القابلة للاختزال.

اذن رجل الاكش هو رجل اخرجته أمه الحنون الطبيعة الى الوجود.

اما رجل الهايبروعى  فهو رد  رد الطبيعة على نفسها او هو رد الوعى على الطبيعة او هو رد الوعى على الوعى.  اذن رجل الهايبروعى لم يأتى من حجر الطبيعة بل هو اتى من تصوف  الوعى الذى لا يمكن ان يتحلى به ال

رجل الهايبروعى هو رجل ذكى اى نعم لكنه رجل بشع لا شك فى ذلك. فهو يعتقد بوعيه المبالغ فيه انه فأر و ليس رجل. هو قد يكون فأر بوعى شديد مبالغ فيه لكنه يبقى فأر ليس اكثر من ذلك. 

اما رجل الاكشن - فهو رغم انه غبى الا انه رجل جميل - فهو رجل لا شك فى ذلك عند نفسه و عند رجل الهايبروعى.

رجل الاكش هو اذن رجل الطبيعة و الحقيقة l'homme de la nature et de la verite او كما يسميه الفلاسفة.

اما رجل الهايبروعى فهو فأر فقط.

ماذا يفعل مثلا الاول عندما يهان و يريد ان ينتقم لنفسه و ماذا سيفعل الثانى عندما يهان -وهو شاعر بالاهانه دائما- و يريد ان ينتقم لنفسه.

هذه نقطة مهمة لكنها صعبة جدا على الفهم. وهو -اى رجل القبو- يؤكد انها سوف تستعصى على فهم الكثير من القراء الذين هم فى اغلبيتهم من رجال الاكشن.

اذن عندما يهان رجل الهايبروعى فانه سوف يشعر بالحقد -وهذا شيء طبيعى- لكنه سيشعر بهذا الحقد بشكل اعمق من رجل الاكشن. ومع هذا فان رد الفعل مختلف جدا عندهما. فرجل الاكش سوف ينتقم بالفعل -بدون اى تفكير-  بسرعة و بفعالية و لانه غبى فانه سيعتقد ان هذا الانتقام  هو العدل.

اما رجل الهايبروعى فهو فأر و هو كالفأر لا يجد اى قدرة على الانتقام بل هو لا يجد اى رغبة فى الانتقام. لكن الحقيقة ان الانتقام ليس عدلا بل هو همجية و عبثية ليس من وراءها تحقيق اى شيء. وهذا الفهم هو بسبب الوعى المفرط الذى يتحلى به هذا الفأر.

رجل الهايبروعى سوف يفكر بشكل مفرط فى الانتقام و عواقبه حتى يفوت الآوان و يصبح الانتقام مستحيلا او عبثيا. و لا يبقى امامه الا الانسحاب الى جحره مثل الفأر و التفكير  اكثر فى الاهانة التى لم تجد الانتقام المناسب  و تخيل اهانات اخرى  فى ذهنه مترتبة علي الاهانة الاولى و التفكير المفرط ايضا فى هذه التخيلات حتى تصبح حقيقية عنده.

لهذا لا يستطيع ان يصبح رجل الهايبروعى اى شيء. لا يستطيع ان يصبح حتى حشرة. فهو ليس لديه الا هذا الكم الهائل من هذه الافكار السلبية فى ذهنه -سبب وعيه المفرط- اما فى الواقع فهو  لا يستطيع ان يفعل اى شيء  ايجابى او سلبى بل هو لا يريد ان يفعل اى شيء بسبب هذه العطالة الوجودية التى تسبب له فيها وعيه الشديد.

اذن الوعى هو مرض مستعصى. بل ان الوعى الشديد سوف يحول الانسان من رجل الاكشن او كما يسميه الفلاسفة العميان رجل الطبيعة و الحقيقة الى رجل الهايبروعى الذى هو ليس الا فأر.

الفرق الآخر بين رجل الاكشن و رجل الهايبروعى يكمن فى الموقف من العلم وهنا يعطى دوستويفكسى مثالان مشهوران هما مثال (الحائط الحجرى) الذى يعبر عن القوانين السببية و الفيزيائية التى تحكم العالم و مثال (2+2=4) الذى يعبر عن القوانين الرياضية التى تؤسس للفيزياء و العلم.

رجل الاكش لن يتوقف عن  تحقيق انتقامه الا امام حائط حجرى. لكن اذا كانت القضية هى فعلا قضية عدل فهل يهم ابدا ان يقف حاجزا امام تحقيق العدل حائط حجرى او غير حجرى. هذا يدل ان الدافع نحو سعيه للانتقام ليس الا دافع نفسى بحت. 

اما رجل الهايبروعى فهو لا يهمه الحائط الحجرى -الذى يمثل القوانين السببية و الفيزيائية للعالم- مثلما لا يهمه القبول السريع و الخضوع الاسرع الذى يقابل به رجل الاكشن هذا الحائط الحجرى. فاسبابه فى رفض الانتقام هى ليست اسباب نفسية محضة بل هى اسباب نفسية-وجودية تتمثل فى وعيه المفرط من جهة  وفى  عدم امكانية العدل  فى الواقع من الاساس من جهة اخرى.

رجل الاكشن يقبل و يخضع لهذا الحائط الحجرى.

اما رجل الهايبروعى فهو يقبل هذا الحائط الحجرى لكنه لا يخضع له. فالعدل و حرية الارادة  عنده هما اهم من كل الفيزياء و العلم.

اذن رجل الهايبروعى -مع كل صراعاته النفسية الاخرى- هو ايضا فى حالة ثورة داخلية مستمرة امام نتائج العلم.


اذن رجل الاكش يقبل  مثلا بدون اى نقاش فكرة ان الانسان تطور عن قرد و ان 2+2=4 لكن رجل الهايبروعى فهو يحتفظ لنفسه بحق التفكير فهو يحتفظ لنفسه  بحريته و بحق رفض فكرة ان 2+2=4.

لكن هذا بالضبط هو الذى ادى به الى العطالة الوجودية.


4 الاستعذاب بالعذاب


حتى الالم فى الضرس هو ممتع يؤكد باصرار رجل القبو.

واكبر دليل على ان هناك متعة فى الألم ان وجع الضرس يترافق بأنين يصفه رجل القبو بأنه أنين خبيث.

فهذا الانين هو تعبير عن المتعة التى يجدها المتألم فى وجع الضرس.

فأولا هذا الانين يعبر عن عبثية الالم التى يجدها الوعى شيئا مهينا. فهذا الوعى هو النظام القانونى للطبيعة  التى يزدريها هذا الوعى لكن هذا الوعى هو الذى يتألم أما الطبيعة فهى لا تشعر بأى شيء.

ثانيا هذا الانين يعبر عن الوعى بعدم وجود اى اعداء يمكن عقابهم على هذا الالم.

وثالثا هذا الانين يعبر عن الوعى بأنك عبد لهذا الالم بل انت عبد لهذا الالم رغم كل الطب و العلم و الاطباء و العلماء الذين يملؤون الارض.

ورابعا هذا الانين يعبر عن العجز عن فعل اى شيء رغم كل العناد و الاحتجاج من هذا الوعى. ففى الاخير ليس امامك الا ان تضرب الحائط بقبضة يدك وحتى هذا فهو لن يقدم و لن يؤخر شيئا.

كل هذا الانين و الوعى باسبابه الحقيقية لا يمكن ان ينتهى فى الاخير الا بوجود نوع من اللذة و المتعة فى ذلك الالم الذى تسبب فيه.

وهذا الامر نجده بالخصوص فى الرجل المتعلم و المتمدن. فالانين عنده فى اليوم الثانى و الثالث يختلف عن الانين فى اليوم الاول فهو يتحول الى شيء بشع و مقرف و خبيث.  فهذا الرجل المتألم  عن وعى تام  يريد من الاخرين ان يتعذبوا مثل عذابه و ان يتألموا مثل ألمه و ان يشعروا بما يشعر به من خوف و حقد و قسوة. وهو يعلم ان الآخرين يمقتونه من اجل كل ذلك الانين و كل هذا الحقد و هذه القسوة تجاههم. لكن خوفه من  العذاب و خوفه من الوحدة بل خوفه من ان يبقى وحيدا فى العذاب يجعله يئن كل ذلك الانين الخبيث لعل غيره يشعرون و لو بقطرة مما يشعر به.

اذن الخوف و الحقد و القسوة هى اهم صفات  هذا الوعى.

فالوعى  المتعلم و المتمدن  يخاف من الالم  و العذاب و عندما  يتعذب و يتألم فانه يريد من العذاب و الالم ان ينتشر الى غيره وهذه هى القسوة. وهو يريد لغيره ان يشعروا بالخوف من الالم بل هو يرغب ان يتألموا  حتى لو لم يتألم هو وهذا هو الحقد. وكل ذلك الانين الصادر عنه هو تعبير عن هذا الخوف و الحقد و القسو اى انه ينم عن انانية وجودية مقيتة. 

ولا نجد اسوء من هذا الوعى  الا وعى المتدين الذى يريد ان ينتشر العذاب و الالم الى الآخرين و ان يخلدوا فيه حتى لو  كان هو مخلد فى الجنة متنعما.  وهذا اكثر من الانانية الوجودية بل هذا وله-ذاتي وجودي.

من كل هذا الصراع النفسى و كل هذا الفهم لهذا الصراع النفسى ينجم عند الوعى شعور شاذ بالمتعة من الالم. 

ولهذا فان الالم و العذاب ينطوى على متعة  عند الوعى. و لا يدرك كنه هذه الحقيقة المشتركة بين جميع انواع الوعى الا الهايبروعى او الوعى المفرط.

ولهذا فان رجل الهايبروعى -بسبب هذا الوعى المفرط- لا يمكن ابدا ان يحترم نفسه و هذه هى احدى حقائقه الاساسية.

الالم و العذاب هى من اهم مظاهر الشر. و قد بينا فى فقرة سابقة -على لسان رجل القبو- ان الوعى  له ميل غريب نحو فعل الشر بصفة عامة. لكن هنا بينا ايضا ان الوعى له ايضا استمتاع غريب بالالم و العذاب.

الوعى يستعذب بالعذاب و لا يتعذب به و هذه فكرة قديمة عند ابن عربى الذى قال ان اهل النار مخلدون فى النار و النار قد تكون خالدة لكن عذابهم فى النار يتحول بعد انقضاء العقوبة -التى يجب ان تنقضى مهما طالت الآماد- اذن يتحول عذابهم الى استعذاب.

اذن الالم و العذاب ضروريان فى الوجود لان الاستعذاب بهما ضرورى فى الوجود لان الوعى بالالم و العذاب و الاستعذاب ضرورى فى وجود الوعى.

5 الهايبر-وعى هو نكاية و غضب و حقد و غش الوعى للوعى

يواصل رجل القبو هلوساته العميقة. 

فيتسائل هل يمكن للانسان الذى يتلذذ بالألم الذى يجده فى جسده او روحه ان يجد فى نفسه  اى ذرة احترام واحدة لذاته او للهايبر-وعى الذى يتحلى به.

هذا التلذذ بالعذاب لا يمكن ان تلام فيه قوانين الطبيعة. رغم ان الطبيعة كانت دائما هى المسؤول الاول و الاخير عند رجل القبو عن معاناة الوعى فى الحياة.

ثم يذكر رجل القبو انه حاول ايضا -فى مرتين- ان يقع فى الحب.  و يؤكد انه قد تعذب من هذه التجربة ايضا. لكن يعود رجل القبو و يقول انه فى اعماق قلبه لم يكن مؤمنا بهذا العذاب. بل هو كان فى اعماق قلبه ساخرا مما يسمى هذا العذاب فى الحب.  اما فى الحقيقة فهو كان فعلا يتعذب لكن من الغيرة من الحب و ليس يتعذب بالحب.

كل هذا راجع  حسب رجل القبو الى الملل ennui فالعطالة -عطالة الملل- تمكنت من حياته.

فالثمرة المباشرة للوعى -كما يؤكد رجل القبو- هو العطالة -عطالة الملل- اى القعود واعيا مربع اليدين اى من دون فعل او محاولة فعل اى شيء.

ثم يكرر رجل القبو فكرة ان رجل الاكشن هو رجل فعال فقط لانه غبى و محدود فكريا.

فبسبب محدودية تفكير رجال الاكشن فان الاسباب الحقيقية وراء الاحداث تغيب عن اذهانهم و  يجدون الاسباب المباشرة و الثانوية كافية جدا من اجل تبرير احكامهم و افعالهم و تأسيس نظرتهم الى العالم.

 اذن رجال الاكشن تجد عقولهم سهولة شديدة فى الحكم المطلق على الاشياء و الاحداث فهى لا تنطوى على اى شك مطلقا و هذا اليقين غير-المؤسس هو بداية الفعل الذى يفخر به رجال الاكشن.

اما رجال الهايبر-وعى -ومنهم رجل القبو- فهم يبحثون بشكل مستمر عن الاسباب الحقيقية و الاولية وراء الاشياء و الاحداث التى يمكن ان تؤسس عليها مختلف الاحكام و الافعال. و هم  كلما وجدوا سببا حقيقيا بحثوا عن السبب  الاكثر حقيقية وراء ذلك السبب الحقيقى وهكذا الى مالانهاية. هذا هو جوهر الوعى. وهذا كله  ليس الا قانون من قوانين الطبيعة مرة اخرى.

لكن ما هى النتيجة فى النهاية من كل هذا التأمل و الوعى و البحث و التفكر الذى يقوم به رجال الهايبر-وعى.

النتيجة بكل بساطة هو عدم الفعل و الملل -الملل الوجودى- و العطالة -عطالة الوعى- الذين كنا قد ذكرناهم آنفا. فالبحث المستمر يعنى شك مستمر و الشك عائق امام الفعل.

وهذه كلها خصائص اساسية من خصائص الهايبر-وعى التى لا نجدها فى الوعى العادى.

اذن مثلا رجل الاكشن تجده سريع جدا فى تحقيق الانتقام  اذا تعرض الى ظلم  لانه بكل بساطة يرى عدل فى ذلك. فالعدل هو السبب الحقيقى وراء الفعل الذى يتم تنفيذه بهدوء و نجاح لان رجل الاكشن يعتقد انه يقوم بشيء عادل و شريف.

لكن رجل القبو يؤكد انه لا يرى اى عدل او شرف فى الانتقام و لهذا فانه اذا سعى للانتقام  فانه لن يسعى وراءه الا لسبب ال spite الذى سوف اعربه هنا ب (النكاية) و قد كنت عربته فى البداية ب  (الحقد) و يمكن ايضا تعريبه ب (الغضب).

ف (النكاية و الحقد و الغضب) هو الشيء الوحيد الذى يمكن ان يتغلب على جميع شكوك رجل القبو و عليه فهو يمكن ان يقوم مقام السبب الحقيقى او السبب الاولى رغم انه ليس سبب.

لكن رجل القبو  يعى جيدا ان هذه (النكاية) و هذا (الحقد) و هذا (الغضب) هو ليس الا تخلى عن الوعى المرهف الذى يتحلى به. 

فهو   قد طرد بهذا الشك المستمر و  سمح لاحكامه و افعاله ان تصدر بشكل حاسم لكن عن العواطف و الانفعالات و ليس عن التفكير و التأمل. 

اذن هو سوف يستطيع ان ينجز فى الحياة مثل رجل الاكشن. فهو  مثلا قد  يحب و قد يكره فعلا لكنه سوف يحتقر نفسه فى النهاية لانه قد غش واعيا نفسه.

6 المعضلة الوجودية: الوعى محدد للوجود و ليس العكس

يبدأ  رجل القبو هنا فى محاولة التعرف على الأنا المؤسس لشخصيته. 

 دوستويفسكى فى هذه الرواية -على لسان رجل القبو- يحدد و لأول مرة المعضلة الوجودية على انها ليست الا محاولة تحديد و تعريف الأنا او الوعى-الذاتى  المؤسس للشخصية.

فتحديد هذا الأنا او الوعى-الذاتى هو تحديد للوعى بأكمله بل هو تحديد لطبيعة الوجود بأكمله.

فمن جهة يرفض رجل القبو ان يقبل تحديد و تعريف الأنا و الوعى و الوجود بما يعتقده الآخرون بخصوص شخصيتك.

 و من الجهة الاخرى فان كونك  عالم فيزياء و رياضيات او كونك فيلسوف او كونك خبير فى كذا او كذا  او كونك فنان او كونك سياسى او كونك بطل او كونك مؤمن لا يحدد ابدا ماهية و جوهر شخصية الانسان الحقيقية.

كل هذا هو خداع او غش الذات . و رجال الاكش لبلادتهم يستطيعون غش ذواتهم و تناسى او نسيان ذلك الغش و كأنه لم يكن ثم الاطمئنان الى ماهية الوجود التى حددوها لشخصياتهم عن طريق غش و خداع الوعى-الذاتى. 

بكل بساطة  فان رجل القبو  بكل هذا الهايبر-وعى الذى ينطوى عليه او يعانى منه  فانه يرفض ان يخدع او يغش ذاته لانه يعرف انه لن يقدر على نسيان ذاكرة ذلك الغش كما انه لن ينجح الى الاطمئنان الى ماهية الوجود التى سينبنى علي ذلك الغش و ذلك النسيان.

مع كل هذا فان رجل القبو كان يتمنى لو كان بليدا الى القدر الذى كان يسمح له ان يغش ذاته و تناسى ذلك الغش  حتى يستطيع العيش مطمئنا بهذا الوجود الذى وجد نفسه فيه.

اذن الوجود المطمئن هو الوعى الذى تأسس على البلادة و الغش و النسيان.

7 الحرية جوهرها الفساد و الشر كما ان الوعى جوهره الشقاء و الألم

لماذا يفعل الانسان الشر?

هذا تساؤل آخر عميق جدا يبدأ رجل القبو فى البحث عنه.

ومباشرة يبدأ رجل القبو فى رفض النظرية الدينية-الفلسفية-العلمية القائلة (ان الانسان يرتكب الشر  فقط لانه لا  يفهم و لا يعرف مصلحته. و ان مصلحة الانسان هى تكمن فى لفظ الشر و فعل الخير. لكن الانسان تنقصه المعرفة  و العلم ولهذا فانه لا يستطيع التمييز بين المصلحة و المفسدة و لهذا فهو يقع فى الشر. و اذن لو اكتملت هذه المعرفة عنده فان الانسان سوف يرى ان المصلحة -مصلحته- تقبع دائما فى اختيار و فعل الخير و انه سيفعل دائما الخير و يترك الشر).

اذن هناك هنا عدة فرضيات هنا. 

اولا ان الانسان خير بالاساس و يبحث عن المصلحة  و ان المصلحة  خير و ان الخير مصلحة.

ثانيا ان الانسان عن طريق العلم و العقل يستطيع ان يصل الى الحقيقة التى هى ليست الا كون المصلحة خير و الخير مصلحة.

ثالثا ان الانسان يحتاج فقط ان يتعلم كيف يعيش حسب نتائج العلم و العقل و الدين حتى يلتزم بالبحث عن المصلحة و فعل الخير.

اذن المشكلة حسبهم ان الانسان لم يتعلم بعد العيش حسب نتائج العلم و العقل و الا فهو لن  يصدر الا عن مصلحة و لن يصدر عنه  الا خير.

 يذكر رجل القبو مثال على تهافت هذه النظرية كيف ان الانسان المعاصر يجد متعة حقيقية لكن مقنعة فى اراقة الدماء رغم ادعاءه الحضارة و المدنية و الاخلاق. وهذا وضع اسوء من وضع الانسان القديم الذى رغم انه كان ايضا يستسهل اراقة الدماء الا انه كان لا يجد اى متعة فى اراقتها بل هى كانت فقط ضرورة البقاء. اذن نتائج العلم و العقل المتوفرة بين يدى الانسان المعاصر لم تدفع هذا الاخير الى البحث عن المصلحة و فعل الخير بل على العكس جعلت الانسان المعاصر يفعل شرا اسوء من شر الانسان القديم.  

يقدم ايضا رجل القبو  كمثال هادم لهذه النظرية كل هؤلاء الملايين من البشر الذين مروا عبر آلاف السنوات من تاريخ الانسان الذين اختاروا بوعى تام -اى عن فهم تام بالمصلحة- ومن دون اى جبر او قهر من اى احد طريقا يذهب عكس طريق المصلحة. فاختاروا مثلا ان يقتلوا فى سبيل عبثيات كثيرة لا تعد و لا تحصى.

ثم يتسائل بعد ذلك عن ماهية المصلحة و هل يمكن تحديد مصلحة الانسان بشكل يقع عليه الاجماع. بل ان مصلحة الانسان فى بعض الاحيان قد تكمن فى الضرر و ليس فى النفع.

ثم هل يمكن تحديد مصالح الانسان بيقين تام. نحن نعرف مثلا ان الثروة و السلام و الحرية و الرفاهية هى كلها من مظاهر المصلحة. لكن هناك مصلحة لا يمكن للعلم و الرياضيات ان تأخذها بعين الاعتبار وهى المصلحة الاصلح -اى الاكثر صلاحا- من غيرها و هى المصلحة الاهم و الاغلى بالنسبة للانسان.

قبل ان يصرح رجل القبو عن هذه المصلحة الاصلح  فانه  يبدأ بمثال للتوضيح فيذكر انه كان له صديق يشرح لهم دائما لماذا هو على وشك القيام بشيء ما بحجج واضحة جلية   لكنه بسرعة مفاجأة -خلال ربع ساعة او اقل- فان هذا الصديق يستدير و يفعل شيئا معكاسا و بالتالى غير-منطقى وهذا من دون اى تأثيرات خارجية عليه و لكن فقط لسبب تأثير داخلى يشعر به فى نفسه لا يستطيع مقاومته هو اقوى من جميع مصالحه. 

يعلن بعد هذا رجل القبو ان هناك شيء اعز على الانسان من مجموع جميع تلك المصالح التى تهتم بها النظرية الدينية-الفلسفية-العلمية و التى يحددها العقل و العلم. 

هذا الشيء هو المصلحة الاصلح اى الاكثر صلاحا -و هذا مصطلح قد يكون غير-منطقى فى حد ذاته- و الانسان قد يكون  مستعدا للعمل عكس كل المصالح الاخرى من اجل تحقيق هذا الشيء.

يقول رجل القبو مخاطبا لقراءه: 

الحقيقة هى, ايها السادة, انه يبدو انه يوجد شيء اغلى لدى  كل انسان تقريبا من اعظم مصالحه. وحتى لا نصبح غير-منطقيين فان هناك مصلحة اكثر صلاحا من غيرها -المصلحة التى تم اهمالها و التى تحدثنا عنها للتو - التى هى اهم و اكثر صلاحا من كل المصالح الاخرى و التى من اجلها سوف يكون الانسان مستعدا اذا لزم الامر للتصرف بشكل يتعارض مع جميع القوانين اى بشكل يتعارض مع العقل و الشرف و السلام و الرفاهية اى بشكل يتعارض مع كل تلك الاشياء الممتازة و المفيدة و هذا اذا كان بامكانه فقط تحقيق تلك المصلحة الاساسية الاكثر صلاحا و الاعز على نفسه من غيرها من المصالح. اه.

هذه الشيء الاعز على الانسان من كل مصلحة اخرى هو (حرية الاختيار).

فما يحتاجه الانسان حقا هو حرية اختيار اى طريق يرغب به و يريده مهما كان هذا الطريق متعارضا مع العقل و العلم و المصلحة و الخير. 

و هذا (الاختيار المستقل) هو دائما اكثر فائدة -اى انه اكثر صلاحا- من اى  (اختيار عقلى-مصلحى) آخر حكم فيه العقل بضرورة اختياره  فقط انطلاقا من ضرورة المصلحة. 

اذن الاختيار المستقل  الحقيقى هو المصلحة الاصلح للانسان و هو ما يريده  فعلا الانسان و ليس اختيار المصلحة و الخير.

ومن هنا من هذا الاختيار المستقل الحقيقى قد ينبع الفساد و الشر. 

بل ان الانسان قد يكون الاصلح له ضرورة اختيار المفسدة. وهذا قد يكون تفسير قصة عصيان آدم عليه السلام أمام الامر الالهى بعدم الأكل من الشجرة. 

اذن الانسان لسبب حريته الحقيقية -وهى اعز ما يملك- قد يفعل الفساد و الشر لانه يستطيع ان يفعله (وهذا هى خطيئة آدم) و قد يفعل الفساد و الشر نكاية و غضبا و حقدا و ليس لسبب آخر (وهذه هى خطيئة ابليس).

بالفعل هذا قد يكون هو تفسير قصة عصيان ابليس امام الامر الالهى بالسجود لآدم و قد تناول هذه المعضلة فى التراث الاسلامى الصوفية و اذكر هنا بالخصوص  الحلاج فى كتابه الطواسين  الذى هو من اغرب الكتب التى كتبت فى الاسلام.

اذن العقل لم ينجح فى تحديده لمصلحة الانسان الحقيقية بالخير و السعادة.  فالانسان هو اكثر من العقل بسبب (حرية الاختيار المستقلة) التى تدفعها رغبة الانسان فى التسامى على الطبيعة و الكون. 

وهذه (الحرية) هى حرة  (حرية منظوريانية) لا يمكن للعقل و العلم التحكم فيها و تسيير دفتها. بل ان هذه (الحرية) قد تختار الفساد و الضرر و الشرر نكاية من اجل فرض ذاتها لا لشيء آخر.

اذن العلم لن يغير فى طبيعة الانسان لان كل ما يريده الانسان هو (حرية اختيار مستقلة) حتى لو كانت ثمن تلك الحرية هو سعادة الانسان نفسه وهذا احد آراء  دوستويفسكى الاخرى التى تنص  على ان الحرية و السعادة متناقضان.


وهذا تنظير ميتافيزقى-نفسى-وجودى عميق للعلاقة بين حرية الانسان و ضرورة الفساد و الشر يشبه التنظير العميق السابق للعلاقة بين وعى الانسان و ضرورة العذاب و الألم و كلا الامرين محورى فى تحديد ماهية وجود الانسان.

8 وجود الشر ضرورى حتى يكتمل وجود الانسان

لكن العلم ينص على ان الاسباب الكونية هى تأثيرات حتمية و هذا يترتب عليه ان الانسان ليس حر بل هو مجبور.

اذن لا توجد حرية اختيار مستقلة كما يحلم بها دوستويفسكى على لسان رجل القبو وهذه هى المفسدة الافسد اى الاكثر فسادا.

الانسان هو جزء من الطبيعة و هو اذن يجب ان يخضع الى قوانين طبيعية سوف  يتمكن الانسان من اكتشافها يوما ما.  

اذن سيكتشف  الانسان فى المستقبل قوانين الوعى و قوانين حرية الارادة و يصبح وجود الانسان  معطى بقانون رياضى مضبوط.

اذن كل افكار  (العقل) و اختيارات (حرية الارادة)  الانسان سوف يتم حسابهم انطلاقا من تلك القوانين الرياضية لحرية الارادة و سيتمكن الانسان من تدوين كل ذلك فى جدوال -تشبه جدوال اللوغاريتمات- .

اذن سوف نتمكن من حساب  حياة  الانسان  بدقة و يصبح اختيار الانسان محدد بجدوال رياضية و هكذا ينهار مفهوم و محتوى الاختيار بالكامل لان مفهوم و محتوى الرغبة سوف ينعدم فى هذه الجداول. 

اى ان حياة الانسان تصبح عملية ميكانيكية محضة اذا تم اختزالها الى عملية حسابية الغوريتمية. 

بالفعل فانه تحت هذه الشروط اذا تعارضت رغبة  الانسان مع العقل فان الانسان سوف يكون مجبر على  اتباع العقل و ترك الرغبة (فهذه هى المصلحة) و يصبح هكذا الانسان عاجز عن الشعور بأى رغبة و ينهار مع ذلك محتوى  الاختيار الحر.

يرفض رجل القبو هذه النتيجة الفظيعة بل ان هذه النتيجة الفظيعة  هى سبب عداءه العلمى-العقلى للعلم-و-العقل فهما بالنسبة اليه مثل (المسيح الدجال).

فكما ان المسيح الدجال يعتمد دجله على العلم و ليس على السحر و المعجزات -ولهذا فهو مسيح دجال- فكذلك العلم الحديث (وبالخصوص نظرية التطور) فهو مسيح دجال بمعنى انه يعتمد على حق كثير  لكنه قد يؤدى الى باطل اكثر. 

اذن يرفض رجل القبو  فكرة ان حياة الانسان يمكن اختزالها فى جداول رياضية لان قانون حرية الارادة حتى لو كان ممكنا فهو لن يؤدى الى الغاء رغبة الانسان. فالانسان سوف يتصرف نكاية عكس هذا القانون وهذه الجدوال وهذا فقط من اجل ان يبرهن لنفسه انه انسان و ليس مفتاح-بيانو.

فالانسان يحتاج الى العقل الا انه يحتاج اكثر الى الاختيار الحر المستقل و هذا الاخير يحتاج الى الرغبة حتى يتم تشكيل الوعى-الذاتى  المؤسس للهوية و الشخصية بالشكل السوى. فالعقل هو انعكاس للجانب المنطقى للانسان اما حرية الارادة فهى انعكاس للوعى و الحياة و الوجود.

فالحياة -كما يقول رجل القبو- هى فى اغلب الاحيان بدون ادنى قيمة الا انها تبقى حياة و ليست حساب جذور تربيعية. و الانسان يفضل الجنون على ان يكون عاقلا مجبرا يمكن حساب اختياراته مسبقا عبر معادلة رياضية مضبوطة نضع نتائجها فى جدوال تشبه جدوال اللوغاريتمات.

اذن اهم شيء فى الحياة هو القدرة على الاختيار الحر المستقل حتى لو كان ذلك الاختيار يذهب عكس  العقل و المنطق و المصلحة فهذا الاختيار الحر هو المصلحة الاصلح -حسب هذا الانسان- و هو ما يريده فعلا الانسان حتى يتمكن من الوصول الى اختيار او عدم اختيار رغباته بشكل حر مستقل.

واذا كان الانسان يقبل ان يكون مجنونا -فيتخلص بالكامل من العقل- من اجل تحقيق هذه الغاية فهو مستعد ان يكون شريرا -فيتخلص بالكامل من الخير- من اجل تحقيق هذه الغاية.

اذن من هنا سوف ينبعث الشر. 

لكن على العقل ألا ييأس و عليه ان يستمر فى محاولة التأثير على حرية الارادة و على تحديد رغبة الانسان حتى يتم تحييد الشر وهو عمل ينجح فيه العقل مرة و يفشل مرات كثيرة اخرى.

لكن على ما يبدو فان الغالب  فى اغلب الاحيان هو حرية الارادة التى تميل الى جانب رغبة الانسان و ليس الى جانب العقل رغم انها كانت يمكن ان تختار ان تميل الى العقل لكنها لم تفعل. وهكذا ينبعث الشر. ولهذا فان الانسان هو الكائن الجاحد -كما يسميه دوستويفسكى على لسان رجل القبو- لانه جحد العقل بحرية ارادته وهذا الجحود ادى الى الانحراف الاخلاقى الذى يعرفه الانسان منذ عهد هبوط  آدم عليه السلام الى الارض.

اذن فى المحصلة فان حرية الارادة  هى اعلى و اقوى و اهم للانسان  من العقل و كذلك نرى ان وجود الشر على ما يبدو ضرورى حتى يكتمل وجود الانسان على الارض. فمصلحة الانسان الحقيقية -حسب الانسان- تكمن فى حرية اختيار مستقلة و ليس فى العقل و المصلحة و الخير -كما يريد ان يقول العلم و الفلسفة-.

9  قانون الانسانية: الخلق-و-الفوضى و المعاناة هى اصل الوعى

اذن الجميع يريد اصلاح الانسان حسب مقررات العلم و العقل و الاخلاق. وهذا هو ما يعترض عليه و يواصل الاعتراض عليه و ببلاغة وعمق دوستويفسكى على لسان رجل القبو.

فمثلا هل هذا الاصلاح العقلى-العلمى للانسان الذى يسعى نحوه الكثير من الفلاسفة و غيرهم ممكن  و اذا كان ممكنا فهل هو شيء نرغب به فعلا. ثم لماذا نعتقد ان من ميول الانسان تحتاج بالاساس الى اصلاح و من اين نعرف ان هذا الاصلاح سيكون نافعا للانسان.

الخلاصة حسب رجل القبو ان هناك قانون المنطق و هناك قانون الانسانية وهما ليسا نفس الشيء. 

اما الانسان فحتى يحقق وجوده فانه يجب عليه ان يتبع قانون الانسانية عكس مجتمع النمل الذى يتبع قانون المنطق.

وقانون الانسانية يعنى الجمع بين الابداع و الفوضى كما انه يعنى الجمع بين الخير و الشر.

لو تأملنا قليلا لوجدنا ان اهم ما يميز الانسان هو الابداع و الخلق و التشييد فالانسان هو بامتياز (حيوان خلاق).  لكن الانسان هو ايضا كائن يعشق الدمار و الفوضى و لدينا  تاريخ الانسان دليل على ذلك.  اذن الانسان هو ايضا و بامتياز (حيوان فوضوى). قانون الانسانية هو اذن قانون هذا الحيوان الخلاق-الفوضوى.

فمن جهة نرى ان الانسان بالفعل يبنى و يشيد طرق جديدة  بشكل مستمر. لكنه يعلم ان اى طريق سوف يؤدى الى مكان ما وهذا هو بالضبط ما يُرعب الانسان لانه يعلم ان التشييد و الغاية ليسا ابدا بنفس القدر من الاهمية. فالتشييد و البناء و الخلق و الابداع هى الحياة اما الغاية أو النهاية فهى تخضع الى قانون رياضى مضبوط و الوصول الى الغاية هى بداية الموت.

اذن الانسان  لا يريد الانتهاء من التشييد و لا يريد  الوصول الى نهاية الطريق فتجده اذن ينحى نحو الدمار و الفوضى حتى يبقى فى الطريق. 

بعبارة اخرى فان الحياة بالنسبة للانسان هى مثل  اللعبة و الانسان -عكس النمل- مهتم بتفاصيل تلك اللعبة و لا تهمه نهايتها. 

اذن الانسان  لا يهمه الوصول الى الهدف و الغاية و لا يهمه  انهاء التشييد لانه لا يهمه  تكملة البناء و لا يسعى الى العيش فيه بل كل ما يسعى اليه هو البقاء فى الطريق و التشييد ولهذا فتجده اذن فى صراع مستمر بين طبيعته الخلاقة التى تبنى و طبيعته الفوضوية التى تدمر حتى يواصل البناء.

هذا السعى نحو البقاء فى الطريق و مواصلة التشييد و السعى نحو الابداع و الخلق هو الحياة وهذا هو ما يريده الانسان. اما النهاية (نهاية الطريق و بلوغ الغاية و تكملة البناء و العيش فيه) فذلك شيء يمكن التعبير عنه بعلاقة رياضية مثل 2+2 =4 و هذا اليقين الحسابى ليس هو الحياة بل هو بداية الموت و لهذا فهو لا يدخل اطلاقا فى اهتمامات الانسان.

ان كل هذا السعى من الانسان نحو اليقين الرياضى فى العلم و العقل هو  كله ناجم  فى الحقيقة من كون الانسان يعشق السعى و ليس لان الانسان يريد فعلا الوصول الى ذلك اليقين الرياضى. هذا امر يجزع منه الانسان جدا و يفزع منه كثيرا لانه يعرف انه اذا تم ادراك اليقين الرياضى لم يبق عندئذ شيء للانسان. اليقين الرياضى شيء لا يحتمل فهو يعنى انتهاء الحياة و بداية الموت.

الحياة هى السعى على الطريق و ليس ادراك نهاية الطريق.

الانسان يحتاج اذن الى الخير و السعادة و الصلاح من جهة و الى الشر و المعاناة و الفساد من الجهة الاخرى.

الانسان فى كثير من الاحيان يعشق و بعمق المعاناة و الألم. فالانسان يحتاج الى الدمار و الى الفوضى حتى يكتمل وجوده.

الانسان حسب دوستويفسكى و رجل القبو لن يتخلى ابدا عن المعاناة و الالم و العذاب اى انه لن يتخلى ابدا عن الدمار و الفوضى. فالمعاناة هى الاصل الوحيد للوعى. و رغم ان الوعى هو  ليس الا سوء حظ طبيعى -بل هو اكبر سوء حظ طبيعى وقع للانسان- الا ان الانسان لن يتخلى عنه حتى لو خُير فى ذلك او هكذا يعتقد كل من  دوستويفسكى و رجل القبو.

فالوعى هو اكبر بمالانهاية من اليقين الرياضى و 2+2=4.


10 المعاناة غير موجودة فى الجنة اذن الوعى غير موجود فى الجنة

اذن فى الجنة او ما يسميها رجل القبو (قصر البلور) فان المعاناة غير موجودة بل هى غير ممكنة لان المعاناة تعنى الشك و النفى و الشك و النفى هما ناقضان لمحتويات اللذة و السعادة  و النعمة.

واذا كانت المعاناة غير موجودة فان الوعى -على الاقل بالشكل الذى نعرفه و نختبره على الارض- لا يمكن ان يكون موجودا.

اكثر من هذا فان الانسان فى (قصر البلور) لا يمكن ان يختار و يفعل الدمار و الفوضى لان (قصر البلور) لا يقبل التدمير بالتعريف.

اذن فى (قصر البلور) يفقد الانسان حرية الاختيار المستقلة و هذا ما يرفضه رجل القبو.

يقول رجل القبو انه يرفض (قصر البلور) لانه لا يستطيع مثلا ان يُخرج لسانه لو اراد ذلك وهو يفضل ان يُقطع لسانه على ان يفقد الرغبة فى اخراج لسانه.

ثم يتسائل تساؤل عميق آخر فيقول:

"هل يمكن ان اكون قد خلقت فقط من اجل التوصل الى نتيجة مفادها ان كل خلقى هو غش? هل يمكن ان تكون هذه هى الغاية من خلقى?. لا يمكن ان اصدق ذلك." اه

11 الكتابة من اجل النسيان

يختم رجل القبو تحليله المذهل على نفس المنوال المذهل فيقول:

"باختصار, ايها السادة, من الافضل ألا تفعل شيئا. 

الافضل هو العطالة الواعية. 

و يامرحبا بالعيش فى القبو.

أنا أحسد الرجل العادى حتى آخر قطرة من المرارة.

ومع هذا لا اهتم ابدا ان اكون فى مكانه على حالته التى هو عليها (الا اننى لن اتوقف ايضا عن حسده).

كلا كلا فان الحياة فى القبو هى الاصلح. على الاقل هنا يمكننا..

لكن اننى اكذب حتى الآن.

اننى اكذب لاننى اعرف ان القبو ليس هو الافضل, بل  الافضل هو شيء آخر, مختلف جدا, اتعطش اليه لكننى لا اجده.

اللعنة على القبو.

لكن اقسم لكم, ايها السادة, انه لا يوجد شيء واحد, و لا كلمة واحدة مما كتبته, اؤمن به حقا. 

او ربما اؤمن لكن فى نفس الوقت اشعر و كأننى اكذب.

كل شخص لديه ذكريات لا يحكيها لأحد بل لاصدقائه فقط. و بعض ذكرياته لا يحكيها الا لنفسه. 

لكن هناك ايضا اشياء اخرى يخشى المرء ان يحكيها حتى لنفسه. 

وكل شخص محترم يخزن عدد من هذه الاشياء فى ذهنه. و كلما زاد عدد هذه الاشياء كلما زاد احترامه.

أنا اكتب فقط لنفسى. و اود ان اعلن مرة واحدة و الى الابد اننى اكتب كما لو كنت اخاطب قراء فقط لان هذا هو الاسلوب الاسهل بالنسبة لى.

لن يكون لدى ابدا قراء.

رغم هذا فان هناك علم نفس كامل فى كل هذا.

قد تكون هناك راحة و حرية فى الكتابة.

اليوم مثلا أنا مضطهد بشكل خاص من ذكرى واحدة من الماضى البعيد.

لقد رجعت الى ذهنى بوضوح قبل ايام قليلة و ظلت تطاردنى مثل نغم مزعج لا يمكن التخلص منه.

ومع ذلك يجب ان اتخلص منه بطريقة ما.

و لسبب ما اعتقد ان بكتابة هذه الذكرى سوف أتخلص منها. اذن لماذا لا احاول.

بالاضافة الى كل هذا فاننى اشعر بالملل و ليس لدى اى شيء افعله. الكتابة هى نوع من العمل. ويقولون ان العمل يجعل الانسان  عطوفا صادقا.

حسنا هذه فرصة بالنسبة لى على أى حال." اه

Comments

Popular posts from this blog

نظرات وجودية-ايمانية 2

نظرات وجودية-ايمانية 3