نظرات وجودية-ايمانية 2

خلاصة:
و من اعظم الاعمال الادبية-الفلسفية سوف نذكر رواية دويستوفسكى (رسائل من القبو) او (رسائل من تحت الارض) لكن اعظم منها سوف نذكر ايضا الرواية الادبية-الفلسفية (المسيح الاخير) لفيلسوف نرويجى مغمور يسمى بيتر ويسل وافى. اذكركم اولا ان كل هذه الاعمال هى نوع من ادب الخيال الفلسفى الصعب فى اعمق و اعقد صوره.
الفكرة الاساسية فى (المسيح الاخير) هى نفسها الفكرة الاساسية فى (رسائل من القبو) و تتلخص فى ان الوعى هو ليس الا تطور خاطئ للحياة على الارض و فى الكون ما كان يجب ان يكون لولا الصدفة. وهذا الوعى ادى الى حالة انسانية تتميز اساسا بما سماه زافى (الهلع الكونى).
لكن زافى يقدم ايضا تشخيصا عجيبا لكيفية تعايش الانسان مع هذا الخطأ عبر ميكانيزمات اربعة طورها اللاوعى حتى يقمع الوعى. لكن الانغست الوجودى رغم كل هذه الميكانيزمات سوف يستمر حتى نصل الى الحل الاخير لهذا الخطأ وهو تطور الانسان ليس نحو (الانسان الكامل) كما يرى نيتشة بل نحو ما سماه زافى (المسيح الاخير) وهو نقيض (الانسان الكامل). بل ان فكرة (المسيح الاخير) عند زافى هى نظير فكرة (رجل القبو) عند دويستوفسكى. و اننى ارى ان المسيح الاخير و رجل القبو يشكلان معا ثنائية تعبران عن الانسان خلال جميع مراحل تطوره.
هذه الفكرة (الوعى خطأ كونى) هى بالنسبة لى مقدمة اولى فقط فى استنتاج منطقى. اما المقدمة الثانية فهى ان (الوحى تصحيح لهذا الخطأ الكونى). هنا سأبين ان الوحى يمكن فهمه على انه (الوعى المتجدد) على منوال فكرة (الكون المتجدد) للغزالى.
اذن الوعى هو الذى يحتاج الى التجدد فى كل آن و ليس الكون الذى هو كينونة صامدة ينجم صموده عن صمود الله سبحانه و تعالى. فالكون لا يحتاج الى التجدد خاصة اذا تذكرنا كل هذا الشر الذى يحتويه اما الوعى فهو يحتاج الى التجدد لانه هو الذى تسبب فى وجود ذلك الشر.

ايضا هنا سنناقش بتفصيل اكثر الثنائية القرآنية-المحمدية و معضلة الاعجاز الوجودى فى القرآن الكريم و كذا النظرية الوجودية-الايمانية  التى نرنوا اليها و افكار ابن عربى و بالخصوص عالم الخيال و نظرية كل عين الميتافيزيقية التى هى تعميم لنظرية كل شيء الفيزيائية.
 ايضا هنا سنناقش رأينا السابق فى معضلة حرية الارادة قبل توصلنا الى بلورة حل نهائى باستخدام منظوريانية  نيتشة و مبدأ التكامل الكمومى و مبدأ التكافؤ و السقوط الحر من نسبية اينشتاين.

المحتويات

مقدمة

كلام الخيال الفلسفى الصعب

الخلاصة الوجودية

الخلاصة الوجودية -قصة العلم حول أول نبى-

هناك صراع ابدى بين الزمن و الموت

مراتب الوعى و الوعى الطبيعى

الوعى و ادراكاته الميتافيزيقية (الموت, الشر, الحرية, الزمن و العبث)

الوعى خطأ كونى

الشر هو موت الغيب

 نحو حل معضلة الشر – لا يوجد تناظر بين الخير و الشر

الانسان الكامل الذى يطلب من الله اعدام الوجود

الوعى خطأ و الوعى وهو وعى متجدد

الوحى هو تصحيح لخطأ الوعى

المسيح الاخير و الهلع الكونى و قمع الوعى

حول وجودية الموت و ليس عدميته

اعظم قصة فى الفلسفة و العلم و الادب و الفن

الكائن الملعون

فرانك تيبلر و النقطة اوميغا

بين نيتشة و فرانك تيبلر

علم النهاية او فلسفة الموت هى نظرية كل عين اما علم البداية او فلسفة الحياة فهى نظرية كل شيء

نوح عليه السلام الوجودى

وهل هناك فرق بين نوح و محمد عليهما السلام

عالم الخيال عند كوربان

التراكب الكمومى الخطى يعيش فى عالم الخيال

سطح الوعى-و-الخيال

عالم الخيال: المهلوس و المجنون و النبى و المؤمن

عالم الخيال: اعقد مصطلح فلسفى و الجواب على انطومينيات كانط (النقطة اوميغا الثانية, فرضية بولتزمان-شوتز, الحرية المنظوريانية ادق من الحرية التواؤمية)

الاعجاز البلاغى للقرآن الكريم

اعجاز القرآن الكريم مرة اخرى

تفكيك دليل الاعجاز

النبى ساحر و القرآن سحر

بين اعجاز القرآن للبلغاء و اعجاز نظرية كل شيء للفيزيائيين

مقارنة بين النبى و العبقرى

النبى هو الدليل على الاعجاز و ليس الاعجاز هو الدليل على النبى

الاعجاز القرآنى -حوصلة

الظاهرة  المحمدية و الظاهرى القرآنية

فلسفة الكلام: الاعجاز الفلسفى فى القرآن الكريم

الثنائية المحمدية/القرآنية

وجهة نظرى فى الوجودية

الوعيوية

انطومينيات كانط و فلسفة الكلام وجها لوجه

الفرضيات الاربعة

الحقيقة الوجودية (تحديث للفكرة)

بين الصوفية و الدهرية

التعدد الفكرى

الفرق بين الكلام و الوجودية

فلسفة اسلامية-وجودية-علمية

الخلاصة المنهجية

ابن عربى: الله هو الوجود و هو الموجود اما الخلق فهو خيال وهو موجود

ماهى المواقف من ابن عربى

وحدة الوجود بين ابن عربى و ابن تيمية

الايمان الوجودى مرة اخرى

سؤال مهم جدا و جواب مقتصب حول وحدة الوجود او علم الحقيقة او نظرية كل عين

بين التصوف و التسلف و بين ابن عربى و ابن تيمية

الرازى المؤمن و الرازى الدهرى

التوقادى حول الجبر و وحدة الوجود و رأيى فى رأيه

ولذلك كثر المؤمنون و قل العارفون: ابن عربى

ابن سينا و الغزالى و ابن عربى و ابن تيمية

نظرية كل عين

الحب الفكرى الاول: الغزالى المنقذ من الضلال

ابراهيم عليه السلام و الطريقة العلمية

من الاقوى الايمان ام الحقيقة

طريق (غشيهم موج كالظلل) نحو الايمان

وأين هم أنبياء الامازيغ و أين هو ابراهيم عليه السلام فى الآثار و التاريخ و الجغرافيا

الروحانية غريزة بيولوجية اما التدين فثقافة اجتماعية

بين الماضى (الذاكرة) و المستقبل (الحرية)

قط شرودينغر و الثالث المرفوع: المنطق الكمومى

زينون مرة اخرى

قصة كانتور مع المالانهاية

ليبنيز و ابن عربى فى منشور واحد مع المالانهاية و الجبر

علاقة فلسفة الفيزياء بانطومينيات كانط

بين العلم و الفيزياء و فلسفة الفيزياء و الفلسفة

الانسان عمره 14 مليار سنة

فرضية المحاكاة فى فيلم (الطابق الثالث عشر)

الظلمة توليفة عجيبة غريبة لنسبية اينشتاين و وجودية نيتشة

التكرار الابدى لنيتشة و عقيدة البدء و المعاد لابراهيم عليه السلام و نسبية اينشتاين

(البربر) لغويا و جينيا هم اصل (العرب) و ليس العكس و ابراهيم عليه السلام (الميتافيزيقى) ليس  هو ابراهيم الاسرائيليات

ماهى الشخصية الفردية

يحيرنى اصحاب الايمان

دانيال دنات: لا يوجد وعى

مقدمة

مقدمة هذه هى المسودة الثانية من كتابى (الوجودية و الايمان) الذى اهدف فيه الى عرض كل آرائى الميتافيزقية بطريقة متناسقة و نهائية. 

الميتافيزيقا كما افهمها و كما تهمنى هى فضاء ب 11 بعد هى كما يلى: 

-اولا معضلة الوعى. 

ثانيا معضلة الوجود. 

 ثالثا معضلة الحرية. 

-رابعا معضلة العبث. 

-خامسا معضلة الشر. 

-سادسا معضلة المبدأ. 

 - سابعا معضلة الموت. 

 -ثامنا معضلة الدين الابراهيمى. 

 -تاسعا معضلة النبى و الوحى. 

 -عاشرا معضلة الايمان. 

-حادى عشر معضلة الزمن و الواقع. 

الوجودية كما اقترحها فى هذه المسودة الثانية هى محاولة حل جميع هذه المعضلات فى نظرية ميتافيزيقية واحدة تخضع لمسلمات الاسلام الاساسية و للموضوعية العلمية-التحليلية كما تعلمناها من الفيزياء النظرية. لذا فانكم قد تجدون العرض فى هذا الكتاب غريبا بالمقارنة مع جميع انواع الكلام و الفلسفة الوجودية المتعارف عليها. بكل بساطة لست متقيدا بأى مدرسة و اتقيد فقط بالحق و الحقيقة و هو صريح العقل و متواتر الشرع و يقين العلم. الهدف من هذا الكتاب هو فى الحقيقة غلق باب الميتافيزيقا (على الاقل بالنسبة لى) وهذا كما نقوم بغلق (المشاريع البحثية) فى الفيزياء بعد ان نصل فيها نهايتها او الى طريق مسدود. اذن هى المنهجية العلمية التى تحتم علينا هذا الامر اى محاولة تلخيص كل ما قلناها فى موضوع معين رغم ان اهتمامنا بذلك الموضوع لم يعد بنفس القوة كما كان فى السابق. اذن المنهجية العلمية الهادئة تبقى افضل من الكسر العنيف لذلك الباب الميتافيزيقى خاصة مع كل تلك الجهود المضنية التى بذلناها فى السنوات الماضية. وقد توصلنا الى فهم اشياء كثيرة كانت بعيدة تماما عن الفهم. مثلا معضلتى الوجود و الحرية و النبى تم فهمها بشكل أصلى أصيل. تبقى معضلة المبدأ و معضلة الشر و معضلة العبث و معضلة الدين الابراهيمى مستعصية الى حد كبير. اما معضلة الوعى و معضلة الايمان قهما قد حلتا جزئيا وهناك امل كبير فى حلهما بشكل نهائى. اما معضلة الزمن و الواقع فهما الاساس الفيزيائى لكل الاشياء السابقة و هما فى حد ذاتها غير مقلقتان. 



 كلام الخيال الفلسفى الصعب

لنذكر ان (أدب) (الخيال العلمى science fiction) هو الادب الذى يعنى بما يمكن ان يحدث فى المستقبل اعتمادا على نتائج العلم. 

و (أدب) (الخيال العلمى الصعب hard science fiction) هو الذى يعنى (بما يمكن ان يحدث فى المستقبل اعتمادا على نتائج العلم لكن مع اقصى تقيد و انضباط ممكنين مع نتائج العلم) و لهذا يسمى (صعب hard) و بسبب هذه (الصعوبة) فان احتمال ان يصبح هذا الخيال العلمى حقيقة واقعة هو احتمال معتبر جدا. و شخصيا اننى من عشاق هذا الادب وقد تعلمت منه الكثير. وهو أدب معدوم عندنا فى اللغة العربية بسبب انعدام المعرفة العلمية الحقيقية و لكن ايضا بسبب طغيان اللهجات العامية على الكتابة و بخاصة المصرية. 

اليوم اريد ان اقترح تصنيف جديد لنوع الكتابات (او التخريفات الميتافيزيقية) التى انشرها هنا و هناك على اليوتوب و الفايسبوك و البلوغر و اى مكان آخر تصله يدى او بالاحرى يصله قلمى. وقد ذكرت لكم من قبل ان هذا النوع من الكتابات الصادرة على هذه الصفحات هى ليست كتابات دينية و لا هى كتابات فلسفية و لا هى كتابات علمية و لا هى كتابات كلامية. 

انحت اذن لكم هنا مصطلح جديد ليصف هذا النوع من الكتابات فأقول هذا النوع من الكتابة هو (كلام) (الخيال الفلسفى الصعب hard philosophy fiction). 

اذن هذا النوع من الكتابة الذى اعتقد اننى سباق اليه ان شاء الله على الاقل فى اللغة العربية يعنى بما (يمكن ان يكون متحققا فعليا فى الواقع اعتمادا على نتائج الدين و الفلسفة و العلم لكن مع اقصى تقيد و انضباط ممكنين مع نتائج الدين و الفلسفة و العلم). ولهذا اصفه ب (الصعب) اى ان احتمالية ان يصف هذا الخيال الفلسفى الصعب الواقع الميتافيزيقى هو احتمال معتبر جدا. اما وصفه ب (الخيال الفلسفى) و ليس ب (الخيال العلمى) لان هذا الموضوع يهتم بالواقع (وليس فقط بالعالم المادى). اما وصفه ب (كلام) و ليس ب (أدب) لاننى بكل بساطة لست اديب و اى كتابة لى فى هذه المواضيع سوف تكون كلامية (وهنا اقصد الجزء الايجابى من الكلام. اى الجانب التحليلي). اذن اى كتابة سوف اخرجها فى هذا الموضوع سوف تكون كتابة كلامية ليست كتابة ادبية. اذن هذا هو الموضوع: (كلام) (الخيال الفلسفى الصعب) وهو يعنى بمحاولة رسم صورة للواقع الفلسفى انطلاقا من الدين و الفلسفة و العلم مع التقيد القصوى و بقدر المستطاع بنتائج الدين و الفلسفة و العلم. اذن (الخيال الفلسفى الصعب) ليس دين و لا هو فلسفة و لا هو علم بل هو شيء مختلف عنهم. مثلما ان (الخيال العلمى الصعب) ليس علم بل هو شيء مختلف عنه. وهو (كلام) و ليس (أدب) لان الكاتب كاتب كلامى و ليس كاتب أدبى.

 أهم التأثيرات على المواضيع التى اكتبها هى ثلاثة تأثيرات اساسية. -الفيزياء النظرية من الجهة العلمية. -ابن عربى من الجهة الايمانية. -نيتشة من الجهة الوجودية. وهذا هو كلام الخيال الفلسفى الصعب. وهو مصطلح جديد تماما و المحتوى جديد تماما فى اللغة العربية و هو نادر جدا ايضا حتى فى اللغة الانجليزية. وفكرة هذا المنشور هى اول مرة تطرح هنا و هدفها محاولة تحديد الاطار العام لطريقة الميتافيزيقا التى نشتغل عليها معكم هنا. 

 الخلاصة الوجودية -قصة أول نبى-

الروحانية أو التأله (لكن ليس التدين) هى جينة وراثية اى غريزة بيولوجية فى الانسان. اما التوحيد الابراهيمى فهو (مفردة نفسية) فى الوعى الانسانى تبلورت اول ما تبلورت فى وعى (ابراهيم عليه السلام). البعض يقول ان (الوحى او النبوة هى ظاهرة نابعة من وعى النبى و ليس من خارجه). ليس هناك اى اشكال فى هذا فان (الوعى النبوى) هو الطريق الوحيد نحو خارج العالم (ابن تيمية) او نحو لا داخل و لا خارج العالم (الغزالى). و مصطلح ابن تيمة اسهل على الفهم فى الذهنية و لو ان مصطلح الغزالى هو الادق. اذن (وحى النبى) الذى هو (داخل وعى النبى) ليس الا هو (المنفذ الى خارج العالم) وهذا ما نريده (مثلما ان الثقب الاسود او الثقب الدودى هو المنفذ من هذا الكون الى كون آخر). 

اذن (الوحى) هو مفردة او طفرة حدثت فى شخص واحد (او اشخاص معدودين) اولهم ابراهيم عليه السلام (وكما قلنا عدم الوجود فى الآثار لا يعنى عدم الوجدان فى التاريخ). هذه المفردة كانت ضرورية حتى يتم تصحيح (خطأ الوعى). والوعى خطأ لان الوعى (وعى-بالذات) يتطور معه (وعى-بالحرية) و الحرية تؤدى الى وجود الشر. وأبليس عصى و لم تعصى الملائكة و على رأسهم جبريل لان ابليس حر و الملائكة مجبولين. و آدم عصى و أكل من شجرة المعرفة (بل من شجرة الخلد) لان آدم حر. فكابر ابليس و اناب آدم. وهذه الثنائية الاولى ثنائية الحرية-و-الجبر او ثنائية الخير-و-الشر. 

اذن الخير هو من الله يوفق اليه و يخلقه فى المؤمن و الكافر اما الشر فهو من الشيطان و الانسان يخلقانه على الحقيقة و ليس على المجاز. 

و الشر نوعان شر الوعى لكن هناك ايضا شر الاسباب. فالمرض مثلا شر و هو يقتل الاطفال الابرياء لكنه جزء من عمل ساعة الاسباب الكونية و لان الاطفال ابرياء فان الله سوف يصحح خطأ الاسباب بادخال الاطفال الى الجنة. 

اما خطأ الوعى الذى ادى الى شر الانسان فان تصحيحه تم بالوحى و سيتم تصحيحه تصحيحا نهائيا بالموت و البعث و الحساب. لهذا خلق الله الموت كجزء من الاسباب فهو ثانى طريق -بعد الوحى- نحو تصحيح خطأ الوعى و شروره و ثالث الطريق هو البعث و رابع الطريق هو الحساب و خامس الطريق هو التلاشى-و-السلوان بالنسبة لجل المخلوقات (لان الحركات منتهية كما قالت المعتزلة او لان التخليد فى العذاب ليس من العدل كما قال ابن القيم و ابن عربى). اذن الوحى تصحيح للوعى. 

و الوحى هى مفردة (طفرة) نفسية مثلما ان الروحانية هى (غريزة) بيولوجية. ولهذا فان حى بن يقظان هو حى-يقظ جزئيا فقط (اى سيصل الى الروحانية لانها غريزة و هذا بسبب الموت الذى سيواجهه) لكنه ليس حى-يقظ مطلقيا (لانه لن يصل الى الله و التوحيد كما كان يعتقد ابن الطفيل الا اذا كان هذا الحى بن اليقظان هو نفسه ابراهيم عليه السلام). والانسان لو لم يعطى الوحى فانه سيصل حتميا و يقينيا الى العبثية. فهناك طريقان اثنان امام الانسان اما الوحى او العبثية. والعلم (كل العلم) هو فرع على الوحى ولهذا قد يقنع الكثير بالعلم فى مجابهة ضغط العبثية. وهذا يُجيبنا ايضا على سؤالنا القديم (من اين أتى ارسطو و افلاطون بالعلم). لكن يبقى (كمال الوعى) هو ادراك (نقص الوعى) عن طريق ادراك هذه (العبثية) الوجودية على حقيقتها و عدم تمام حلها الا بشيء خارجى عن هذا الوجود المادى المحسوس. فالوعى هو (وعى-بالذات) ثم (وعى-بالحرية) ثم (وعى-بالشر) ثم (وعى-بالموت) ثم (وعى-بالعبث) او (تصحيح-بالوحى). و الانسان فعلا حر كما قدمنا فى نموذجنا حول الحرية المنظوريانية التى هى حرية موضعية فى الوجود الواعى وهذا من منظور الوعى الساقط سقوطا حرا فى (متشعب الواقع). وهذا سميناه (مبدأ تكافؤ الوعى) وقد بنيناه بالمقارنة مع مبدأ تكافؤ النسبية العامة. و هذا حل نهائى لمعضلة الحرية. 

ثم تأتى المحطة الاخيرة فى مفردة الوحى وهو الثنائية المحمدية-القرآنية وهو وعى اعلى. فهناك فى هذه المحطة ظاهرتان متعاضدتان هما الظاهرة المحمدية و الظاهرة القرآنية. فمحمد هو الدليل على القرآن و دلائل النبوة هى من سيرة محمد صلى الله عليه و سلم الذى يجب اعادة كتابة سيرته مثلما اعاد تولستوى كتابة سيرة المسيح عليه السلام حى تتم ازالة جميع الشوائب الخرافية و الاسطورية المشوشة على الظاهرة المحمدية. والثنائية محمد-قرآن تعنى ايضا ان القرآن دليل على محمد لكن هذا اصعب فى التحليل لان اللغة العربية القرآنية و الميتافيزيقا المرافقة للنسق القرآنى اعلى من قدرات الاغلبية الساحقة من العرب قديما و حديثا. 

لكن الايمان يبقى عملية اجتماعية-نفسية (اى بيئية) بقدر ماهى عملية بيولوجية-وراثية. لهذا فان اغلب البشر لا يؤمنون (بالتوحيد الابراهيمى) رغم انهم روحانيون. و المؤمنون من الجهة الاخرى زادوا الطين بلة بأربعة صفات مُنفرة تميزهم (الخوف و الكره و القسوة و الحاكمية) تجعل الجميع تنفر نفسه عن الفكرة الابراهيمية وهذه قصة اخرى. 

 لكن لماذا خُلقنا. هنا نرجع الى العبث و العبثية. (فالكون فى ذاته عبثى) يقينا لكن (الله لم يخلقه فى عبث). وهذه ثنائية اخرى. و الثنائيات اساس فهم الانسان. فالانسان لا يستطيع ان يفهم الاشياء الا باضدادها. و لهذا فان الانسان لا يفهم الله لان الله لا ضد الله. ولهذا نشرح هنا (الوحى) على انه مضاد (العبث) و العكس حتى نقرب الفهم الى الوعى و الى الذهن. اذن لماذا خُلقنا. البعض يقول خُلقنا لعبادة الله و الله لا يحتاج الى عبادتنا. والبعض يقول للاستخلاف و الكون و الارض لا يحتاجان الى خلافتنا. الرأى الصحيح هو ان الخلق جميع الخلق هم وقود فقط. فالبشر هم وقود هذا الواقع و صيروراته المادية و الميتافيزقية. فان الله اراد على الحقيقة ان يخلق (الانسان الكامل) الذى نفسره ب (محمد صلى الله عليه و سلم) و هذا حتى تنعكس آثار صفاته و اسماءه فى خلقه سبحانه و تعالى و تكتمل بذلك الذات الالهية بجميع الاسماء و الصفات و الافعال السنية (وهذا رأى ابن عربى). لكن حتى يخلق الله سبحانه و تعالى هذا الانسان الكامل فانه يجب ان يخلقه بالتدريج عبر آدم و ابليس و ابراهيم و الوحى و كل هذه الصيرورة البشرية. 

اذن الله خلق (الانسان) حتى يخلق (الانسان الكامل). و ليس العكس. بل عكس هذه القضية هو جزء من الحقيقة فقط: خُلق (الانسان الكامل) لسبب اولى هو تصحيح (الانسان) وهذه قضيتنا الاولى رجعنا اليها: (الوحى) تصحيح ل (الوعى). لكن الحكمة الحقيقية وراء خلق (الانسان الكامل) هو (تحقيق الاسماء الالهية) فى العالم الخارجى. اذن نحن لسنا الا وقود بشرى نحو هذه الغاية الالهية. 

فلا يغترن احد منكم فى حقيقة مرتبة و قيمة الانسان فى هذا الكون. وهذا هو السبب لماذا لم يخلق الله الكون من او عن عبث. فهو سبحانه لم يخلقه عن عبث من منظوريانية الانسان الكامل الذى هو غاية الخلق لكنه بالنسبة لمنظوريانية الانسان فان الكون فعلا عبثى. وهذه قمة فلسفة ابن عربى-و-نيتشة كما افهمها. 

 الخلاصة الوجودية -قصة العلم حول أول نبى- 

(فرضية الخروج من افريقيا out of Africa hypothesis) هى ربما من أهم نتائج العلم الحديث وهى مؤكدة بالوراثيات و الانطروبولوجيا و باللغويات و بعلم الآثار وحتى بعلم الاساطير. 

نركز اليوم على علم الاساطير. 

والاسطورة (وبخاصة الاسطورة الوجودية التى هى اساس جميع الاساطير) هى ميكانيزم دفاعى من الانسان امام حتمية الموت و نهائيته الظاهرية فهى ليست شيئا يُمكن ان يُهمل من قبل اصحاب الفهم الدقيق. ونحن نستخدم مصطلح (الاسطورة) لانه مصطلح العلم اما رأينا فهو رأى منظوريانى.

 و الرأى المنظوريانى (مصطلح نيتشة) هو الرأى الموضوعى الذى يجمع فى ثنائية متعاضدة-و-متناغمة-و-متناسقة بين الرأى العلمى و الرأى الميتافيزيقى. 

اذن الانسان خرج من افريقيا منذ حوالى 65 الف سنة او اكثر و انقسمت بذلك البشرية الى الانسان الذى بقى فى افريقيا و الانسان الذى خرج من افريقيا. والانسان الذى بقى فى افريقيا هو انسان افريقيا ما تحت الصحراء الكبرى و يضم معه انسان استراليا. وهو انسان اقدم وراثيا و لغويا و حتى اسطوريا. و يسمى انسان الغوندوانا Gondwana. اما الانسان الذى خرج من افريقيا فهو بقية البشرية فى شمال افريقيا و الشرق الاوسط و الهند و الصين و اوروبا و بقية آسيا و كذا امريكا.و يسمى انسان اللوراسيا Laurasia. وتشكلت بذلك البشرية التى نعرفها اليوم من تلك الهجرة الأم (الخروج من افريقيا). 

واهم ما يميز الانسان اللوراسى الذى خرج من افريقيا هو اشتراكهم فى الاسطورة الوجودية و هى تتشكل من ثلاثة عناصر اساسية: -الخلق. -الطوفان. -البعث. 

هذه القصة الوجودية تتماهى مع حياة الانسان من مولد ثم موت ثم امل فى حياة بعد الموت. ويُعتقد ان كاتب هذه الاسطورة الاول هو رجل واحد  (شامان shaman) اى كاهن بل اول كاهن -اول نبى- عاش فى العصر الجليدى الاول حوالى 50 ألف سنة و قد اراد بهذه القصة الاجابة عن مخاوف الانسان الوجودية (من أين جئنا و لماذا جئنا و اين سنذهب). اذن هذه الاسطورة الوجودية التى تبدأ بالخلق و تنتهى بالبعث تشترك فيها جميع شعوب العالم (باستثناء الانسان الافريقى-الاسترالى القديم جدا). فمثلا جميع شعوب العالم تحتوى على قصة الطوفان من هند و صين و امريكا و بلاد الرافدين و مصر و اليونان و غيرهم. 

هذه القصة الوجودية للانسان اللوراسى (الذى خرج من افريقيا) تجد اصولها فى اسطورة انسان الغوندوانا (الذى بقى فى افريقيا). العلماء بطبيعة الحال يعتقدون ان هذا الشامان اللوراسى (اى الكاهن) الذى عاش منذ حوالى 50 الف سنة (ربما فى العراق لان الزمن بينه و بين الخروج من افريقيا ليس كبيرا حوالى 10 آلاف سنة او اقل) و الذى وضع هذه القصة الوجودية للانسان الذى خرج من افريقيا وضعها انطلاقا من طقوسهم و معتقداتهم القديمة التى ورثوها من الانسان الافريقى-الاسترالى مع اضافة تحويرات ابداعية-ادبية من عنده (فهو اول عمل ادبى حسب رايهم) تتمثل بالخصوص فى فكرتى الطوفان و البعث و الامل فى الحياة بعد الموت. 

يبقى عمل العلماء الغربيون (الذين ليس لديهم انبياء او بسبب انه ليس لديهم انبياء) فعلا جبار فى محاولاتهم الموضوعية و الممنهجة و المستميتة فى بناء صورة علمية متناسقة حول اصل الانسان. لا شك أبدا فى ذلك. 

لكن اضيف و اقول ان هذا الشامان الذى يتكلمون عنه هو نوح عليه السلام. قصة نوح عليه السلام (او هذا الشامان) وهى القصة الوجودية الاولى بامتياز هى قصة تتميز بثلاثة ميزات:

 -اولا هى قصة (او بالاحرى قصص) مثيرة جدا لاهتمام الوعى الانسانى سوف يتناولها الانسان بالحكاية و السرد و الرواية المتكررة عبر الاجيال. و لهذا تبناها الانسان الذى خرج من افريقا و هو الاغلبية الساحقة من البشر. 

-ثانيا هى قصة تتماهى فيها احداثها مع التجربة الانسانية (خلق و طوفان و بعث). فكأن الطوفان يمثل الموت هنا. 

-ثالثا هى قصة ميتافيزيقية تجيب عن الاسئلة الوجودية للانسان (من اين جئنا و لماذا جئنا و اين سنذهب). هذه القصة لاحظوا تحتوى على قصة آدم و ابليس (خلق الكون و الانسان) بالاضافة الى قصة نوح (الطوفان) ثم قصة البعث (وهو اكثر عناصر القصة ابداعا من الناحية الادبية البحتة).

 السؤال الآن هل فعلا هذا الشامان أتى بهذه القصة من عند نفسه و هو سؤال وجودى آخر قدمت له جواب (ولو جزئى) فى منشوراتى السابقة و بالخصوص المنشور الاخير (الوجودية و الايمان او الخلاصة الوجودية) الذى بحث فى القصة الوجودية من عند ابراهيم عليه السلام الى هذا الزمان. 

من الجهة الاخرى فان هذا المنشور الجديد يهتم كما لاحظتم بمحاولة كتابة خلاصة وجودية من وقت ابراهيم عليه السلام فى العراق منذ 5000 سنة الى لدن نوح عليه السلام (فى العراق ايضا) منذ 50 الف سنة. اى الذهاب ابعد فى الزمن. 

اؤكد مرة اخرى فان (الخلاصة الوجودية) هى ليست نظرية دينية و لا هى نظرية فلسفية و لا هى نظرية علمية بل هى نظرية خيال فلسفى صعب (تستمد من الجميع) لكنها تعتمد بالخصوص على التناسق الذاتى و على الفهم النظرى للفكرة.

 اذن (الخلاصة الوجودية) تهدف (من بين ما تهدف اليه) الى بناء قصة الآباء الأُول الاربعة بطريقة يفهمها غير-المسلم و يفهمها العلمى-الغربى و يفهمها الدهرى-الموضوعى (و الفهم ليس هو القبول). لان ماهو موجود فعلا فى الاسرائيليات و السلفيات هو غير مفهوم اصلا (ليس قضية انه غير مقبول من العلماء الطبيعيين مثلا بل هو حقيقة غير مفهوم لهم). 

و الآباء الاربعة كما تعرفون هم حسب ابن عربى:

 -محمد صلى الله عليه و سلم وهو الاب الاول (أب الارواح و العقول).

-آدم عليه السلام وهو الاب الثانى (أب الاجساد و النفوس). 

 -نوح عليه السلام وهو الاب الثالث (أب الرسل). 

 -ابراهيم عليه السلام وهو الاب الرابع (أب الاسلام).


هناك صراع أبدى بين الزمن و الموت

 الزمن يخلق الحاضر من المستقبل بشكل سببى و الموت يقتل الحاضر فى الماضى بشكل غائى. و حتى يُتذكر الماضى (والا فهو سيضيع) و يُختار المستقبل (والا فهو سيجبر) فان الزمن خلق الوعى فى الحاضر بذاكرة (متوجهة نحو الماضى) و بحرية (متوجهة نحو المستقبل). 

لكن الموت يقتل الوعى ايضا. فذهب الزمن و خلق وعى يخرج من طور الى طور. وعى بدأ من الغريزة النياندرثالية ثم تطور الى الوعى الهوموسابيانى ثم الى العقل الآدمى حتى وصلنا الى الوحى الابراهيمى. لكن الموت يقتل هذا الوعى التطورى ايضا. 

فخلق الزمن للوعى التطورى خيالا يمتد من الحاضر الى الماضى و الى المستقبل يستطيع ان يعيش فيه الوعى عبر جميع الأزمان فى آن معا (فى الحاضر و الماضى و المستقبل معا). هذا الوعى المخيال ذهب ايضا و تخيل حياة سعيدة بعد الموت بل ذهب و تخيل وجوده فى تلك الحياة الاخروية فقهر بذلك الموت. 

و لم يعجز الموت عن قتل هذا الوعى المخيال ايضا. لكن فكرة الحياة بعد الموت لم يستطع ان يقتلها الموت. 

اذن ليس هناك الا احد طريقين اما طريق الوحى وهو طريق الحياة بعد الموت (وهذه منظوريانية وجودية-نفسية) او طريق العبث وهو طريق الموت. ونهاية طريق العبث (ان يقتل الزمنُ الموتَ) ب (ان يقتل الزمنُ نفسَه) عبر موت الكون وهذا سيحدث يقينا. 

اما طريق الوحى فلا دليل عليه الا قضية ان (الوعى نفسه خطأ) ما كان يجب ان يكون فى عالم حتمى ميكانيكى. 

هذه قضية حاسمة (الوعى خطأ كونى) افكر فيها كما يلى. 

الله اوجد الكون و اودع فيه جميع الاسباب و تركه يعمل كالساعة. اذن الوعى هو نتاج تلك الاسباب الموضوعة فى الكون. لكن لدينا نحن ليس كونا واحدا بل عدد لانهائى من الاكوان و العوالم كما تنص على ذلك الكسمولوجويا و الميكانيك الكمومى. الاغلبية الساحقة (عدد لانهائى) فعلا من الاكوان لم تطور فيها اى وعى اذن الساعة عملت هناك بشكل سليم الا فى هذا الكون. هذا الكون بين الاكوان هو اذن مفردة ليس بسبب مفردة الانفجار الاكبر بل بسبب مفردة الوعى. و الوعى خطأ لانه ينتج الشر فهذا هو المحك. فالله لا يخلق الشر بل الذى يخلقه الوعى, ولهذا فهو خطأ وجب تصحيحه بمفردة الوحى.

هنا نقطة اخرى هى قضية المنظوريانية اذن هو خطأ من وجهة نظر الوعى نفسه و ليس من وجهة نظر الله. نحن لا نستطيع و لا نستطيع ان نعرف منظوريانية الله و حكمته مهما تقول علينا اهل الكلام و امثالهم. الذى نستطيع ان نجزم به هو منظوريانية الوعى نفسه (من معلم اسناد الراصد نفسه). فمشكلة الانسان الوجودية الاولى فى هذا الكون هى (وجوده مع نفسه), وهذه هى مشكلة (الوعى). والوعى يبدأ من الزمن, و الزمن بالنسبة للانسان يبدأ من الوعى, فالوعى هو (زمن الزمن) و الزمن هو (وعى الوعى). 

والوعى يعيش فى الحاضر-هذا هو اليقن الوحيد مع يقين الموت-, وعندما ينظر الوعى الى الماضى فانه يرى اربعة محطات تطورية للوعى هى حسب القرب منه (وعى محمد, وعى ابراهيم, وعى نوح و وعى آدم). اما عندما ينظر الوعى الى المستقبل فهو يرى اربعة محظات تطورية اخرى للوعى هى حسب القرب منه (وعى الموت, وعى البعث, وعى الحساب, و وعى الجزاء). 

فمحطة (محمد) نظيرتها محطة (الموت). أليس محمد صلى الله عليه و سلم هو الذى قال (بل الرفيق الاعلى). فهو اختار ما عند الله (الموت) عن علم يقينى حقيقى و ليس عن ظن او ضعف او يأس. 

و محطة (ابراهيم) نظيرتها محطة (البعث). أليس ابراهيم عليه السلام هو الذى قال (رب أرنى كيف تحيى الموتى...ليطمئن قلبى). فهو اراد يقين العلم الكونى و لم يكتفى بيقين الوحى الالهى. 

 و محطة (نوح) نظيرتها محطة (الحساب). ألم يكن طوفان نوح عليه السلام هو اول حساب لبنى البشر بل هو اول جزاء لبنى البشر و كان الجزاء تغريق للجميع فى الماء. و محطة (آدم) نظيرتها محطة (الجزاء) اى الخلود فى الجنة او النار. ألم يأكل آدم عليه السلام من (شجرة الخلد) استعجالا للخلود وهو كان خالدا فى الجنة. فكانت الخطيئة الاولى سببها الخوف من الموت. 

اذن البداية كانت فى الجنة و النهاية ستكون فى الجنة -او هذا هو الامل أمل الوعى- و كما سأبين اسفله فان (البداية) و (النهاية) هما نفس الشيء. 

 اذن الزمن (فى صيغة الوعى هنا) هو فى صراع ابدى مع الموت فى جميع محطات الوعى كما ذكرنا فى المنشور السابق لمن يصبر على قراءة منشوراتنا. 

اضيف و اقول اليوم ان الزمن دائرى و ليس خطى و ان محطة (آدم) هى نفسها محطة (الجزاء) اى ان البداية هى نفسها النهاية. اذن (الانسان الكامل) سيدخل الجنة خالدا فيها اما (الشيطان) فسيدخل النار خالدا فيها وهذا بعد محطات (آدم و نوح و ابراهيم و محمد) ثم محطات (الموت و البعث و الحساب و الجزاء). 

اما غيرهما من الانس و الجن فهم فى منزلة بين المنزلتين وهو ما أسميه شخصيا التلاشى و السلوان وهم فى الحقيقة اذن وقود وجودى لا غير (انظر منشوراتى السابقة ايضا). 

 و (الانسان الكامل) و (الشيطان) هما ثنائية وجودية لا يمكن لاحدهما ان يكتمل وجوده بدون وجود الآخر. وهما هنا جزء من وعى الانسان نفسه. ف (الانسان الكامل) يعبر عن الوعى-بالحرية اما (الشيطان) فيعبر عن (الوعى-بالشر). فالانسان يشعر من نفسه بالحرية وهو فعلا حر (فهذا هو الميل باتجاه الكمال) لكنه يخلق الشر على الحقيقة (وهذا هو الميل نحو الشيطنة). و (الانسان الكامل) و (الشيطان) هما على التوالى نهاية الانسان عندما يكتمل فيه (كمال الحرية و الحرية اجل من العقل) و نهاية الانسان عند بلوغه (تمام الشر و الشر نابع من الحرية. فمثلا جبريل عليه السلام لا يعصى ابدا لانه لا حرية له رغم كمال عقله). 

فالله (خلق الانسان على صورته) و الله (خير) ثم يأتى الانسان بحريته و يتشيطن بخلق الشر. اذن هذه الشيطنة تُريد ان تعيد خلق الانسان -عبر حرية الانسان نفسه- على غير صورته (وهذا هو عدم سجود الشيطان لآدم). 

سيعود اذن الوعى-بالحرية (اى الانسان الكامل فى الجنة رغم كماله و خلوده) وهذا تحت وطأة الوعى-بالشر (وهو ذهاب الحرية عكس الصورة التى ارادها الله) فيعصى أمر الله سبحانه و تعالى بعدم الأكل من (الشجرة) اعتقادا منه انها (شجرة الكمال والخلد). و ترجع بذلك دورة الوجود الى التكرار مرة اخرى بالخروج من الجنة و السقوط الى الارض و المرور مرة اخرى بجميع محطات الوعى الآنفة الذكر. 

مراتب الوعى و الوعى الطبيعى

اما المرتبة الاولى من الوعى فهى  (وعى-بالذات) و هى (وعى-بالحرية) و هى (وعى-بالشر) وهى (وعى-بالموت). 
اما المرتبة الثانية فهى هذه الخمسة بالاضافة الى الوعى-بالعبث اى ان الكون عبثى. ثم تأتى مرتبة اخرى من الوعى وهى الوعى بأن (الله لم يخلق الكون عن عبث رغم انه خلقه عن عدم). اذن رعم ان الكون عبثى الا ان خلقه ليس عبث.

لكن هناك ايضا الوعى الطبيعى بالاضافة الى الوعى الانسانى.
الموجود الكلاسيكى هو الوعى الانسانى وهو لا يهتم الا بتحقيق وجوده فى الواقع الكلاسيكى (وهذا هو مبدأ الفعل الاصغرى فى ان الفعل يريد ان يذهب الى الطريق ذو القيمة الاصغرية). 
اما الموجود الكمومى وهو الوعى الطبيعى فهو سيحقق وجوده فى الواقع -بالنسبة للوعى الانسانى- لكنه سيحقق ايضا التعدد الكامل و التام فى وجوده الكمونى فى عديد-العوالم الذى هو الواقع-المتعدد (وهذا هو مبدأ التراكب الخطى). 
اذن مبدأ التراكب الخطى هو تعميم لمبدأ الفعل الاصغرى. وتذكروا فان دالة الموجة هى الاس الطبيعى لدالية الفعل ضرب العدد التخيلى البحت. 
 ومنه فان الفعل الاصغرى لا يعطى الا احتمال اعظمى و ليس احتمال يساوى واحد وهذا يمكن رؤيته بكل دقة لو انتقلنا من الزمن اللورنتزى الى الزمن الاقليدى -وهو شيء لم اتكلم عنه بتفصيل لا فى الفيديو و لا فى المنشور السابق لانه سيدخلنا الى غياهب فلسفة الزمن وهو امر لا ارغب فى الكلام عنه الآن لكن قد كنت تكلمت عنه سابقا باسهاب-. 
هذه هى الديكوتومى بين الوعى الانسانى من جهة و الوعى الطبيعى من جهة اخرى فالاول كلاسيكى منظوريانى لا يستطيع الا ان يرى الواقع الذى تحقق فيه اما الآخر فكمومى غير-منظوريانى يرى و يتحقق و يُحقق جميع شعب عديد-العوالم كل حسب احتماله و ليس فقط الشعبة التى تقابل الطريق الكلاسيكى. 
فالواقع فعلا هو واقع-متعدد يعجز الوعى الانسانى عن ادراكه مباشرة لكن وعى الانسان-الممتاز (الذى سيكون فى المستقبل-التطور- او كان فى الماضى-النبوة-) سيصل الى ادراك هذا الواقع-المتعدد مباشرة بتسخير مثلا العوالم الميكروسكوبية للذرات و الجسيمات الاولية و الاوتار و الجواهر الفردة التى كلها عوالم كمومية كما تؤكده التجربة. 
اذن الميكانيك الكلاسيكى هو نظرية اساسية للوعى الانسانى و ليس فقط نظرية تقريبية للطبيعة كما كان يدعوا اليه بوهر و هايزنبرغ وهذا امر كنت قد ناقشته ايضا فى فلسفة الميكانيك الكمومى سابقا.




الوعى و ادراكاته الميتافيزيقية (الموت, الشر, الحرية, الزمن و العبث)


الخلاصة
 -الزمن هو المبتدأ اذن علينا ان نهتم بفلسفة الزمن. 
-الموت هو المنتهى اذن علينا ان نفهم فلسفة الموت. 
-الوعى هو الذى ادرك الزمن و الموت بل الوعى هو جزء من الزمن او العكس اذن علينا ان نفهم فلسفة الوعى. 
-ثم ان الوعى ادرك عبثية الوجود عبر ادراكه لمعضلة الشر التى حلها الجزئى يكمن فى حرية الوعى. اذن علينا ايضا ان نفهم فلسفة الشر و فلسفة الحرية. 
-ورغم ان الحرية تُفسر منبع الشر الا انها لا تفسر لماذا يجب ان يكون الشر. اذن هنا علينا ان نستسلم للعبثية و العدمية و ننتقل الى التشاؤمية. اى انه علينا ان نفهم الوجودية و كيف تفشل هى الاخرى فى الاجابة عن الانغست الوجودى. 
-والوعى و الحرية و فعل الشر هى كلها مظاهر من مظاهر النفس. اذن يجب ان نهتم ايضا بعلم النفس خاصة على طريقة جونغ. 
 حتى الآن لم يدخل الايمان فى الموضوع تماما. اذن هذا نقاش علمى-فلسفى كأى مسالة اخرى. اذا دخل الايمان الى الموضوع فان المسألة سوف تتعقد اكثر بكثير دون ان نصل فى الحقيقة الى حل معضلة الشر. فالشر هو اخطر تحدى للايمان و جميع حلول الايمان لهذه المعضلة هى حلول متهافتة بل فشل الجميع فى فلسفة الاسلام (وغيرهم) فى هذا الامر ابتداءا من ابن سينا وهو افضلهم و انتهاءا بابن عربى و هو اعظمهم مرورا بالغزالى وهو اوسطهم. فالدين خير لان الله خير لكن الوعى شر و مرض و ظلم و قتل و حرب و معاناة و فقر و حزن و قهر و غيرها من الفساد و الشرور فكيف يتسق هذا مع هذا. 
 فكل ما تفعله الشريعة هى تقنين الحلال و الحرام و لا يهمها ابدا القضاء على الشر أو على الاقل ذلك النابع من الوعى و حريته. اذن الشريعة (بمعنى الفقه) يهمها هذا حلال و هذا حرام و لا تهمها الاخلاق. بل الاخلاق فى الشريعة منبعها الخوف من النار و الرغبة فى الجنة و ليس منبعها القضاء على الشر و اذن هى ليست اخلاق بل هى قوانين كغيرها من القوانين مصبوغة صبغة الهية. وشخصيا اصبحت ارى ان رأى الخوارج و المعتزلة فى تكفير (ولست اعتقد ان اى شخص مهما علا قدره يمكنه اى يكفر اى شخص آخر مهما كان)  صاحب الكبيرة اقرب الى حقيقة الاخلاق ومبدأيتها من رأى السنة و الشيعة فى ان الله غفار لكل الذنوب (اى بعبارة اخرى افعل ما شئت ثم تب فانك ستدخل الجنة). هل هذه فعلا اخلاق يعتد بها? 
اذن فلسفة الايمان (فلسفة الكلام) قد تكون مهمة فى هذا الموضوع لكننى لم اجدها فعالة فى أهم موضوع وهو موضوع الشر. بل ان معضلة الشر هى مهددة بل هى اكبر مهدد لوجودية الله سبحانه و تعالى. واذا خسرنا وجود الله فاننا سنقع فى حاكمية الدهر و هذا يؤدى بنا مباشرة الى العبثية المطلقة و ضرورة الانتحار على رأى كامو (لكن لم ينفذه لانه كلام فقط من الفلاسفة الادباء مثل كلام الفلاسفة الاكاديميين مثل هايدبرغ ليس وراءه ايمان حقيقى). 
اذن فشلت الوجودية رغم تشخيصها الدقيق للمعضلة و فشلت فلسفة الكلام (ما يسميه القوم عندنا علم الكلام وهو ابعد شيء عن العلم) رغم شطحاتها التى لا تعد و لا تحصى و لم يبقى عندنا الا التشخيص الوجودى لنيتشة و التشخيص النفسى لجونغ ننطلق منهما. 
 بداية الحل تكمن فى الاقرار مع ليبنيز ان الكون ساعة دقيقة العمل لكن اختل عملها لما تخلق الوعى. هذا الجزء الاخير (الوعى خطأ) هو ليس كلام ليبنيز و لا هو كلام نيتشة بل هو كلام بعض الفلاسفة الوجوديين المتآخرين المغمورين (وليس حتى تصريحا بل تلميحا) اذكر هنا بالخصوص الفيلسوف النرويجى بيتر ويسل زابفى Peter Wessel Zapffe. 
اذن الوعى خطأ كونى ما كان يجب ان يكون. وهذه من اروع النتائج الميتافيزيقية. و هذا نقوله لان الوعى هو اساس كل التساؤلات اعلاه. فلو لم يكن هناك وعى لما كانت هناك اى من هذه التساؤلات الميتافيزيقية. وكلما كان الوعى محدودا كلما نقصت التساؤلات فالمجنون كائن محظوظ ميتافيزيقيا (وليس نفسيا او اجتماعيا) لانه لا يتسائل اى من هذه التساولات. لكن نحن لسنا بحاجة الى الجنون بل نحن بحاجة فقط الى محدودية الوعى. اذن لو كنت محدود الوعى الى الحد الذى لا تستطيع ان تفهم معه اى من هذه المعضلات لكنت اسعد كثيرا فى وجودك و مع نفسك. 
وهنا نصل الى فكرة اخرى هى فكرة (نسبية الوعى) فالوعى (وكذا الحرية الناجمة عنه) لا تأتى بنفس القدر بين جميع افراد الجنس البشرى. ولهذا هناك انبياء وهم اعلى درجات الوعى. و هناك متألهين وهناك علماء و فلاسفة وهناك عباقرة و فنانين و ادباء و شعراء. ثم يأتى بقية بنى آدم هم ايضا على درجات متفاوتة من الوعى. اذن الوعى نسىبى و ليس مطلق. فوعى عجوز نيسابور ليس هو وعى الفخر الرازى صاحب فكرة ايمان العجائز. فايمان العجائز و الايمان بصفة عامة وعى تم فيه (وبشكل كيفى-وراثى-بيئى) قهر جميع التساؤلات الوجودية اعلاه و لهذا تجدهم اسعد من الفلاسفة الوجوديين. 
السؤال الذى طرحه على البعض هو (هل هذه فلسفتى ام هى جمع لفلسفات غيرى). اقول نحن نعتمد اكيد على افكار من اتى قبلنا لكن هذه فلسفتنا بامتياز. 
 السؤال الآخر (ماهو الربط بين هذه الافكار). من يرى الربط فقد فهم فكرتنا و من لم يفهم الربط فهو لم يفهم ماذا نتكلم عنه. اما الاعتقاد اننا نخلط فى الفهم فهو (خلط فى الفهم). 
 


الوعى خطأ كونى


الزمن أدى الى الحياة ثم وقع الخطأ البيولوجى -الوجودى, الميتافيزيقى و الفيزيائى و النفسى- الذى يسمى الوعى. 
فالكون ليس الا ساعة -او كما قال ليبنيز- لكن وقع الخلل فى عملها عندما وُجد فى الكون -عبر الصدفة و الزمن و التطور- من يتسائل عن وجود الكون وهو الوعى (او ما نسميه فى النسبية و الكمومى بالراصد او الملاحظ). 
اذن المعضلة الوجودية هى معضلة الوعى و هى ليست فقط اصعب معضلة فى العلم -او كما قال شالمرز- بل هى معضلة نفسية-ميتافيزقية. ولهذا يعجبنى جونغ لانه ادرك بدقة شديدة ان (الحالة الانسانية) معضلتها الاساسية هى معضلة نفسية-ميتافيزيقية و ليس كما قال فرويد هى معضلة نفسية-جنسية. 
فالوعى ليس محظوظا الى ذلك القدر ان تكون كل مشاكله ترجع الى الجنس -بل كل مشاكله ترجع الى مبتدأه فى آدم و الى منتهاه فى الجنة-أو-النار وهذه مشاكل ميتافيزقيقية بامتياز- . 
اذن الوعى هو خطأ ارتكبه الكون و الزمن و الحياة الصدفة و التطور فهو خلل فى عمل ساعة ليبنيز تسبب فيه احد هؤلاء او شيء آخر. والوعى هو امتداد طبيعى للحياة. والحياة من طبيعتها الموت. لكن الموت بعد وجود الوعى تحول الى شيء آخر تماما فهو قد تحول الى معضلة ميتافيزقية حلها يتطلب حل معضلة وجود الكون نفسه. اما قبل وجود الوعى فان الموت لم يكن الا مكملا للحياة. وهكذا ادى خطأ الوعى الى خطأ فهم الموت و لن اقول خطأ الموت. فالكون نفسه يجب ان يموت. لكن الوعى قبل و فهم ان يموت الكون لكن لم يقبل ان يموت الوعى-الذاتى او الأنا فاراد ان يجد الحل فبحث داخل نفسه و فى الكون بل بحث خارج الكون فوجد بعضهم الله و بعضهم وجد الدهر و بعضهم لم يجد الا العبث و العدم. 
ومما زاد الطين بلة ان الوعى تسبب فى وجود الشر. فالكون هو موجود فيزيائى يقع وراء الخير و الشر -او كما قال نيتشة- و الكون  هو موجود سببى حتمى فكيف اذن يمكن للوعى ان يتميز بالحرية -و هو يجب ان يتميز بالحرية حتى يمكن ان نُفسر معضلة الشر-. 
وأهم ما يميز العبث الكونى (او العدمية) هو وجود (الوعى بالشر) و كذا وجود (شر الوعى) فى آن معا. وأهم انجازات الوجودية هو ادراكها لهذه الحقيقة الثابتة. وهنا نتكشف على حقيقة اخرى ان الوعى درجات و مستويات لان ليس كل الوعى يدرك كل معضلات الوعى (وعلى رأسها العبثية و الشر) اذن ليس كل الوعى على قدر سواء.
 اذن الوعى يجب ان يكون حرا حتى يخلق الشر فالكون ليس شريرا و لا الدهر شرير و لا الله شرير فكل الشر يكمن فى الوعى. لكن الاسباب الكونية هى قوى قهرية ورغم هذه الحقيقة الفيزيائية الثابتة فان الوعى يصر على حريته و على انه فعلا خالق للخير و الشر وهكذا تولدت من خطأ الوعى معضلات اخري هى معضلات الشر و الحرية و نسبية الوعى. ثم تولد عن كل ذلك لمن صفى وعيه و شف ادراك عبثية كل هذا الوجود ابتداءا من الزمن و انتهاءا بالموت و اكثرهم عبثية الوعى نفسه.
 أما بعضهم فيصر على ان الحل يكمن فى العلم و فى الحضارة و فى الانسانية و فى الاخلاق و بعضهم قال ان الحل كل الحل يكمن فى الله و يكمن فى الايمان. اما العلم و الحضارة و الانسانية و الاخلاق فهى ليست الا مخدرا يخدرنا عن هذه الحقيقة الساطعة.
 أما الرأى الآخر وهو الاهم -لانه رغم كل شيء هو تفكير من خارج العلبة- فاننى اعترض عليه بالتساؤل: هل تغلب الايمان على معضلة الزمن و على معضلة الوعى و على معضلة الموت و على معضلة الشر و على معضلة الحرية. أم أن الله هو الزمن الذى ابتدأنا منه و هو الموت الذى سوف ننتهى اليه وهو الوعى الذى نعلم به و هو الحرية التى نفعل بها و هو الخير الذى يصدر منا. لكن ماهى علاقة الله بالشر.
 هل يمكننا ان نقول ان الشر هو الله مثلما قلنا ان الخير هو الله (ولن تجد احد يفعل ذلك) ام انه يمكننا ان نقول انه ليس هناك شر فى الكون بالاصل (كما يقول الواهمون من علماء الدين و الفلاسفة على قدر سواء) ام ان الله اختار ان لا يعلم بالشر (وهذا قال به بعضهم) ام هناك حل آخر لا نعلم به. هذا هو المطب وهذه هى الورطة فكل شيء يمكن ان تحله لنا القصة الدينية او القصة الفلسفية على حسب الذوق لكن لا احد يمكنه ان يحل معضلة الشر فهى اساس العبثية التى هى الانجاز الاكبر للفلسفة الوجودية ولانه ليس هناك حل (حتى من الوجودية نفسها) فليس هناك من مفر الا المرور من القلق الوجودى او الانغست الى التشاؤم الوجودى وهو تشاؤم فلسفى و ليس تشاؤم شخصى من الوعى. 
فالدين -او الفهم الارثوذكسى للدين- يذكر لنا ان الخلاص من العبثية يكمن فى الدخول الى الجنة و النجاة من النار فى النهاية -ويضيفون الى ذلك الخلود و كأننا نحتاج الى مزيد من القسوة-. اما الذى دخل النار خالدا او غير خالد فهذا قد خرج من عبثية الدنيا الى عبثية الآخرة ونترك مصيره الى الله (وشخصيا لا اعتقد ان هناك تخليد فى العقاب و العذاب او كما ذهب الى ذلك ابن تيمية و ابن القيم و ابن عربى قبلهما). اما من دخل الجنة فهل نجى يا ترى من العبثية و من كل هذه التساؤلات الوجودية. فمثلا كيف لمن دخل الجنة ان لا يتذكر الانغست الوجودى الذى كان يعانيه فى الدنيا فهل لا يتسبب له هذا التذكر فى انغست فى الجنة. يعنى اى شخص دخل الجنة كيف له ان ينسى كل ما وقع له و لغيره و ما تسبب فيه لغيره فى الدنيا من شرور.
و الحقيقة ان كل هذه التساؤلات هى كلها بسبب خطأ الوعى الذى ارتكبه الكون و الحياة و ادى هذا الخطأ الى اختلال عمل تلك الساعة الليبنيزية وربما حتى الى اختلال التوازنات الغيبية (وهذا ايضا من مصطلحاتى الجديدة التى ساترك شرحها الى النسق الذى جاءت فيه). فانه لو كان وعينا اقل بكثير مما جُبلنا عليه لكان حالنا افضل وافضل من هذا ان لو كنا هذه التبنة -او كما قال عمر بن الخطاب- و افضل من هذا كله لو لم نوجد من الاصل. 
فحسب هذه النظرية التى لم تصبح نظرية وجودية بل اصبحت نظرية تشاؤمية فان عدم الوجود من الاصل هو افضل حتى من الوجود و المعاناة حتى لو انتهى الامر بنا فى النهاية الى الجنة لانه ليس هناك ميكانيزم واضح لكيفية تعامل الوعى (بالذاكرة او بالارادة) فى الجنة عندما يستحضر معاناته و كل تلك الشرور التى عايشها و قرأ عنها فى الدنيا. اذن هذه مسألة وجدنا تداخل لفلسفات كثيرة فيها منها فلسفة الزمن و فلسفة الوعى و الوجودية و فلسفة الموت و فلسفة الشر و فلسفة الحرية و علم النفس و فلسفة الايمان . اذن حلها -اذا كان هناك حل واننى لا اعتقد ان هناك حل- سيتطلب تظافر جهود كل هذه العوامل فى تشييد بناء ميتافيزقي واحد و شامل و متكامل و منسجم.

الشر هو موت الغيب 


تولستوى اضنته مسألة الموت و فى الاخير وصل الى الايمان بسبب حتمية الموت و قهريته و حسب كثير من المفسرين فان (الله) عند تولستوى هو (الحياة). لكننى اختلف مع الجميع -كعادتى- و اقول ان (الله) عند تولستوى هو (الموت) وليس (الحياة). اذن صراع الوعى عند تولستوى مع الانغست الوجودى ادى به فى الاخير الى الايمان بأن الله هو الموت. 
و الموت شر أليس كذلك. 
فهل الله اذن شر على حسب هذا التفسير التولستاوى. 
واننى اعتقد ان الشر معضلة اعظم من معضلة الموت. فان المؤمن بالله على طريقة ابن عربى وهى الطريقة الاصح يعلم بأنه عندما يموت فانه سيعود الى رحمة الله و فضله و انه لا خوف عليه مع جميع ذنوبه و تقصيره ما دام ابتعد عن شر (القتل) المادى-و-النفسى-المجتمعى-و-الميتافيزيقى و ما شابهه من انواع الظلم الاخرى لبنى البشر. 
اذن رغم وجود الموت فهناك نهاية ايجابية فى الافق للجميع. لكن معضلة الشر لا تتسق مع وجود الله نفسه. 
فان ابوقراط الطبيب الفيلسوف الاول لم يخطئ عندما قرر عدم اتساق فكرة الله الخالق الذى هو خير مع فكرة الانسان المخلوق الذى هو شر. 
اذن الموت هو من الله اما كون الشر من الله فهذا صعب جدا على التقبل خاصة من الجهة الدينية المحضة. ونفس الاعتراض يمكن توجيهه الى المؤمنين بالدهر. 
الموت هو نهاية المادة اما الشر فهو نهاية الغيب. وهذا فرق شاسع جدا بينهما فالاول يقتل الفكرة المادية اما الثانى فهو اخطر منه لانه يقتل الفكرة الغيبية نفسها. 
اذن لماذا لم يفكر تولستوى فى الشر بتلك الشدة و الحساسية كما فعل مع الموت فى كتابه (اعتراف) -احد اعظم كتب الفلسفة و الفلسفة الوجودية و الروحانية على الاطلاق-. 
هؤلاء الروس الادباء لديهم فعلا عمق فلسفى غير عادى لا يتحمس له من العرب الا القليل. و تولستوى اخذه الفيلسوف النفسانى ويليام جايمس نموذجا لما يسميه (الروح المريض). و (الروح المريض) هو ذلك الوعى الذى يطغى عليه القلق الوجودى و تتغلب عليه التشاؤمية و روح العبثية و يسعى يصدق نحو الفهم و الحب و العلم و قليل منهم يصل الى ذلك اما اغلبهم فيضيع. 
اما نمط الوعى الثانى الذى تكلم عنه وليام جايمس فهو (العقل الصحيح) وهم الذين لا يزعجون انفسهم -عن وعى او بدون وعى- بأى مشكلة من هذه المشاكل الوجودية. اذن هناك (روح مريض) و هناك (عقل صحيح) و (الروح المريض) اقرب الى فهم الحقيقة من (العقل الصحيح) و ليس العكس وهذا رأى وليام جايمس فى موسوعته (انواع التجربة الروحية) و نحن متابعون لرأيه هنا. 
اذن الروح المريض (الوجودية الميتافيزقية) افضل بكثير من العقل الصحيح (فلسفة الفيزياء) على هذا الرأى. 

 نحو حل معضلة الشر – لا يوجد تناظر بين الخير و الشر  

 
و اعتقد اننى اقترب من ايجاد حل لمعضلة الشر بشكل جذرى و بشكل اصلى نهائى. بكل بساطة اقول ان الخير موجود فى الواقع الميتافيزيقى الذى هو علم الله سبحانه و تعالى كأعيان ثابتة لكن الخير موجود ايضا فى الواقع الفيزيائى الذى هو العالم الخارجى عالم الموجودات العينية يخلقه الله و يخرجه الى الوجود بارادته و قدرته. ايضا فان الخير موجود فى عقل الانسان و موجود فى واقع الانسان ينسب الى الانسان اكتسابا اما نسبته الى الله فهى على الحقيقة لانه سبحانه و تعالى هو الذى اخرجه الى الوجود. 
 اما الشر فهو موجود فقط فى علم الله سبحانه و تعالى وهو موجود فقط فى عقل الانسان. اذن الانسان عندما يعتقد ان الشر من قتل و مرض و ظلم و حرب موجود فى الواقع هو فقط يتوهم فالوعى شيء غامض و هذه الخاصية (الاعتقاد بوجود اشياء فى الواقع ليست موجودة الا فى ذهنه) هى احدى اغمض غمائضه. ومثاله البسيط السكيزوفرينيا و غيرها من الامراض النفسية.  
اذن لست اقول ان الاعتقاد بوجود الشر فى الواقع هو مرض نفسى لكن اقول ان ذلك الاعتقاد هو جزء من ماهية الوعى و من طبيعة العلاقة بين الوجود و العقل. اذن كل تلك الشرور موجودة  فقط فى علم الله سبحانه و تعالى كأعيان ثابتة  و لا يمكن لله سبحانه و تعالى ان يخرجها الى الوجود  (فالله سبحانه و تعالى هو الموجد الوحيد على الحقيقة) لان اخراجها يتعارض مع ماهيته سبحانه و تعالى. فالله خير لا يمكنه ان يخرج شر الى الوجود اما الانسان فهو خير و شر و هو سيريد تلك الشرور بحرية ارادته المطلقة فتتحقق بارادته اياها تلك الشرور فى واقعه العقلى و من ثم فانه سيحاسب عليها لانه أرادها و تمثلها فى عقله لكنها فى الحقيقة هى غير موجودة فى الواقع. 
اذن الخير موجود فى علم الله و فى الواقع و فى عقل الانسان. اما الشر فهو موجود فى علم الله و عقل الانسان فقط.  اذن الشر رغم انه ماهية مثالية الا ان الانسان تتعلق ارادته به فيتمثله عقله و عليه فهو يُنسب اليه على الحقيقة و لا ينسب الى الله مطلقا ثم يحاسب الله سبحانه و تعالى الانسان على ذلك الشر الذى فى العقل. ومن هنا تنهار ايضا فكرة الخلود فى النار و لا يبقى معها الا فكرتى الفناء او الخلود فى الجنة و هى فكرة الجهم المعتزلى و ابن عربى الصوفى و ابن تيمية الحنبلى. 
اذن الشر موجود فى العلم الالهى و العقل الانسانى وهو مسؤول عنه الانسان بارادته العقلية المطلقة فالانسان حر حرية مطلقة فى اختيار و ارادة و تمثل الشر و هو اى هذا الشر لا ينسب الى الله مطلقا بل ينسب الى الانسان على الحقيقة ولان الانسان مسؤول و حر فهو سيحاسب على هذا الشر العقلى رغم انه عقلى و لانه عقلى فان العقاب لا يمكن ان يكون تخليدا على الاطلاق الا  (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك).  
اذن لا يوجد تناظر بين الخير و الشر كما يعتقد الوجوديون العبثيون و ايضا فان القول بأن الشر هو انعدام الخير كما قال افلوطين و تابعه على ذلك الاسلاميون من ابن سينا الى الغزالى الى ابن عربى الى ابن تيمية هو ايضا هراء. 
الصحيح انه ليس هناك تناظر بين الخير و الشر. فالخير موجود فى العلم و العقل و الواقع اما الشر فهو موجود فى العلم و العقل فقط.  فالشر بالنسبة الى الله سبحانه و تعالى هو عين ثابتة ككثير آخر من الاعيان الثابتة التى يعلمها و التى لا تخرج الى الوجود لانها طاقة سلبية لا تنسجم مع خيرية الله سبحانه و تعالى المطلقة اما الخير فهو عين ثابتة يمكنها ان تخرج الى الوجود لان الوجود خير و الله خير و لا يمكن ان يخرج من الخير الا الخير. 

 

الانسان الكامل الذى يطلب من الله اعدام الوجود


 ابن عربى مفكر قل مثيله فى العمق و التنظير. و فكرته عن "الانسان الكامل" هى من اعظم الافكار فى كل الفلسفة اسلامية كانت او غربية.
 اذن الله خلق العالم لتتجلى اسماءه -اسماء الله- فى صفاته -صفات الكون- ثم خلق الانسان على صورته ثم خلق الانسان الكامل على صورتى الانسان و الله معا حتى يكتمل التجلى.
 فالانسان الكامل هو الانسان الحر الحقيقى وهو الانسان المستخلف فى الارض (ليس غيره من المتوهمين) و هو الانسان الذى خُلق على الصورة الالهية (ليس غيره) و هو الانسان الذى خُلق ليعبد الله (فلا حاجة لله الى عبادة غيره و لا الى عبادة الانسان الكامل لكن الانسان الكامل هو محرق التجلى ففيه يكمن سبب الوجود برمته و من هنا تكمن اهمية الانسان الكامل المحورية عند ابن عربى). هذا من جهة.
 من جهة اخرى فان ابن عربى يُصر على ان الوجود هو كمال كل شيء فهو الماهية وهو العين الثابتة و هو أكبر نعمة.
 لكننا نعرف (على الاقل عند اهل السنة) ان اعظم نعمة هى دخول الجنة وأعظم نعمة فى الجنة هى النظر الى وجهه سبحانه و تعالى (او ما أُصطلح على تسميته بالرؤية التى انكرتها المعتزلة و تأولها ابن سينا و ابن رشد). اذن اعظم شيء للعين الثابتة (الواعية) ان تخرج الى الوجود (التعين) ثم تعمل الخير (الحرية) حتى تدخل الجنة (الثواب) فتنظر الى وجهه الكريم سبحانه و تعالى (بدون كيف و لا اتجاه و لا حد و لا غير ذلك. فالرؤية ليست هى الرؤية الفيزيائية المعهودة عندنا فاحذروا). 
لكن الكافر يقول بلفظ القرآن البليغ (ياليتنى كنت ترابا). اذن الوجود بالنسبة للكافر كان اسوء شيء يمكن ان يحدث للعين الثابتة فهى تعينت (اى خرجت الى الوجود) فكفرت (الحرية مفترضة هنا مرة اخرى) فحق عليها الجزاء فأصبح اكبر همها و مبلغ علمها ان تصبح ترابا. 
اذن ماذا عساه ابن عربى ان يفعل مع هذه الحالة التى شذت عن قاعدة ان الوجود كمال. ابن عربى يعرف جدا ويعى تماما (هو عبقرى فعلا ليس بمبالغة ان نقول ذلك و نكرره) دورانية هذا المطب فقال شبيها بقول الجهم و ابن تيمية و ابن القيم الذين قالوا بفناء النار. 
 اذن الخروج الى الوجود او التعين هو مدار الوجود اجمعه (كما يعتقد ابن عربى) وحتى يضمن هذا الامر فانه يحل معضلتى الشر و النار كما يلى: 
-معضلة الشر (وقد حلها بفرضية الملاء plentitude لافلوطين (وهى بكل بساطة فرضية عديد-العوالم الكمومية) و فرضية ان الشر او الظلمة هو غياب الخير او النور اذن ليس لهما وجود ذاتى. وهو حل غير مقبول عندى شخصيا لانه حل ترقيعى بامتياز. -لكن عليه ايضا (حتى يصبح الوجود فعلا كمال من كل جهة) ان يحل معضلة النار (وحله لها ايضا ترقيعى ليس نهائى لكنه شعر بالمشكلة فهو عبقرى جدا ليس ببغاء يكرر فقط ما حفَظه والده و قد كان فقيها و محدثا). 
لكن لدينا من الجهة الاخرى قول عمر ابن الخطاب (وهو فى مقام الولى الصالح على الاقل عند اهل السنة فهو اذن يقارب مقام المقامات و اعلاها مقام الانسان الكامل الذى يُعرف ايضا باسم الحقيقة المحمدية) الذى قال "ليتنى كنت هذه التبنة". 
فهذا يدعم ايضا هذه الفكرة: ان الوجود ليس كمالا كما يعتقد ابن عربى (و بنى كل فلسفته الوجودية عليه). 
ولو نظرنا هنا فان قول عمر بن الخطاب (ليتنى كنت هذه التبنة) هو قول وجودى بامتياز و هو قد جاء من مبشر بالجنة و رغم هذا فانه كان يتمنى ان يكون تبنة (اذن موقف الكافر يصبح مفهوم جدا بل انسانى جدا فحاله الوجودية فى اسوء المراتب المتخيلة). 
اقول ان وجودية ابن عربى هى فى الواقع وجودية-عكسية anti-existentialism اذا صح التعبير (-وهو مصطلحى الشخصى) لانه يصر تماما على ان الوجود (واهمه وجود الانسان) كمال وهذا عكس ما يذهب اليه نيتشة الذى يصر على ان الوجود نقص لانه عبث و العدم افضل منه و اولى. 
سؤالى الآن. 
هل يمكن تصور انسان كامل (او انسان عادي لكن غير كافر لان الكافر ليس مختارا ابدا) على طريقة ابن عربى. اذن نتصور انسان حر بلغ المرتبة المثلى من الوجود عند الوجود (اى عند الله سبحانه و تعالى) لكنه يطلب من الله سبحانه و تعالى (على طريقة عمر بن الخطاب) ثوابا غريبا غير معتاد وهو "اعدام الوجود" (فهو يراه ثوابا و لا يرى ما يراه ابن عربى) . 
اذن هل يمكن ان نتصور انسان كامل (يضحى بالجنة و بالثواب و بالرؤية و بالوجود الكامل) و يطلب من الله سبحانه و تعالى ان يخرجه بالكامل من دائرة الوجود و يرجعه الى دائرة العدم المحض و يرجع عينا ثابتة محضة فى علمه سبحانه و تعالى. (هذا اعتقد افضل من فكرة فناء النار و يحل معضلة الشر و الحرية بالكامل. اذا كان الانسان الكامل حرا فعلا فهو يجب ان تكون له القدرة على ان يطلب من الله هذا الامر. و اذا كان هذا الامر ممكن التحقيق على الاقل من الناحية المبدأية العقلية و يجيبه الله سبحانه و تعالى اليه فهذا يعنى ان الوجود فعلا نقص. و عندها فان الانسان الكامل ليس فعلا كاملا ابدا لأنه سأل الله سبحانه و تعالى هذه المسألة. و اذا كان الوجود نقص ليس كمالا فان الشر فعلا موجود مثلما ان الخير موجود). 
و هذه اخطر فكرة كتبتها على الاطلاق فاعذرونى على خطورتها. 
لكن تفكيك فكر ابن عربى اخطر من تفكيك فكر غيره و حتى يُفهم اى فكر الفهم الصحيح فانه يجب تفكيكه التفكيك الصحيح اولا ثم اعادة تركيبه بالطريقة التى تتماشى مع العقل المنظورى.





الوعى خطأ و الوحى وعى متجدد 


اعتقد ان منشور البارحة احتوى على فكرة قيمة جدا بل اظنها مبدعة ربما اختلطت بغيرها اذن وجب فرزها حتى تتضح الرؤيا. 


من اعظم النتائج بل هى اعظم نتيجة فى رأيى توصلت اليها خلال السنوات الماضية هى فكرة أن (الوعى خطأ كونى) وهى فكرة توصلت اليها بشكل مستقل و مبهم لكننى بعد ذلك وجدتها عند الاديب-الفيلسوف-النفسى الروسى العملاق دويستفسكى الذى تكلم عنها صراحة فى روايته الفذة (رسائل من تحت الارض) التى كنت قدمتها فى منشور العام الماضى من وجهة نظرى وفهمى الشخصيان.
 هذه الفكرة (الوعى خطأ كونى) وجدت مقاومة شديدة من الاصدقاء المهتمين بما اكتبه لانهم ينسون ان هذه النتيجة هى بالنسبة لى مقدمة اولى فقط فى استنتاج منطقى. اما المقدمة الثانية فهى ان (الوحى تصحيح لهذا الخطأ الكونى). هنا اليوم سأبين ان الوحى يمكن فهمه على انه (الوعى المتجدد) على منوال فكرة (الكون المتجدد) للغزالى التى كما بينا قضية تتعارض مع الاسباب.
اذن الوعى هو الذى يحتاج الى التجدد فى كل آن و ليس الكون الذى هو كينونة صامدة ينجم صموده عن صمود الله سبحانه و تعالى. فالكون لا يحتاج الى التجدد خاصة اذا تذكرنا كل هذا الشر الذى يحتويه اما الوعى فهو يحتاج الى التجدد لانه هو الذى تسبب فى وجود ذلك الشر.
نبدأ مع ليبنيز الذى اعطى مثالا شهيرا حول علاقة الله سبحانه و تعالى بالعالم سأنطلق منه. فهو قد تصور (العالم) مثل (الساعة) فى تصميمها و دقتها و انضباطها و فى احكام و اتقان صنعها اما (الله) فقد تصوره مثل (ساعاتى أعظم) اى صانع ساعات اعظم ولله المثل الاعلى. 
يريد ليبنيز بهذا المثال ان يقول ان الله خلق العالم (الكون و الفقاعة الكونية و عديد-الاكوان و متعدد-العوالم و نظرية كل شيء) وخلق القوانين الفيزيائية و خلق الثوابت الفيزيائية و خلق السببية و خلق الصدفة و خلق قوانين الانتقاء و البقاء و التطور ثم ترك الكون لنفسه. 
اذن هذا رأى من ليبنيز على النقيض تماما من رأى الغزالى الذى يقول بالخلق المتجدد للعالم اى ان الله يخلق العالم جديدا فى الآنات. اذن بالنسبة لليبنيز فان العالم ساعة-عظمى خلقها ساعاتى-اعظم ثم تركها لنفسها تعمل. هذه هى الصفة الاولى للعالم حسب ليبنيز وكثير من الفلاسفة الآخرين. 
تذكروا ايضا ان ليبنيز فيلسوف اذن هو يشترك مع بقية الفلاسفة مثل ابن سينا و ابن رشد بالقول بقدم العالم و لاتناهيه. هذا يعنى مما يعنى ان (ليس هناك خلق من عدم) و ان (ليس هناك ارادة فى الخلق) فالعالم يتبع الله (ليس زمنيا بل وجوديا) مثلما يتبع الاثنان الواحد. وهذا قد ينفر منه الكثير من أهل السنة فقد نفر منه الغزالى. 
اذن لنأخذ مثلا تعبير ابن عربى وهو سنى بالأساس الذى قال ان (العالم هو تجلى واحد من عدد لانهائى من تجليات الله سبحانه و تعالى) فهى نفس الفكرة بتعبير اعمق و احلى. اذن الانفجار الاعظم هو تجلى لله سبحانه وتعالى. هذا هو المقصود و هذا هو تفسير الانفجار الاعظم. 
 يقول ايضا ابن عربى (العلم تابع للمعلوم) وهذه ستلعب دورا اساسيا لكنه لا يقول (الوجود تابع للموجود) وهذه ما سأضيفها حتى تكتمل الحلقة. 
اذن العالم ساعة-عظمى تشتغل بدقة و انضباط تركه الله سبحانه وتعالى يعمل من تلقاء نفسه. 
الذى حدث ان العالم بقوانينه المغروسة فيه التى تمثل غريزته طور الحياة فى مفردة بيولوجية ثم طور الوعى فى مفردة نفسية وهذا هو الخطأ ثم طور كرد فعل على هذا الخطأ الايمان فى مفردة روحانية. 
اذن الوعى هو خطأ لان الوعى ينطوى على شيئين الحرية التى ستؤدى الى الشر و الشر هو خطأ فالله لا يرضى لعباده الكفر و الشر و الظلم. 
اذن الشر خطأ لا يرتضيه الله سبحانه و تعالى فالوعى اذن خطأ طوره العالم او الكون من القوانين المفطور عليها من تلقاء نفسه اذن هذا هو (الوجود تابع للموجود). اى كون الكون طور من القوانين المفطور عليها أى من تلقاء نفسه الوعى الذى ادى الى الشر. فالوعى و الحرية و الشر وجدوا من العالم المخلوق لله لانهم بزغوا او انبعثوا تلقائيا من تلك القوانين التى غرسها الله فى العالم فوجودهم اذن تابع للعالم و لان العالم ليس له وعى و لا حرية و لا شر فى حد ذاته فكل هذه الاشياء من وعى و حرية و شر يجب نسبتها الى ذلك الوعى البازع المنبعث من الجماد و الحيوان الذى هو الهوموسابيان. اذن هذا هو (الوجود تابع للموجود). 
اذن الوعى خطأ لان الشر خطأ. وهو خطأ من وجهة نظر الوعى نفسه و ليس من وجهة نظر الله سبحانه و تعالى. فتذكروا فان (العلم تابع للمعلوم).
اذن بعد بزوغ الوعى فان الهوموسابيان وجد نفسه فى ورطة وجودية فطور كرد فعل الايمان فى مفردة اخرى ايمانية و بذلك اكتشف الهوموسابيان الله واتجه الى السماء وكان ذلك بعد تجربته مع الموت فى الارض. 
هذا مختلف جدا عن افكار ليبنيز و غيره. 
ثم اضيف اختلاف آخر جذرى استمده هذه المرة من الخلق المتجدد للغزالى. فان الله خلق العالم كساعة منضبطة. لكن وقع خطأ فى عمل تلك الساعة هو ذلك الوعى. عندها تدخل الله سبحانه و تعالى فى عمل تلك الساعة من اجل ضبط عملها ليس عبر (الخلق المتجدد) لكن عبر (الوعى المتجدد) و ذلك الوعى المتجدد هو الوحى. 
اذن الوحى هو مفردة اخرى تصحح خطأ مفردة الوعى. 
وهذه المفردة (مفردة الوحى) لا يمكن تفسيرها لا فيزيائيا و لا بيولوجيا و لا نفسيا لكن قد يمكن تفسيرها كشفيا (وهنا تدخل الروحانيات). هذه المفردة (مفردة الوحى) سميتها المفردة الابراهيمية نسبة الى ابراهيم عليه السلام لكن نحن نعلم ان اول نبى هو آدم عليه السلام الذى كان قد انزل الى الارض فوجد الهوموسابيان فاعطاه الصورة الابراهيمية عن الله سبحانه و تعالى ثم تزاوج معه اولاده و انقرض الهوموسابيان و لم يبقى الا نسل آدم الذى هو نحن اليوم. 
اذن الوحى هو (وعى متجدد) وهو تصحيح لخطأ الوعى و الوعى خطأ لانه تسبب فى الشر و الشر خطأ يقينا لان الله لا يرضى الشر و الكفر و الظلم و الوعى و الشر انبعثا من العالم نفسه و قوانينه فهو (الوجود تابع للموجود) و كل ذلك كان محترما تماما لقاعدة (العلم تابع للمعلوم). وهذا ما اسميه (الحرية المنظوريانية) وهى حرية حقيقية تامة فى ذاتها لكنها نسبية (ليست بنفس القدر بالنسبة للجميع لانها تنبع من الوعى و الوعى لا يأتى بنفس القدر بالنسبة للجميع) و اعتقدها ان شاء الله نظرية مبدعة فى حل معضلتى الشر و الحرية معا و بالكامل.

الوحى هو تصحيح لخطأ الوعى




قبل البداية لم يكن هناك زمن او وعى او وحى ثم كان هناك انفجار اعظم. وقد حدث هذا منذ 13 مليار سنة. فحينذاك خلق الزمن و الفضاء لكن الحياة و الوعى و الدين و الوحى مازالت فى عالم الغيب. وهذا هو الزمن الذى يراه الوعى الذى يحكى هذه القصة الوجودية. 
اذن المنظوريانية مترسخة جدا هنا لا يمكن التخلص منها ابدا او على الاقل فاننى لن احاول ان اتخلص منها لانها جزء لا يتجزأ من التفسير الذى اقدمه هنا. 
وهذا الانفجار الاكبر نجم عنه خمسة انواع من المستويات الكونية: 
-اولا الكون المرصود الذى نصف قطره 46 مليار سنة ضوئية. والذى يسمى تقنيا حجم هابل. 
-ثم متعدد-الاكوان الذى يتشكل من عدد لانهائى من احجام هابل كلها تتميز بنفس القوانين الفيزيائية و بنفس الثوابت الفيزيائية التى نجمت خلال فترة التضخم من الانكسار التلقائى للتناظر بين القوى الاربعة فى بداية الكون. هذا الكون متعدد-الاكوان يسمى الفقاعة الكونية. 
-ثم هناك متعدد-الاكوان الذى يتشكل من عدد لانهائى من الفقاعات الكونية التى تتميز بقوانين فيزيائية و ثوابت فيزيائية مختلفة نجمت خلال التضخم الفوضوى الذى هو تضخم يتميز بانكسار تلقائى للتناظر ليس ثابت بل يختلف من نقطة الى اخرى من الفضاء-زمن. متعدد-الاكوان يسمى متعدد-الاكوان من المستوى الثانى لانه يتشكل من عدد لانهائى من الفقاعات الكونية كل فقاعة هى عديد-اكوان من المستوى الاول. -ثم يأتى المستوى الرابع وهو عديد-العوالم الكمومى وهو تركيب خطى لجميع التشكيلات الممكنة لعديد-الاكوان من المستوى الثانى. 
-ثم يأتى المستوى الكونى الخامس وهو العالم على حقيقته او هو العالم كما تصفه الرياضيات فى نظرية كل شيء. 
اذن هذا العالم او الكون الذى نجم عن الانفجار الاكبر هو عالم او كون مهول فهو عالم او كون لانهائى على الترجيح. و هو عالم قديم على الترجيح. فالزمن مرتبط بوعى الراصد. فتلك ال 13 مليار سنة هى الزمن الذى نراه فقط نحن من موقعنا البائس على هذه الارض البائسة المعزولة الوحيدة فى هذا الهول الوجودى. 
اذن هذا عدد لا يمكن ان نعول عليه. 
 فالارجح رأى الفيلسوفان ابن سينا و ابن رشد فى ان الكون لانهائى و قديم و ليس رأى الغزالى. بل الاولى هو رأى ابن عربى فى ان هذا الكون هو تجلى واحد من عدد لانهائى من تجليات الاسماء الالهية. 
والوعى هو خمسة اشياء منها الوعى بالزمن (والاخرى هى وعى بالذات و وعى بالموت و وعى بالحرية و وعي بالشر). 
والوعى هو خطأ ارتكبه العالم او الكون عبر الصدفة حيث أخرج شيئا من ذاته مختلف عنه يعى ذاته و يعى الكون و يعى غيره وهذا ما كان يجب ان يكون. 
ففى هذا العالم اللانهائى لانه لانهائى (كل شيء يمكن ان يقع فانه وقع و واقع و سيقع عدد لانهائى من المرات). وهذا يشبه عقيدة التكرار الابدية عند نيتشة. 
فمن الاشياء التى وقعت عدد لانهائى من المرات و فشلت عدد لانهائى من المرات قبل ان تحدث المفردة هو بزوغ الحياة فى مكان معزول من الكون عن طريق الصدفة المحضة ثم تلاشت بسرعة مرة اخرى. ثم بزغت الحياة مرة اخرى ثم تلاشت عدد لانهائى من المرات حتى بزغت فى المرة المفردة أين ترسخت الحياة و طور الكون قوانين للحفاظ على هذه الحياة و تطويرها حتى اصبحت الحياة شيئا منفصلا قائما بذاته قادرا على البقاء. 
ومن هذه الحياة بزغ الوعى فى ذلك الخطأ الكونى. لكن الوعى اخطر من الحياة فهو يعى ذاته و يعى غيره و يعى اشياء اخرى كثيرة جعلته يشعر على هذه الارض البائسة بالوحدة الوجودية و الانغست اى القلق الوجودى. 
وذلك الوعى الذى شعر اول مرة بتلك الوحدة الوجودية و ذلك القلق الوجودى هو الهوموسابيان المفرد. ثم تعرض ذلك الهومسابيان الى تجارب الحرية و الشر و الموت فهو اختار ان يقتل أخيه ثم شعر بعظم شر فعلته ثم اضطر الى دفن اخيه فى الارض فأصبحت الارض اكثر يؤسا و اكثر ظلمة و اكثر سوداوية مما كانت من قبل فزادت وحدته الوجدوية و زاد قلقه الوجودى عن كل حد فما كان منه -من اجل البقاء الذى هو غريزة ورثها من الحياة- الا ان يلجأ و ينظر الى السماء لعل فيها من ينقذه بعد ان أيقن و تيقن ان الارض لا تحوى الا على الشر و الموت. 
فيجب ان يكون في السماء من ينجيه من اختياره و من شر فعلته و من الموت. فاكتشف هذا الهوموسابيان المفرد الله. فالله يمكن ان ينجيه من اختياره عبر تغيير الماضى -فالله يجب ان يكون قادرا على ذلك عبر الماضى الكمومى- و يمكن ان ينجيه الله من الشر عبر اتاحة الفسحة امامه على فعل الخير فى الحاضر -الحرية الكمومية- و يمكن ان ينجيه من الموت عبر الأمل فى المستقبل والحياة بعد الموت -البعث الكمومى-. 
وهكذا نشأ الدين فى مفردة وجودية مثلما نشأ الوعى فى مفردة نفسية مثلما نشأت الحياة فى مفردة بيولوجية مثلما نشأ الكون فى مفردة فيزيائية. 
 فالكون هو المفردة الاكثر غيبية لانه ليس لدينا اى تفسير لها الا الله -أليس الكون اعظم خلقا من الانسان- اما الحياة فهى مفردة يفسرها (كل شيء يمكن ان يقع فانه سيقع عدد لانهائى من المرات) اما الوعى فهو على التحقيق خطأ كونى ما كان يجب ان يقع اما الروحانية فهو محاولة تصحيح ذلك الخطأ. 
وارتباط الوعى بالزمن شيء مثير جدا. فنحن لايمكننا ان نتكلم حتى عن الله بدون التكلم عن الزمن لان كل معرفتنا بالله هى وعى بضرورة وجوده فى الزمن رغم ان الله لاهو داخل الزمن و لا هو خارجه او كما يقول الغزالى او انه خارج الزمن كما يقول ابن تيمية او ان الله زمن قديم كما يقول ابن سينا او ان الزمن تجلى لله كما يقول ابن عربى. 
و هذه القصة الوجودية لا تنتهى هنا لان الدين سيتطور فى الزمن حتى تقع له المفردة الابراهيمية. 
فابراهيم (او بالاحرى آدم) يؤكد ان له حبل من الله مباشرة. واننى اتكلم عن ابراهيم عليه السلام لانه هو الممثل الحقيقى للوحى و النبوة و الاسلام (رغم ادعاء اليهود والصهاينة النسب له فهو برئ منهم  براءة الذئب من دم يوسف). 
 اذن ابراهيم يختلف عن الانسان الهوموسابيانى الاول فى كونه يعتمد و يقول انه يعتمد الوحى. فالوحى وعى اعلى بالغيب ليس شيئا آخر. ثم ان ابراهيم أتى بنظرية جد جديدة حول بداية الخلق تصعب للفيلسوف من فهم المعضلة الوجودية (لكن سهلة جدا على العامى). وهذا ايضا احد اسباب اختيارى له عليه السلام المتكرر كممثل لمفردة الوحى. 
الوحى اذن هو التصحيح الحقيقى للخطأ الاول الذى هو الوعى فالله خلق الكون و تركه لنفسه للقوانين التى تحكمه كما قال ليبنيز لكن الكون ارتكب خطأ تطوير الوعى فما كان من الله الا ان تدخل عبر الوحى لتصحيح الوضع.
فالوحى هو مفردة اخرى يصعب جدا تفسيرها فى اطار نظريات الفيزياء و التطور وهنا يقف الدهرى حائرا و يقف المؤمن أحير منه.

المسيح الأخير و الهلع الكونى و قمع الوعى


كتاب (المسيح الأخير The Last Messiah) هو رسالة للفيلسوف النرويجى العميق لكن المغمور بيتر ويسل زافى Peter Wessel Zapffe يقدم فيه خلاصة للوجودية و العبثية و فكرة الانسان-الخارق (الاوبرمان) لنيتشة. 
فى هذه الخلاصة فان زافى يقبل تشخيص الوجودية (نيتشة) للحالة الانسانية لكنه لا يعتقد ان الوجودية يمكن ان تقدم اى حل. اذن هو ينحى منحى التشاؤمية. 
الفكرة الاساسية الاولى التى يقدمها الكاتب فى البابين 1 و 2 هو ان الوعى هو تطور للحياة فى اتجاه خاطئ ما كان يجب ان يكون (فهو وقع فقط صدفة و كل الصدف السعيدة و الحزينة تقع على قدر سواء) فالوعى هو خطأ كونى لان كل ما يؤدى اليه هو حالة (الهلع الكونى) التى يشعر بها الانسان. 
بل هو يقارن (الوعى) فى الانسان ب (القرون الثقيلة جدا) التى كانت تميز بعض غزلان العصور الحفرية و التى انقرضت هذه الغزلان بسببها. 
اذن الوعى هو (مجازيا) قرون ثقيلة جدا يحملها الانسان و من المفترض انها سوف ستؤدى الى انقراض الانسان لكن الانسان لم ينقرض لحد الساعة لان اللاوعى يقدم حماية للانسان من الوعى و ادراكاته القاتلة و هذا الامر سوف يتكلم عنه الكاتب فى الابواب اللاحقة. 
هذا الكاتب هو الوحيد الذى وجدته يتكلم عن (الوعى كخطأ كونى) بالشكل الصريح الذى لا غبار عليه الذى نجده فى هذه الرسالة القصيرة جدا لكن الفذة. وهذا الفيلسوف بيتر ويسل زافى هو مثال نموذجى على الفرق بين الوجوديين الاكاديميين (مثل هايدغر) الذين يبحثون عن الشهرة السياسية و الوجوديين الفرنسيين (مثل سارتر) الذين يبحثون عن الشهرة و الموضة فى آن معا و بين الوجودية الانسانية الشفافة (التى يبقى افضل من يمثلها نيتشة الذى عاش وجوديته بالجنون). 

الهلع الكونى (ترجمة بتصرف شديد للبابين 1 و 2 من المسيح الاخير) 
 
فى ذات ليلة من الازمنة الطويلة (استيقظ الرجل) ووجد نفسه عاريا تحت السماء بلا مأوى فى الارض. وتلاشت كل الاشياء امام اختبار تفكيره, حيرة بعد حيرة و رعب بعد رعب توالت الاحاسيس فى عقله. 
ولما استيقظت المرأة ايضا فانها قالت للرجل اذهب و اصطد لنا شيئا (فالمرأة براغماتية و الرجل وجودى وهذا تعبيرى). 
وذهب الرجل لكنه لم يصطد بل انتحر بعد ان ادرك اشتراكه مع الحيوان فى هذه المعاناة الكونية (وهذا فهمى للفقرات اللاحقة). 
ماذا حدث يا ترى. 
هل هو صدع وقع في بنية الحياة ذاتها، أم هى مفارقة بيولوجية، أم هى لعنة طبيعية، أم هو عبث. 
لقد تجاوزت الحياة هدفها, بل هى قامت بتدمير نفسها. 
لقد تم تسليح هذا الكائن تسليحا ثقيلا بهذا الوعى. فهذه الروح جعلته كائنا عظيما لكن هذه الروح نفسها تتهدد مصلحته. ورغم عينيه الجديدتين اللتين ينظر بهما فان الانسان مازال متأصلا فى المادة. فروحه مازالت خاضعة للقوانين الكونية القهرية لهذه المادة. 
و رغم هذا فان الانسان مازال يرى ان المادة غريبة، ويقارن نفسه بكل شيء. 
 فهو أتي إلى الطبيعة كضيف غير مرغوب فيه، و عبثا بسط ذراعيه يستجدي صانعه, لكن لا تجيب الطبيعة. 
فالطبيعة قامت بمعجزة فى الإنسان ، لكنها انكرته بعد ذلك. 
لقد فقد الانسان حقه في الإقامة في الكون، وأكل من شجرة المعرفة وطرد من الجنة. 
لقد خان الكون الانسان و تركه محتارا مرتعبا. 
لقد كان الحيوان يعرف الخوف ايضا. 
لكن الانسان اصبح يخاف من الحياة نفسها بله اصبح يخاف من ذاته نفسها.
الخوف فى الحيوان كان محصورا. اما فى الانسان فانه خوف من العالم و يأس من الحياة. فالانسان يدرك انه لا يوجد شيء من دونه. فالعالم ليس الا صدى لصوته. (وهذا يرعبه دون ان يعرف سببا واضحا لذلك). 
 و يشعر هذا الانسان بملامسة الجنون لعقله. فيرغب فى ملاقاة الموت قبل ان يفقد هذا الخيار الاخير ايضا.


و بينما يقف الانسان امام الموت الوشيك، فانه يدرك طبيعته، و المغزى الكوني للخطوة القادمة (و الضمير يرجع على الموت لكن الابلغ ان يرجع على الانسان نفسه). 
 فالخيال الابداعى للانسان (وهنا قد يُقصد بالخيال الخيال على طريقة المتصوفة من امثال ابن عربى او على طريقة النفسانيين من امثال جونغ)  يبني آفاقا جديدة ومخيفة خلف ستار الموت، ويرى الوعى أنه حتى فى الموت نفسه فانه ليس هناك ملجأ (وهذا من ابلغ ما يكون). 
 يمكن للانسان الآن تمييز الخطوط العريضة لحالته البيولوجية-الكونية: فهو ليس الا أسيرا للكون لا حول ولا قوة له، مضطر للوقوع في امكانيات مجهولة (وهذا يشبه فكرة التكرار الابدى لنيتشة). 
هنا يصل الانسان الى (الهلع الكونى) وهى حالة سوف يشعر بها اى عقل انسانى (مفكر و يفكر: هنا ليس كل الوعى على قدر سواء فالوعى نسبى و متفاوت). مصيبة الانسان (لم يستخدم المؤلف كلمة مصيبة) انه تطور اكثر بكثيرا من احتياجاته البيولوجية-و-النفسية-و-المجتمعية بل هو تطور الى الحد الذى اصبح فيه غير-مؤهل للحياة. فالوعى جعل الانسان غير مؤهل للحياة بل الوعى فى الانسان مثل القرون الثقيلة جدا التى تميزت بها بعض غزلان الحفريات القديمة و ادت الى انقراضها. الوعى اذن يجب ان يؤدى الى انقراض الانسان فالوعى ثقيل جدا لا يمكن للانسان مواصلة حمله و تحمله.


التحديد الاعتباطى لمحتوى الوعى (ترجمة بتصرف شديد للابواب المتبقية من المسيح الاخير)

 اذا كان الوعى خطأ كونى فيجب ان ينقرض الانسان. 
لكن لماذا لم ينقرض الانسان? 
لماذا لا نجد الا قلة قليلة من الناس هى فقط من لم تتحمل الحياة تحت عبء هذا الوعى? 
الجواب يكمن فى (التحديد الاعتباطى لمحتويات الوعى) من قبل هذا الانسان. فالانسان عن وعى تام منه يقوم بقمع الفائض الضار من الوعى لديه. وهذا القمع هو شرط ضرورى من اجل تحقيق العيش الصحى و الطبيعى مع نفسه و فى مجتمعه. (وهذا من اكبر المفارقات: حتى تعيش سعيدا يجب ان تقمع الوعى عندك). 
هذا القمع الذى يمارسه لاوعى الانسان على وعيه (وهذا تفسيرى) من اجل تخفيف عبء العقل و الفكر يتبع اربعة ميكانيزمات اساسية هى الاعزال و الارتساء و الالتهاء و التسامى. 
اما الاعزال isolation فهو الصرف الاعتباطى من الوعى لكل الافكار و المشاعر الهدامة. وهذا يقع عند العوام و يقع عن لاوعى. 
اما الارتساء anchorage فهو خلق نقاط ثابتة او بناء جدران محيطة بسائل الوعى وهذا مما يسمح بخلق قيم و معانى يركز عليها الوعى اهتمامه. هذه القيم و المعانى الارتسائية هى كذب-حياة يسمح للانسان ان يعيش بسلام نسبى فى عالم-حالم. وهذا الميكانيزم -الارتساء- يطبق ايضا على وعى المجتمع مثلما انه يطبق على وعى الفرد فمفاهيم (الله و المسجد/الكنيسة و الدولة و الاخلاق و القدر و قوانين الحياة و الناس و المستقبل) هى كلها نقاط ارساء او ارتكاز جمعية. و الخطر كل الخطر ان يكتشف الوعى ان ارتساءاته لا تجيب بشكل صحيح عن مشاكل الحالة الانسانية او انها خاطئة من الاساس. فالمدخل الى العبثية النيلية او العدمية هو انهيار ارتساءات الوعى. و اعتقد ان هذا هو حال اغلبية المؤمنين. 
الميكانيزم الثالث هو الالتهاء distraction وهو الهاء أو تشتيت الوعى (بوعى او بلاوعى) عن التركيز على المعضلات الوجودية عن طريق اغراقه المستمر فى مشاغل و افكار و مشاكل الحضارة و المدنية و المجتمع. وهذا هو حال المجتمع فى عمومه و بخاصة الطبقة المثقفة منه. 
اما الميكانيزم الرابع فهو التسامى sublimation فهو توجيه اهتمام الوعى من القضايا الوجودية الى القضايا العلمية و الفنية و الادبية و هذا هو حال العلماء و الفنانين و الادباء. 
اذن هذه الميكانيزمات الاربعة (الاعزال و الارتساء و الالتهاء و التسامى) هى الميكانيزمات التى يتمكن بها الوعى من انقاذ نفسه من نفسه و هذا هو سبب عدم وقوع الانسان فى الانتحار الجماعى و سبب عدم انقراض الجنس البشرى. 
ومن هنا ايضا نرى ان الانسان البدائى افضل حالا من الانسان المتطور فهو لا يحتاج الى كل هذه الميكانيزمات حتى يعيش بشكل صحى لانه اقر بشكل طبيعى الى الطبيعة. 
هذا الفائض الاستعرافى (الفائض فى الوعى) الذى ادى الى هذا الهلع الوجودى و الى كل هذه الميكانيزمات من اجل الحماية ضد هذا الهلع الوجودى ارادت استغلاله بشكل بناء (عبر العنف و عبر التحليل) كل من الشيوعية و علم النفس. 
و طالما أن الجنس البشري مازال متوهما بأنه مسيرا بيولوجيا نحو النصر فان لا شيء سوف يتغير. وسيستمر البشر في الحلم بالخلاص وبالتأكيد و بالمسيح الجديد. وسيظهر المسيح الاخير. 
وهو الرجل الذى سيسلم روحه عارية الى العبث و الفناء. 
هو الرجل الذى وعى الحياة و اساسها الكونى. 
هو الرجل الذى يتألم بألم الارض الجمعى. 
الرجل الذى سيصرخ برسالته: (حياة العالم عبارة عن نهر يزأر, لكن الأرض عبارة عن بركة ركود. علامة الهلاك مكتوبة على حواجبكم, لماذا اذن أنتم تركلون ضد وخزة الدبوس. فهناك غزو واحد وتاج واحد وفداء واحد وحل واحد. اعرفوا أنفسكم و كونوا عقيمين ودع الأرض تصمت من بعدكم).

حول وجودية الموت و ليس عدميته


هل يجب ان نخاف الموت? نعم.
فالانسان كائن طبيعى يخاف من المجهول و كل شيء لم يجربه فهو شيء مجهول بالنسبة اليه حتى يجربه مهما حدثوه عنه. والانسان من الطبيعى جدا ان يخاف من الموت. 
ومن لا يخاف الموت فهو كائن متبلد. و التبلد اسبابه كثيرة. 
و هنا مباشرة قد يقول لك البعض من المتذاكين ان المؤمن لا يخاف من الموت. فأقول اذن المؤمن هو من اكبر المتبلدين و اسباب تبلد مشاعره و احاسيسه تجاه الموت هو الايمان العقائدى بالغيب (والايمان العقائدى او الدوغماتيكى هى كلمة ترجع الى كانط الذى وصف بها نفسه -وهو مؤمن- بعد ان قرأ لهيوم -وهو دهرى- فتفتح عقله و تفتحت مشاعره و تفتح ايمانه بسبب علم اخذه من دهرى). 
لكن الايمان يمكن ان يساعدنا على عدم الجزع امام الموت او امام تهديد الموت (وهنا نحتاج الى القفزة الايمانية لكيرغارد او ارادة الايمان لعالم نفس الدين وليام جايمس وربما كنا نتمنى هنا ايمان العجائز للفخر الرازى وهو فعلا سيساعدنا على مواجهة الموت ليس لانه ايمان بل لانه عجائز و العجائز قد شبعن و مللن من الحياة و لهذا فهن لا يخفن من الموت). 
وعندما نتأمل فى الموت فاننا نرى ان ايمان الدهرى فى اللاشيء هو فى الحقيقة لا يقل رعبا عن الرعب الذى يؤمن به المؤمن (ويسميه غيب). 
فالدهرى يعتقد انه عندما يموت فان الوعى او العقل يتلاشى و يسقط فى النسى و السلوان وهذا شيء مرعب وهذا ما يؤكد عبثية الحياة (كما رآها نيتشة). 
لانه اذا كان مصيرنا هو السلوان فلماذا الوعى و العقل و الحياة اصلا. 
وهذا يشبه كثيرا (ولو فى اتجاه عكسى) كيف يمكن ان يكون هناك شيء من لا شيء (التى يحبها الدهريون و القائلون بقدم العالم و بعض المؤمنين حتى مثل ابن عربى و ابن تيمية). 
وهذه فعلا وجهة نظر فاذا كان كيف يكون شيء من لا شيء (اى كيف ابتدأ العالم من العدم كما يصر على حقيقة ذلك الغزالى و اغلب المؤمنين) فان سؤال وجيه آخر هو لماذا الحياة و الوعى و العقل و العلم و كل هذا الهول اذا كان المصير هو النسى و السلوان. 
اذن القضية الثانية تذهب فى اتجاه المستقبل عكس القضية الاولى التى تذهب فى اتجاه الماضى (والفيزياء تصر من جهتها انه لا فرق بين الماضى و المستقبل). 
ثم ان الموت على وجهة نظر الدهرى سينتهى بنا الى النسى و السلوان الذى يعنى بعبارة اخرى ان الجسد يرجع الى الذرات اما الروح فتفنى و تتلاشى. 
اذن هناك معضلة لضياع المعلومات اشد من معضلة ضياع المعلومات فى الثقب الاسود. هنا الموت مثل الثقب الاسود تضيع فيهما الروح او المعلومات. 
هنا يتفق المؤمن و الدهرى لانهما يتفقان على ان الروح (بالنسبة للمؤمن) لا تفنى اما الدهرى (الفيزيائى) فيقول بل الروح تنبعث من المادة فهى ليست شيئا مستقلا وهى لن تفنى اذن لان المادة لا تفنى. 
لكن وجهة نظر الدهرى فى الموت تبقى فى رأيى اقل رعبا -رغم انها مرعبة- من وجهة نظر المؤمن. 
فبعض المؤمنين انفسهم (او قليل جدا منهم) يتمنى من الله السلوان و النسى و التلاشى و انعدام المعلومات و الروح (ألم يقل عمر بن الخطاب ليتنى كنت هذه التبنة). اذن عمر ابن الخطاب وهو ملهم شعر بما شعر به نيتشة و نحن نشعر بهما. 
اما المتبلدون فهم لا شعرون بشيء و لا يخافون من الموت و يقول لك شجاع او مؤمن او شهيد او دهرى او اى شيء آخر يجعله لا يشعر برعب الموت. 
لكننا لماذا نخاف من الموت? 
اكيد اننا نخاف الموت لاننا نخاف من الألم. لكن ألم الموت قد يكون مقتضبا جدا. فاننى رايت أبى رحمة الله عليه لم يأخذ الموت منه (ولم يأخذ هو من وقت الموت) اكثر من دقيقة واحدة وقُبض. اذن ليس هو الألم. 
لكن الخوف الحقيقى و الخوف الاكبر و الخوف الخوف هو الخوف من المجهول. هو الخوف من مما سنلاقيه بعد الموت و ليس الموت فى حد ذاته. هو الخوف من المصير. اذن هو خوف وجودى حقيقى. 
لان المؤمن بالنسبة اليه الوجود ليس فقط هذه الحياة. لكن الوجود هو حياة و برزخ (بعد الموت) و بعث ثم حساب و عقاب ثم جنة او نار. و النار هى حقيقة اﻷلم. 
ثم يضيفون الى كل هذا فكرة الخلود فى الجنة -وهذا لا بأس به اكيد و لم يعترض عليه احد- و الخلود فى النار -التى يُصر عليها شعوريا و لا شعوريا كل من يعتقد انه سيذهب الى الجنة و يخلد فيها. 
فكأن خلوده غير كامل عنده اذا لم يكن الكافر خالدا من جهته فى ناره-. 
اذن هذا رعب حقيقى و هذا ما يخيفنا من الموت و ليس الموت فى حد ذاته. (وهناك ايضا خوف ان نترك اولادنا و اهلنا وأمنا و كل من كان عزيزا علينا وحده يقاسى اهوال الدنيا. هذا ايضا خوف مصاحب لخوف الألم و خوف الوجود). 
اذن هذا هو الموت فهو الظلمة التى يخاف منها الرجال (هكذا قال هيوم) والرجال يخافون منه لانه مجهول و لانه معلوم فيه خوف الم و فيه خوف مصير وجودى و فيه كل انواع الخوف التى تخطر و لا تخطر على بال. 
والموت هو اكبر علامة على مرور الزمن. 
و بسبب الموت (اقول) فاننا نشعر بالمرور بالزمن و خطورته على وجودنا. 
ولهذا فان كل تصوراتنا الوجودية الميتافيزيقية قائمة على الزمن لا يمكنها ابدا الخلاص منه (وقد حاول الغزالى ذلك). فالله خلق السموات و الارض. ثم خلق الانسان ثم كلفه ثم يميته ثم يبعثه ثم يحاسبه ثم يثيبه و يعاقبه ثم يدخله الجنة او نار مخلدا فيها. كل هذه القصة فيها زمن يمشى من الماضى الى الحاضر الى المستقبل. 
فهل هذا يعنى ان الله يدخل فى الزمن كما قال بعضهم. يستحيل. فكل هذه الازمان و حتى الخلود فى الجنة او النار وحتى النسيان و السلوان كله يراه الله سبحانه و تعالى دفعة واحدة. 
استنتج اذن ان كل هذه القصة الوجودية الغيبية هى قصة واحدة فقط من عدد لانهائى من القصص الوجودية الغيبية الاخرى التى يراها كلها الله سبحانه و تعالى دفعة واحدة و مرة واحدة. 
فهناك عدد لانهائى من الآوادم و عدد لانهائى من الانسان و عدد لانهائى من الانسان الكامل اى عدد لانهائى من المحمدان و عدد لانهائى من الاكوان و عدد لانهائى من الارضين و عدد لانهائى من الازمان و عدد لانهائى من الجنات و النيران و عدد لانهائى من السلوانات و النسيانات و عدد لانهائى من الموتان. 
ونحن ليس الا جزء لامتناهى فى اللاأهميه من كل هذا الغيب الوجودى الالهى ثم نقلق بعد ذلك و نجزع من الموت الوحيد اللامتناهى من اللاأهمية الذى يتربصنا. هذا ليس معقول بل هو ليس من العقل اصلا. 
فكما ترون كل شيء ومنه نحن و حتى هذا الموت نفسه الذى يرعبنا عبث فى مسرح الوجود الالهى الغيبى الخارج عن الزمن (وهذه وجودية ميتافيزيقة ممتازة تعدت وجودية نيتشة بالكامل).

اعظم قصة فى الفلسفة و العلم و الأدب و الفن


 و اعظم قصة فى الفلسفة و العلم و الأدب و الفن هى قصة خلق آدم و قصة عصيان ابليس و قصة الهبوط الى الارض. فهى أم جميع القصص. فهى القصة التى يفهمها بكل سهولة عجائز الارض وعجائز الفخر الرازى. لكنها القصة التى عجز عن فهمها جميع الفلاسفة من المؤمنين و من الدهريين على قدر سواء. فهى طبقات من الفهم و العمق يختلف فى ادراكها وادراك قعرها و ادراك حقيقتها اختلاف العلماء و الفلاسفة و الصوفية و الانبياء. 
فيفهمها العامى عن النبى بشكل و يفهمها النبى بشكل لا يعلمه الا النبى (فهم يدعيه السلف و الائمة) و ايضا هى قصة يفهمها العالم و الفيلسوف عن النبى بشكل و اشكال مختلفة ثم يفهمها المتصوف بشكل آخر اعمق (حسب ما يقوله لنا) لكن لا يعلمه الا المتصوف. 
 فهذه القصة هى القصة التى تجعل للحياة كل معنى. 
لكنها هى ايضا القصة التى تجعل لكل بحث عن معنى للحياة عبث لا معنى له. 
وهى القصة التى تنبنى عليها جميع القيم. او على الاقل جميع القيم الايمانية. 
والايمان يبدأ بها و سينتهى عندها فى الاخير. 
والعلم لا يبدأ بها لكنه لا يستطيع تجاوزها ثم يدعى عدم اكتراثه بها اما الفلسفة فهى تكترث و تريد ان تتجاوزها لكنها لا تستطيع. 
والعقل فعلا يحار فى فهم القصة. فالعقل يحتاج الى مقدمات ايمانية اخرى حتى يتمكن ان يفهم هذه المقدمة ام جميع المقدمات. 
لكن العقل يجب ان يسلم الزمام للايمان فى لحظة معينة حتى لا يصطدم بنتائج هذه القصة و تسليم الزمام هذا سماه كيرغارد فيلسوف الوجودية الاول بالقفزة الايمانية وهى فعلا قفزة. 
والمشكلة ليست فى القفزة لان العلم نفسه يحتوى على قفزات و اعظم نظرية علمية و هى (الميكانيك الكمومى) الذى هو اساس أم العلوم التى هى (الفيزياء) يبدأ من قفزة لا يشك فى ذلك الا من لا يفهم الامر على حقيقته. 
و قفزة (الميكانيك الكمومى) نقبلها كمسلمة لانها تفسر بنجاح الوجود المادى و قفزة (قصة الخلق) يمكن ان نقبلها كمسلمة لانها تفسر ايضا بنجاح (عبثية الحياة و نهاية الوعى). 
اذن القفزة ليست مشكلة فى حد ذاتها فترى مثلا ان الفلسفة نفسها هى ليست الا مجموعة من القفزات المعقولة و الجنونية (و الانتحارية) التى لا يستطيع اى منها تعويض قصة الخلق الاول. 
اذن القفزة ليست مشكلة لكن القصة مشكلة فهى تبدأ بها جميع التنظيرات الدينية الابراهيمية. 
اذن هناك (كون) وهناك (خالق) لهذا الكون ارتأى (لحكمة مجهولة) ان يخلق (شيطان) قبل ان يخلق (الانسان) بأحقاب طويلة لا نعرفها ثم اعطى الله هذا الشيطان (حرية حقيقة) فعصى بها رغم انه لم يتألم يوما و لا خاف يوما و لا جاع يوما فى وجوده و لم يتمنى هذا الشيطان شيئا لم يحققه ولا معرفة لم يدركها و كان فى الملأ الأعلى من المقربين و لم يكن يخشى لا الموت و لا النار و لم يطلب منه هذا الخالق اى تكليف او عبادة أو استخلاف و لا طلب منه بعدا عن شر و لا تقربا من خير و رغم كل هذا الوجود (المجانى) الذى ليس فى الامكان احسن منه الا ان هذا الشيطان عصى (امر) ربه بالسجود لهذا الانسان فهو كان يراه اقل منه (فعصى بارادته) ثم (جادل بعقله) فحق عليه العذاب المقيم لكنه عذاب مؤجل الى (يوم الدين). 
وهنا فقط فى وسط القصة يظهر دور (العقل) كمجادل و دور (البعث) كنهاية حتمية للخلق و هذا لم يتم ذكره فى بداية القصة. فهل كان يا ترى هذا الشيطان يعلم بيوم الدين قبل عصيانه (اعتقد نعم). 
اما الانسان فأخذ فرصته ايضا كاملة ب (الحرية الحقيقية) و (العقل) و (الجنة) ثم ايضا (المرأة) رغم انه كان فى الجنة الا انه احتاج الى المرأة فاعطاه الله اياها فكان يعيش بدون اى خوف لا من وحدة و لا من جوع و لا من خوف و لا من موت و لا من بعث و لا من نار و رغم كل هذا فقد عصى هو الآخر لكنه تاب فتاب عليه الله سبحانه و تعالى. لكن الله انزله من الجنة الى الارض عقوبة بارادة منقوصة (هى الارادة المنظوريانية) و عقل تغيب عنه المعرفة الكاملة و الارض ليست هى الجنة و المرأة سيصيبها الزمن. لكن الحقيقة تبقى ان الانسان اخذ فرصة ثانية لانه تاب اما الشيطان فهو لم يعطى الا التأجيل (فهذه هى فرصته الثانية) لانه عصى الله ثم كابر فى عصيانه و رفض ان يتوب و اصر على ذلك.
وهذا هو اصل الشر. لكن الانسان مشارك فيه بعصيانه ايضا لا شك فى ذلك. 
اذن (الشيطان) هو النسخة الاولى من (الخلق) اما (الانسان) فهو النسخة الثانية وهى النسخة الافضل لسبب قدرة الانسان على التجاوب مع الامر الالهى بالطاعة و العصيان معا. 
اذن هذه هى القصة وهى كما ترون -اذا رأينا الامر بمنظور الابداع- لا يوجد ابدع منها فى كل تاريخ الفلسفة و العلم و الادب. 
وهى قصة متناسقة -اذا قرأناها بمنطقها- و ليس بمنطق الفلسفة و العلم فان الامر لن ينفع الا عن طريق قراءتها بمنطقها الذى يحكمها. 
فهى تشبه قصص السوبر-هيروس فالبطل الخارق او السوبر-هيرو هو (آدم) اما الشرير الخارق او السوبر-فيلان فهو (ابليس) أما الجنة-و-الكون-الارض فهى المارفال او الدى-سى ينيفرس اما الله سبحانه و تعالى فهو مؤلف هذه القصة (الكون-و-الخلق) لحكمة مجهولة لا يعلمها الا هو جل و على. 

 الكائن الملعون 


 تصوروا كائنا اعطاه الله العلم اليقينى المباشر الجازم.. واعطاه الارادة الحرة الحقيقية.. واعطاه الحياة الابدية و الصحة السرمدية و السعادة التامة... ثم اعطاه بعد كل هذا العطاء القرب منه سبحانه و تعالى .. ثم بعد ذلك يأمره الله سبحانه و تعالى بالسجود لآدم فيرفض بل يرفض بكل بساطة.. 
وحجته البائسة انه افضل منه.. و حتى لو كان هذا صحيحا فهو ينسى او يتناسى ان الله اعطاه افضل منه (العلم و الارادة و الحياة و القدرة و السعادة و القرب) فى اكمل صور هذه الصفات. 
فهذا كله لم يحصل عليه آدم الا نسبيا و لا حصل عليه اى احد آخر من بنى آدم حتى النبى محمد صلى الله عليه و سلم الا منقوصا. 
ثم يصر ذلك الكائن اللعين على غيه و يتوعد بنى آدم بالتضليل و التكفير و التفسيق.. ثم يأتى الانسان بعلم جزئى و ارادة جزئية و حياة جزئية و قدرة جزئية و سعادة جزئية وقرب جزئى و يُطلب منه هو الآخر السجود فبعضهم يُلبى و بعضهم يُقصر و بعضهم يَكفر.. 
اذن معضلة الشر مفهومة تماما فهى اصلها: الشيطان اللعين و الانسان المقصر.. 
اذن الفهم العامى (على الطريقة التى دعى اليها تولستوى) و الفهم الظاهرى للسلف كافى جدا بل هو مرضى جدا للاجابة على هذه المعضلة.. 
ولا يهم ان الله بعلمه القديم يعلم ماذا سيفعل هذا الشيطان و هذا الانسان فالمسؤولية غير ساقطة ابدا و هى واضحة بالكامل.. 
ولا يهم ايضا ان الله يخلق كل شيء حتى افعال هذا الشيطان و افعال هذا الانسان فالمسؤولية ليست ساقطة مع كل هذه النعم التى اعطاها الله للشيطان ثم للانسان.. فالله اعطى الشيطان اللعين التجربة الكاملة (علم تام و ارادة حقيقية و حياة ابدية و قدرة كاملة و قرب غير مسبوق) لكنه تكبر و عصى. 
ونفس الشيء بالنسبة للانسان فرغم ان تجربته ناقصة (علم ناقص و ارادة جزئية و حياة مؤقتة و قدرة تمرض و قرب نسبى) لكنه يبقى مسؤول مسؤولية تامة اذا عصى ولا يلومن الا نفسه. 
اذن الشر مصدره الشيطان بشكل تام و الانسان بشكل جزئى وهو خلق الله يخلقه الله عند تمام الاسباب من الشيطان و الانسان لانه يدخل داخل الامر او الارادة الكونية التى لا تتتأخر (السببية) رغم ان الامر او الارادة الشرعية نهت عنه (وهذا كما فسر الفرق بين الارادتين او الامرين ابن عربى ثم ابن تيمية). 
اذن شطحات الصوفية و على رأسهم الحلاج وبدرجة اقل ابن عربى بخصوص تبرير ما فعله الشيطان هى شطحات لا اصل لها فى العقل قبل الشرع. وهى شطحات خطيرة جدا على الايمان. 
الشيطان لعين ملعون فقد أُعطى كل شيء وعصى و لم يرجع و يتب وهذا مما يصعب فعلا تقبله تحت اى منظور مع كل ذلك العلم و الحرية و العمر و القرب الذى كان فيه. اما الانسان فهو فى رحمة الله فقد اعطى الجنة فعصى فندم و تاب و اناب فتاب عليه الله و اعطاه فرصة ثانية فى هذه الدنيا. 
اذن ادعاء ابن عربى -وهو الوحيد الذى قدم محاولة حقيقية فى هذا الامر- انه لا وجود للشر فهذا مبالغ فيه جدا جدا. فرأى الغزالى و ابن تيمية افضل فالشر موجود مخلوق لله مكتسب للانسان اصله المتين فى الشيطان الملعون. 
و اما سؤال الوجودية الاساسى لنيتشة (وهو سؤال مرتبط عضويا بمعضلة الشر) لماذا وُجدنا اساسا فهذا يبقى محل تفكير لكن اقرب الاجوبة ما قاله ابن عربى ان الاعيان ترغب فى الوجود بل هى ارادت الوجود فُوجدت فهذا اذن هو ايضا يقع تحت مسؤوليتها ليست مسؤولية احد آخر. 
فلا يلومن احد الا نفسه لان عينه الثابتة هى التى ارادت الخروج الى الوجود.



فرانك تيبلر و النقطة اوميغا

و اذا سُئلت ماهو اغرب كتاب وقع بين يديك فاننى ساقول ان كتاب فرانك تيبلر المعنون ب (فيزياء الخلود) الذى يعرض فيه نظريته الميتافيزيقية المسماة (نظرية النقطة اوميغا) هو اغرب كتاب فيزيائى-فلسفى على الاطلاق رأيته شخصيا. 
الرجل اعتقد انه مغرور -وهذا لا يعنى بالضرورة انه مخطىء- لكنه مغرور لانه يصر ان نظريته هذه هى نظرية فيزيائية و ليست نظرية ميتافيزيقية. 
 و أهم مسلمة تقوم عليها هذه النظرية هى نوع من المبدأ البشرى او الانطروبيكى القوى جدا خلاصتها (ان الحياة اذا وجدت و هى قد وجدت فهى لن تفنى و لن تنقضى ابدا). 
النقطة اوميغا عند تيبلر هو وعى كونى شامل وهو الله بالضبط و هو ليس الله عند الفلاسفة بل هو الله فى الديانات الابراهيمية. 
الفكرة الاساسية الاخرى التى ينطلق منها تيبلر هو ان الكون (اذا كان مغلق) مازال يعيش على الاقل مائة مليار سنة (عمر-ذاتى) فوق ال (13 مليار التى عاشها) و اذا كان الكون مفتوح و مسطح فهو سيعيش مالانهاية من العمر الاضافى. 
اذن اغلب الفضاء-زمن هو مازال فى المستقبل. 
والله فعلا مازال غير موجود بل هو سيوجد فى المستقبل فى النقطة اوميغا (وهذه عندى اغرب نقطة على الاطلاق و اكثر النقاط اثارة للانتباه و الاهتمام). 
اذن مفهوم الله عند تيبلر هو نوع من وحدة الوجود (على طريقة ابن عربى بشكل ملفت للانتباه) يأتى وجوده فى مراتب و مستويات مختلفة. 
اذن المستقبل هو الاساس (وليس الماضى و الحاضر) فى عمر الكون و الله هو الوجود (وليس موجود) و الحياة لا تفنى (المبدأ الانطروبيكى وتحكمها اى الحياة دالة موجة الكون) و الله الذى هو الوعى الكونى فى المستقبل الذى هو النقطة اوميغا هو التجلى النهائى للذات الالهية فى هذا الكون. 
ولكن أهم شيء يبرهن عليه تيبلر (او يدعى انه يبرهن عليه) وهو سبب كتابة الكتاب فى الحقيقة هو البعث و المعاد (الجسدى و ليس الروحى فقط) و ان كل من عاش و يعيش و سيعيش سيتم بعثه من جديد فى النقطة اوميغا. 
اذن هذا هو الرجوع الى الذات الالهية. 
وهناك نظرات كثيرة يأتى بها تيبلر فى مقدمة كتابه يصعب الاحاطة بها فى هذا المنشور. هذا الكتاب هاجمه اغلب الفيزيائيين النظريين لكن بعضهم وقف معه مثلا دايفيد دويتش -وهو اساس المعلوماتية الكمومية- فانه يأخذ نظرية النقطة اوميغا كمكون اساسى (من بين اربعة مكونات اخرى) فى نظريته الميتافيزيقية التى يدعو اليها. 
اذن هؤلاء الفيزيائيون النظريون اصبحوا ميتافيزيقيون نظريون من العيار الثقيل و ميتافيزيقيتهم قد تخرج عن اطار فلسفة الفيزياء مثل هذا العمل من قبل فرانك تيبلر و تدخل فى اطار علم الكلام المسيحى (او الدينى بصفة عامة) الذى تطور جدا جدا ولم يتوقف عند كلام قدمائهم كما حدث لكلامنا الذى تكلم به القدماء و المحدثون و لم يزيدوا عليه شيئا.

بين نيتشة و فرانك تيبلر

 (الانسان-الممتاز ubermensch) عند نيتشة هو الانسان الذى يقبل عقيدة (الرجوع الابدى eternel return) اذن الزمن دورى cyclic و كل شيء وقع سيقع مرة اخرى بل كل شيء فى الكون وقع و سيقع بنفس الطريقة عدد لانهائى من المرات. 
و هذا بالضبط ما يحدث فى متعدد-الاكوان multiverse كما ناقشنا ذلك فى منشورات قديمة. 
فتناهى المادة-و-الطاقة مع لاتناهى الفضاء-و-الزمن يؤدى مباشرة الى تكرار كل حادث عدد لانهائى من المرات. 
 و قد قدم نيشتة برهانا على (الرجوع الابدى) هو تقريبا صحيح تماما بهذا المحتوى بالضبط. 
 اذن الحياة ليست ذات معنى meaning و لا قيمة value و لا يوجد الا هذا التكرار الابدى الجهنمى وهذه هى العدمية و العبثية او النيلية nihilism كما سماها نيتشة. 
 الانسان-الممتاز هو الانسان الذى سيقبل او بالاحرى الذى سيحتضن بل سيُحب هذه العبثية و هذه العدمية. 
اما الانسان ما قبل الانسان-الممتاز فهو رغم هذه العبثية وهذه العدمية فانه لا تحكمه الا (ارادة القوة will to power). و (عقيدة الرجوع) و (ارادة القوة) هما الاساسان المتينان لفلسفة نيتشة حسب هايدغر وهو اكبر مفسر لنيتشة وهو الفيلسوف العملاق فى حد ذاته. 
 اذن (سيزيف) الذى اخذه البرت كامو نموذجا لفهم عبثية و عدمية نيتشة هو الانسان العادى الذى يسعى نحو (ارادة القوة) رغم هذه العبثية و قد يكون هو الانسان-الممتاز الذى احتضن هذه العبثية ولهذا يقول كامو ببلاغة (علينا ان نتصور ان سيزيف سعيد). ومن هنا يصل كامو الى نتيجته الفلسفية الاساسية (ان الاقدام على الانتحار هو المعضلة الفلسفية الحقيقية الوحيدة). 
ووجدت فرانك تيبلر يُعلنها حرب شعواء على نيتشة و فلسفته و بالخصوص عقيدة (الرجوع الابدى) فى الفصل الثانى من كتابه (فيزياء الخلود) على اعتبار انها فلسفة سوداوية يأسية ضد نظرية التطور -فى جانبيها الفلسفى و العلمى- و على هذا فهى فلسفة مناقضة للفلسفة التفاؤلية التى تحتويها (نظرية النقطة اوميغا). 
فنظرية التطور هى احد اسس (نظرية النقطة اوميغا) فاذا كان الانتقاء الطبيعى natural selection ادى الى ظهور الحياة من المادة ثم ادى الى ظهور الوعى من الحياة و ظهور الوعى-الذاتى او العقل من الوعى فانه سيؤدى الى ظهور (النقطة اوميغا) من (الوعى-الذاتى). 
اذن عقيدة (الرجوع الابدى) هى تذهب تماما ضد هذه الفكرة. 
المشكلة بالنسبة الى تيبلر ان الرجوع الابدى هى ظاهرة طبيعية و رياضية و من اكبر مبرهنات الرياضيات هى (مبرهنة الرجوع Recurrence Theorem) التى برهن عليها عملاق الرياضيات الفرنسى بوانكريه عام 1890 وهى تنص على ان حالة الجملة الديناميكية المنتهية finite و المحدودة bounded يجب ان تصف فى فضاء الطور phase space مسار دورى. 
اى ان حالة الجملة فى اى لحظة ترجع و تتكرر عدد لانهائى من المرات. الهروب من قبصة هذا التهديد حسب فرانك تيبلر هو التأثيرات الثقالية-الكمومية quantum-gravity effects. التهديد الآخر ل (نظرية النقطة اوميغا) هو (الموت الحرارى Heat Death) للكون وهذا يؤدى اليه المبدأ الثانى للترموديناميك. 
وهذا يناقشه ايضا باستفاضة فى الفصل الثانى. هنا فرانك تيبلر يقبل المبدأ الثانى للترموديناميك فهو مكون اساسى لنظريته (نظرية النقطة اوميغا) لكنه يرفض (الموت الحرارى) للكون و يتهرب من هذه النتيجة الفيزيائية. 
ولانه لا مهرب من الموت الحرارى للكون فان فرانك تيبلر يدعوا الى شيئين اساسيين فى الفصل الاول من الكتاب: - اولا السفر فى الفضاء (اى مغادرة الارض لان الشمس ستموت يقينا خلال 5 مليار سنة و الارض ستموت يقينا ايضا قبل ذلك بكثير خلال 1 مليار سنة). -ثانيا تطوير الذكاء الاصطناعى الذى يمكنه ان يتأقلم مع الموت الحرارى للكون (عندما يصل الانطروبى entropy الى قيمته القصوى و تنضب جميع منابع الطاقة فى الكون). 
 اذن فرانك تيبلر هو مدافع كبير جدا عن فرضية الذكاء الاصطناعى القوية strong artificiel intelligence التى تنص على ان الذكاء الاصطناعى سيبلغ مرحلة الوعى-الذاتى يقينا (وهذا ايضا من نتائج نظرية التطور). 
اذن هنا فرانك تيبلر ينتقد بشدة بنروز و سارل و غيرهما ممن يناهضون قضية ان الوعى حاسوبى. 
شخصيا لست لا مع و لا ضد عقيدة (الرجوع الابدى) و ليست لا و لا ضد معضلة (الموت الحرارى) لكننى اكيد ضد فكرة (حاسوبية الوعى) لكننى متسامح فكريا الى اقصى الحدود و سنقبل معه هذه الفكرة و نرى هل سيوصلنا فرانك تيبلر بشكل علمى مُقنع (كما يدعى) الى الله. 
فى الاخير انوه ان فكرة (نظرية النقطة اوميغا) ترجع فى الاصل الى القس اليسوعى الفرنسى بيار تايلهارد دو شاغدان Pierre Teilhard de Chardin (فى الصورة وهو ايضا عالم حفريات شارك فى اكتشاف رجل بيكين) الذى فى محاولته التقريب بين تعاليم الكنيسة و نتيجة العلم الحديث (و بالخصوص نظرية التطور) جاء بهذه الفكرة حيث ان النقطة اوميغا تمثل بالنسبة اليه اليسوع عيسى عليه السلام (حسب عقيدة التثليث عند المسيحيين. اذن هو الرب يسوع). 
أنبه فى الاخير ان فرانك تيبلر هو ملحد دهرى و ليس مسيحى مؤمن رغم ان اراءه تبدو و كأنها مدافعة عن الدين -وهى على التحقيق فعلا كذلك- و مع هذا فاراءه مثل اراء دو شاغدان لم يقبلها لا العلماء و لا الكنيسة فهى شاذة عند هؤلاء و شاذة عند هؤلاء. 
اقول ان فكرة (النقطة اوميغا) تشبه فكرة العوالم الثلاثة (مادى و خيالى و عقلى) و العالمان العلويان (التعين الاول و التعين الثانى) لابن عربى و لو ان فلسفة ابن عربى تحتوى على تعقيد اكبر بسنوات ضوئية. 
وارى ايضا ان فكرة (النقطة اوميغا) تحتوى فعلا على محاولة كلامية غير مسبوقة صراحة لا فى الشرق و لا فى الغرب للتقريب بين الدين الابراهيمى و العلم التجريبى. ولا يهم ان روادها مسيحى مؤمن و فيزيائى ملحد فغيرهم مثلا الفرنسى هنرى كوربان اخذ فكرة ابن عربى (عالم الخيال) للدفاع عن التثليت المسيحى. اذن يمكننا ان نأخذ افكارهم و تحويرها للدفاع عن افكارنا مثلما اخذوا افكارنا وحوروها للدفاع عن افكارهم.

علم النهاية او فلسفة الموت هى نظرية كل عين و علم البداية او فلسفة الحياة فهى نظرية كل شيء

يبدو ان الكثير مازال يعجز فعلا ان يرى ان مشكلة (الدين) و (الفلسفة) و (الكلام) و (العلم) و (التصوف) و غيرهم من المعارف هى (التغلب على الموت) بل بالاحرى المشكلة هى (قهر الموت) لا اقل و لا اكثر ولن يرضى الانسان باقل من ذلك كان المصير جنة او نارا او عدما. 
اذن (علم النهاية) أهم بكثير من (علم البداية). 
و (البداية) رغم انها صعبة بل مستعصية جدا على الفهم علميا و دينيا و فسلفيا (ولا يفهمها بسهولة بل بسهولة شديدة الا المسطحون علميا و دينيا و فلسفيا). 
 الا انه فى المحصلة (النهاية) أهم و اصعب. 
 السبب بكل بساطة ان (البداية) بدأت و انقضت و ليس لنا فيها فرصة فلا احد استشارنا فى البداية. 
و بغض النظر عن معضلات الوجود و الحرية و الشر و مهما كان حل هذه المعضلات المتيافيزيقية فان (البداية) ليس لنا فيه تأثير او اختيار. 
اما التأثير او فرصة التاثير فهى فقط فى (النهاية) او هكذا قال لنا (الدين) و (الفلسفة) و (العلم). 
و لهذا فان (علم النهاية) هو أهم بكثير من (علم البداية). 
و بامتياز اقول ان (علم النهاية) هو (فلسفة الموت) فالانسان سوف يموت و اولادنا ماتوا و سوف يموتون و احبابنا ماتوا و يموتون و سوف يموتون و محمد صلى الله عليه و سلم و الانبياء ماتوا و علماءنا و صُلاحنا ماتوا و يموتون و سوف يموتون . 
و اكثر من هذا فان الارض سوف تموت و الشمس سوف تموت و الكون نفسه بكل عظمته و جبروته سوف يموت. 
اذن اذا كان كل شيء سوف يموت فلماذا اذن كان هناك شيء فى البداية اذا كان كل شيء سوف يموت وهكذا نرجع الى (علم البداية) الذى هو بامتياز (فلسفة الحياة). كيف ادت (البداية) الى هذا (الوعى-الذاتى) الذى يجعلنا نتساءل حول البداية و النهاية معا و هذه البداية قد ادت الى ماهو اعظم من (الوعى-الذاتى) وهو (الكون) الذى بدأ و لم يكترث بتلك البداية و كأنها لا شيء و هو سينتهى و هو غير مكترث بتلك النهاية و كأنها هى لاشىء. 
 كيف لجزء من الكون ان يعى و يكترث بما لا يعى و لا يكترث به الكون نفسه. كيف للفرع ان يكون بهذه الحساسية و الاصل بكل هذه البرودة. هناك شيء فعلا فى (البداية) و (النهاية) لكن ليس لنا اى سلطة على (البداية) فلم يبقى لنا الا صراع سيزيف مع (النهاية) او مع (فهم النهاية) لانه حتى (النهاية) ليس لنا عليها اى سطة على التحقيق. 
اذن اما ان (علم النهاية) او (فلسفة الموت) هو النظرية الاساسية ل (علم البداية) او (فلسفة الحياة) أو العكس. واننى أرجح الاول. 
بل اننى اقول ان (علم النهاية) او (فلسفة الموت) هى نظرية كل عين. اما (علم البداية) او (فلسفة الحياة) هى نظرية كل شيء. اذن الحياة و الوعى فى الاخير ستجيب عنها الفيزياء اما الموت و الوعى-الممتاز فلا يمكن ان تجيب عنه الا الميتافيزيقا. 
اذن نحن لا نضيع فى وقتنا ابدا و كل اختياراتنا هى مرسومة بدقة و عن سبق اصرار و ترصد تخدم هذه القضية العويصة النى نريد ان ننظر اليها بطريقة تمتزج فيها فيزياء نيوتن و اينتشاين و بوهر مع وجودية نيتشة مع ميتافيزيقة ابن عربى مع علوم الوعى و النفس. فلا تسعجلوا علينا فاننى لست أتخبط بل أعرف جيدا اين أُريد ان أذهب رغم اننى مازلت لست متأكد اننى أعرف ماذا أُريد ان أجد فى الاخير. 
لكن خلاصة هذه الدوامة الوجودية هو قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه (وددت لو كنت هذه التبنة) اى وددت لو كنا فعلا جزءا من هذا الكون لا يعى و لا يكترث مثل الكون نفسه لو كنا كذلك لكانت المشكلة محلولة من الاساس و لا معاناة سيزيف و لا يحزنون.
 اذن نحن لسنا تماما جزء من هذا الكون بل نحن ايضا نتسامى على ابعاد هذا الكون الى خارج هذا الكون فليس هناك تفسير آخر.


نوح عليه السلام الوجودى

فيلم ممتاز حول قصة نوح عليه السلام.
القصة حسب ما يقال استمدها المؤلف من (كتاب ادريس) وهو الكتاب التوراتى الوحيد الذى لا يعتد به اليهود وهذا يجعلنى ارتاح اليه من جميع الاسرائيليات. هذه القصة فى الفيلم تحتوى على رسائل بيئية كثيرة  لكن الرسالة التى فهمتها شخصيا هى رسالة وجودية بامتياز. 
فالطوفان كان عقابا لبنى قابيل ابن آدم على طغيان الشر بينهم و هيمنة الكفر عليهم و كل رسالة نوح عليه السلام -ونوح فى القصة هو آخر احفاد شيث ابن آدم- هى فى انقاذ اسرته و اولاده سام و حام و يافث من العقاب و الطوفان واستمرار البشرية من ذريتهم بعد الطوفان. 
لكن نوح عليه السلام وصل بعد صراع نفسى طويل الى الاقتناع ان الأرض يجب ان ترجع الى صفائها و نقائها و انه لا سبيل الى ذلك الا فى انقراض جميع البشرية من ابناء قابيل و ابناء شيث على قدر سواء من على وجه الارض و ان هذا هو العدل الالهى الوحيد.
وبالمناسبة فان الفيلم من بطولة الممثل القدير راسل كرو و الممثلة القديرة جنيفر كونولى مع ممثلين شباب ممتازين آخرين.
اذن بعد ان قتل قابيل هابيل من اجل امرأة انقطع نسل هابيل و لم تبقى الا ذرية قابيل فى الارض مع شيث بن آدم و بنيه. فاول شر فى الارض و هو اعلى مراتب الشر  هو القتل و سببه سريرة ظلامية و حسد و بغض و دعواه امرأة. 
لكن ابناء قابيل لم يعمروا الارض بل دمروها و خربوها و ملؤوها بالفساد و الشر و القتل و الاغتصاب و الكفر و المرض و الفقر. فاصبحت الارض قاحلة جدباء يكاد ينقرض نباتها و حيوانها من شدة قهر الانسان لها و اصبح العرف السائد بين بنى البشر هو حكم القوى على الضعيف و حكم الغنى على الفقير و حكم الصحيح على المريض و حكم العالم على الجاهل و حكم الجميع على الفرد وحكم الشهوة على العقل حتى ان الحضارة اصبحت همجية رغم كثرة المدنية و العمران و هيمن على بنى قابيل ابن آدم الفساد و القتل و الكفر حتى انك لا تجد بينهم من يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر. 
فى هذه الارض العدمية و بين هذا الانسان الشرير عاش نوح عليه السلام معزولا حتى جاءته الرؤيا بأن الخالق سيهلك الانسان القابيلى بالطوفان و انه لا مهرب لهم منه لا لكبيرهم و لا لصغيرهم لا لقويهم و لا لضعيفهم لا لمجرمهم و لا لبريئهم. فليس هناك مهرب للانسان القابيلى من هذا المصير الطوفانى و كما قال العربى القديم الاجداد يأكلون الحصرم و الابناء يضرسون. 
وأُمر الله نوحا ببناء الفلك و اعانه فى ذلك من سكان الارض الملائكة من اخلاء آدم عليه السلام فى الجنة الذين سقطوا الى الارض مع آدم من دون اذن الخالق لهم فعاقبهم الله سبحانه و تعالى بأن تحجروا و تكلس نورهم فى الارض و بالارض. 
لكن ابناء قابيل و ملكهم سمعوا بذلك و عرفوا المقصود من ذلك وقال ملكهم لنوح عليه السلام -حسدا من نفسه و كفرا من عنده- كيف يكلمك الله و يوحى اليك و ينقذك و لا يكلمنا و لا يستجيب لدعاءنا رغم الحاحنا فى الدعاء له و اليه ليل نهار منذ عهد ابانا قابيل الى يومنا هذا. وذلك الملك لم يعى ان كثرة الدعاء لا تغنى عن الكفر و الشر شيئا بل ان كثرة الدعاء مع عدم استجابة الله له لا يمكن ان تعنى الا شيئا واحدا هو غلبة الكفر و الشر الذى طغى و هيمن على قلوب البشر. 
 فكيف يستجيب الله للكفار و الاشرار و القتلة و المغتصبون و المفسدون فى الارض. بل كيف يستجيب الله لمن كانت سريرته فاسدة و نيته افسد و اولهم قابيل الذى كان اول من صنع الشر فى الارض و لم يتب منه مثلما ان ابليس كان اول من صنع الشر فى السماء و لم يتب منه. 
فاعلى درجات الشر هو الكفر و اول بوادر الكفر هو لوم الانسان للخالق سبحانه و تعالى على احواله و افعاله رغم ان الانسان حر و اعلى درجات حريته تكمن فى خلق و ايجاد الشر. فلا يجب ان يلوم الانسان الا نفسه و لا يلومن الانسان الا نفسه. و المؤمن لا يلوم فعلا الا نفسه اما الكافر فتجده يتعدى حدوده و يتعدى مقام الله سبحانه و تعالى و يدعى الجبر او عدم الحرية او تخلى الله سبحانه و تعالى عنه وعدم استجابته لدعائه مثلما يفعل هذا الملك وهذا كما فعل اباه قابيل من قبله. 
كل هذا فهمه نوح عليه السلام ابن شيث فهو اول الرسل من اولى العزم و لم يفهمه الملك ابن قابيل لانه يمثل اباه قابيل فقد كان قاسى القلب لا يرى الا نفسه مظلوما ثم يلوم الله سبحانه و تعالى على عدم استجابته لدعائه الملح. 
اذن كانت مهمة نوح عليه السلام هى النجاة باهله و ابناءه سام و حام و يافث من قابيل و بنيه و من الشر و من الطوفان فالطوفان رآه نوح بنور نبوته (بداية كل شيء) و لذا فان مهمة بناء الفلك وعدم انقاذ بنى قابيل و تركهم و شرهم للهلاك فى الماء مهمة لا يستطيع ان يؤديها الا نبى من اولى العزم. 
 و لهذا لم يضعف نوح ابدا فى مهمته لكن اولاده و بخاصة زوجته ضعفوا و قصروا مرات كثيرة لكن نوح كان لهم دائما بالمرصاد يرجعهم الى جادة الصواب. فالأمر ليس هينا ان ترى ذلك الطوفان العظيم و ترى من تعتقد فيهم البراءة يهلكون فيه. 
لكن الانسان كان قد بلغ مرتبة من الفساد و الكفر و الشر لم يبقى فيها هناك فيها انسان برىء. فالارض كانت تحتاج الى الطوفان حتى تبدأ من جديد. والانسان الآدمى من ولد شيث كان يحتاج الى الطوفان حتى يبدأ صفحة جديدة. 
فقابيل بدأها بالقتل و القتل هو اعلى درجات الشر بعد كفر العناد بالله سبحانه و تعالى. 
 لكن صراع نوح الوجودى مع نفسه و فهمه الخاص للوحى الالهى جعله يقتنع ان الانسان بفرعيه (الفرع القابيلى الاميل للشر و الفرع الشيثى الاميل للخير) ليس فيه اى امل لا للارض و لا للانسان نفسه و ان مصير اولاده كان ايضا هو الانقراض بعد الطوفان فكان يقول لاصغرابناءه يافث (أنت ستكون آخر رجل فى الارض). 
لكن الذى حدث ان زوجة سام وهى كانت عاقرا قبل الطوفان حبلت فى الفلك فاختلت خطة نوح عليه السلام وقال لاهله اذا كان المولود ذكر (فهو سيكون آخر رجل فى الارض) لكن اذا كان المولود انثى (فانه يجب على ان اتخلص منها) فنوح من اولى العزم و عليه اتمام مهمته التى اصبحت تتمثل فى انقراض الجنس البشرى و تخليص الارض من الشر. وانجاب الانثى لا يمكن ان يكون نهاية فالانثى مثل الارض يمكنها ان تخضر و تخلف. و ايضا فان آخر الانسان فى الارض يجب ان يكون رجلا و ليس امرأة مثلما ان اول الانسان فى السماء كان رجلا ليس امرأة. 
لكن هناك امر آخر اعظم و اجل و هو حتمية اتمام مهمة و رسالة نوح التى تتمثل حسب نوح فى هذه المرحلة من تطور فهمه للوحى الالهى فى ضرورة ان (الانسان يجب ان ينقرض من على ظهر الارض) حتى (ينقرض الشر و تتعافى الارض كما خلقها الله اول مرة). 
و تزداد درامية الاحداث فزيدت زوجة سام لكنها انجبت (اثنتان من البنات) و ليس (بنتا واحدة) وهذا اسوء بكثير مما توقع نوح عليه السلام. ماذا سيصنع نوح يا ترى بعد هذا. هذه القصة هى قصة الفيلم الامريكى (نوح) من انتاج الناتفليكس عام 2013 ومن اراد معرفة النهاية فعليه الفرجة. 
القصة كما ذكرت استمدها المؤلف من (كتاب ادريس) وهو الكتاب التوراتى الوحيد الذى لا يعتد به اليهود وهذا يجعلنى ارتاح اليه اكثر بكثير من جميع الاسرائيليات. 
 كما ترون فان هذه القصة فى الفيلم تحتوى على رسائل بيئية كثيرة. 
لكن الرسالة التى فهمتها شخصيا هى رسالة وجودية بامتياز. 
 فالطوفان كان عقابا لبنى قابيل ابن آدم على طغيان الشر بينهم و هيمنة الكفر عليهم و كل رسالة نوح عليه السلام -ونوح فى القصة هو آخر احفاد شيث ابن آدم- هى فى انقاذ اسرته و اولاده سام و حام و يافث من العقاب و الطوفان واستمرار البشرية من ذريتهم بعد الطوفان. 
 لكن نوح عليه السلام وصل بعد صراع نفسى طويل الى الاقتناع ان الأرض يجب ان ترجع الى صفائها و نقائها و انه لا سبيل الى ذلك الا فى انقراض جميع البشرية من ابناء قابيل و ابناء شيث على قدر سواء من على وجه الارض و ان هذا هو العدل الالهى الوحيد. 
و كما ذكرت فان الفيلم من بطولة الممثل القدير راسل كرو و الممثلة القديرة جنيفر كونولى مع ممثلين شباب ممتازين آخرين. اذن انصح بالمشاهدة فهذا واحد من الافلام التى يتعلم فيها الانسان اشياءا جديدة لم يفكر فيها من قبل.

وهل هناك فرق بين نوح و محمد عليهما السلام

وهل هناك فرق بين نوح و بين محمد و بين دعوة نوح و بين دعوة محمد و بين قوم نوح و قوم محمد عليهما السلام (اى نوح و محمد). 
-فقد دعى نوح قومه 950 سنة و لم يستجب له احد اما محمد فقد دعى قومه 1400 سنة و الجميع يدعى انه استجاب له لكن لسان الحال ابلغ من لسان كل مقال. من هم القوم الاسوء فى رأيكم. 
-الشر هو فعل الانسان على الارض و فى الانسان. وهل يمكن ان يكون هناك انسان على الارض بدون شر. 
-وهل يمكن ان يتخلى الله عن الانسان المسلم و غير-المسلم كما تخلى الله من قبل عن الانسان الشيثى و الانسان القابيلى. فكثرة الدعاء مع قلة النصر تدلان على الغضب و التخلى و الخذلان. وهل هناك من يدعوا الله اكثر من الانسان المسلم و هل هناك اكثر خذلانا من الانسان المسلم. اذن الانسان المسلم هو قابيل هذا العصر. فمن يمثل نوح فى هذا العصر. 
-الساعة هى طوفان اكبر و طوفان نوح هى ساعة صغرى. هل الساعة يجب ان تقضى على الارض و الحياة و الانسان ام ان الساعة هى مثل الطوفان لن تقضى الا على الانسان. 
-الحل الوجودى هو انقراض الانسان من على وجه الارض و هذا قد دعا اليه فعلا و بشكل فعال مانى الفارسى و دعا اليه قبله نوح الوجودى حسب (كتاب اخنوخ الذى هو ادريس) الذى تنبأ بتدمير الله للانسان اذا واصل الانسان تدمير الارض و فعل الشر فى الارض. 
-الزمن دورى كما يقول نيتشة و القرآن كتاب يحكى عن المستقبل كما انه يحكى عن الماضى. و قصة نوح عليه السلام ستقع فى المستقبل كما وقعت فى الماضى. وكل القصص القرآنى هو ايضا كذلك.


عالم الخيال عند كوربان

حسب هنرى كوربان فى هذا المقال -ومن بعده الكتاب- فان هدفه هو تحديد المصطلح تحديدا تاما. 
(عالم الخيال) هو عالم انطولوجى حقيقى يتوسط بين عالم المادة الحسى و عالم العقل الفكرى. 
وهو عالم يقابل ملكة ادراكية محددة هى (الوعى المخيال imaginative consciousness و المخيلة الاستعرافية cognitive imagination) تختلف عن الادراكات الحسية للحواس و كذا الادراكات الاستعرافية للعقل. 
 لكن مصطلح (الخيال imaginary) مصطلح يؤدى الى الخلط و التشويش فى ذهن القارئ. 
 فالخيال هو ما يقابل اللاحقيقى و اللاموجود فى ذهن القارئ لكن الخيال هنا هو عالم اكثر حقيقية من عالم الحواس المادى. 
اذن هذه معضلة حقيقية يجب التفكير فى كيفية الخروج منها. 
هنا فان كوربن يقترح استخدام اللغة اللاتينية للتعبير عن هذا المصطلح التقنى مثلما نستعمل اللغة اللاتينية فى التعبير عن المصطلحات التقنية فى العلوم الاخرى. 
اذن عوض (عالم الخيال imaginary world) فهو يقترح ان نستعمل (موندوس ايماجيناليس mundus imaginalis). 
اذن هناك العالم المادى الحسى الذى يتضمن الانسان و الارض و الكون. وهو عالم الظواهر. 
وهناك العالم فوق-الحسى او عالم الملكوت وهو الموندوس ايماجيناليس. 
وهناك العالم العقلى عالم العقول المحضة. 
اذن بين عالم المادة الحسى (الفضاء) و عالم العقل الاستعرافى (الفكر) يوجد الموندوس ايماجيناليس. 
عالم المادة يقابل الجسم و جهاز الادراك هنا هى الحواس الخمسة. 
والموندوس ايماجيناليس يقابل النفس وجهاز الادراك هنا هى المخيلة و المخيال. وعالم العقول يقابل العقل وجهاز الادراك هنا هو الاستعراف و الفكر. 
اذن بعث و رجعة الانسان بعد الموت سوف تمر بعالمى الموندوس ايماجيناليس (عالم البرزخ) ثم الجنة و النار (عالم العقول المحضة). 
اذن ابن عربى وهو المؤسس الاساسى لهذه النظرية (نظرية الموندوس ايماجيناليس) قدم قبل ديكارت بقرون طويلة حلا للثنائية عقل-جسم لانه بالنسبة اليه لا يوجد حد لا متناهى فى صغر السمك بين عالمى الاجسام النهائى و العقول المالانهائى بل الحد هو نفسه عالم قد يكون مالانهائى هو هذا الموندوس ايماجيناليس (او عالم الخيال كما سماه ابن عربى بدون حرج و سماه تلاميذه من بعده عالم المثال وهو اسم يؤدى الى تشويش من نوع آخر لانه قد يختلط مع عالم مثل افلاطون). بالاجماع فان فكرة (عالم الخيال) التى يُترجمها العرب الى العربية بالخطأ (عالم المثال) او (عالم الصور) و التى يُترجمها هنرى كوربان الى اللاتينية بنجاح (موندوس ايماجيناليس) اى imaginal world بالانجليزية و monde imaginal بالفرنسية هى اعظم فكرة بل هى اكثر الافكار اصالة فى تاريخ الفلسفة الاسلامية فهى غير مسبوقة فى الفلسفة اليونانية. 
بل هى قد تكون الفكرة الوحيدة فى الاسلام غير المسبوقة عند اليونان. 
وأول من تكلم عنها هو الشيخ الرئيس ابن سينا. 
لكنها فكرة ترجع بالاساس الى شيخ الاشراق السهروردى (الذى يشمت فيه اهل السنة و يسمونه السهرودى المقتول) الذى عاش بين 1154 و 1191 ميلادى. 
لكنها ترجع بشكل اكبر الى شيخ وحدة الوجود الشيخ الاكبر ابن عربى الذى عاش بين 1165 و 1240 ميلادى. 
اذن السهروردى و ابن عربى كانا متجايلين. اذن من أثر فى من. 
الفرضية انه لان السهروردى اكبر قليلا (ب 11 سنة) من ابن عربى و لان السهروردى قد قُتل رحمة الله عليه سنوات طويلة قبل وفاة ابن عربى  فان السهروردى هو الذى أثر فى ابن عربى و ليس العكس (الذى هو مستبعد من الجميع بسبب الوفاة المبكرة للسهروردى مقارنة مع ابن عربى و فتوحاته و فصوصه). 
صراحة لا يوجد اى دليل على ذلك اى على هذا التأثير. 
والفكرتان (عالم الخيال عند الشيخ الاكبر و عالم الخيال عند شيخ الاشراق) متقاربتان جدا.
اذن الفكرة توصل اليها شيخ التصوف الاول عند السنة و شيخ التصوف الاول عند الشيعة بشكل منفصل  عن بعضهما البعض و هى نفس الفكرة. 
فهى اذن فكرة مُوحدة بين السنة و الشيعة بالاضافة الى كونها الفكرة الاكثر اصالة فى الفلسفة الاسلامية. 
وهى فى نظرى (وهو رأى ابن سينا و تابعه فى ذلك الغزالى) الفكربة الوحيدة التى يمكنها تقديم حساب تفصيلى و صريح (اذا صح التعبير) لظاهرة النبوة. وهذه اهمية الفكرة. 
وهذه الفكرة تلقت فيما بعد تطوير مهم جدا على يد الملا صدرا الذى اختلف مع شيخه شيخ الاشراق فى تقرير ان ملكة التخييل فى النفس (التى نُدرك بها عالم الخيال) هى ملكة غير مادية.
   Cornelis van Lit, Suhrawardī, Ibn Arabī and the World of image, One Term, Different Meanings Image. 
 Saeed Rahimian, Erfaneh Mohammad Zadeh: The Relationship between the Continuous Imaginal World and the Discontinuous Imaginative Faculty in Ascending and Descending Arcs according to Suhrawardi and Mulla Sadra.   

التراكب الكمومى الخطى يعيش فى عالم الخيال

هناك الفيزياء الكلاسيكية (نيوتن) و هناك الفيزياء الكمومية (بوهر-هايزنبرغ) وهناك الفيزياء الكمومية-الثقالية (اينشتاين-x). 
ويبقى العبقرى x الذى سيلتصق اسمه باينشتاين مجهول.
الذى يمثل الفيزياء الكلاسيكية هو الميكانيك الكلاسيكى و (الميكانيك الكمومى بعد فعل الرصد) فهذا ايضا كلاسيكى او بالاحرى كلاسيكى احصائى. 
والذى يمثل الفيزياء الكمومية هو (الميكانيك الكمومى قبل فعل الرصد) و ايضا نظريات المجال الكمومى و النظريات المعيارية و غيرها. 
وتذكروا فان الرصد measurement شيء محورى فى الميكانيك الكمومى يجمع بين الفيزياء الكلاسيكية و علوم الوعى. 
والذى يمثل الفيزياء الكمومية-الثقالية هى نظرية كل شيء اى نظرية الثقالة الكمومية اما وترية او حلقية او مصفوفية او غيرها. 
نأخذ مثال قط شرودينغر. بعد فعل الرصد القط اما ميت او حى فهذه حالة موجودة فى الفضاء-الزمن فى عالم الحواس. اما قبل فعل الرصد فالقط هو حى و ميت فى نفس الوقت (تسمى تراكب خطى linear superposition). اذن هذه حالة رغم انها موجودة فى الفضاء-زمن الا انها غير موجودة فى عالم الحواس senses بل هى موجودة فى عالم الحواس-الممتازة super-senses وهو بالضبط عالم الخيال. 
واما قط شرودينغر فى نظرية الثقالة الكمومية فهى قصة مجهولة لكن الجميع (القط و الراصد بحواسه و بحواسه-الممتازة و حتى الفضاء-زمن فانها كلها امور ديناميكية هنا). 
اذن فى نظرية الثقالة الكمومية فاننا سنرى فيها بالضبط كيف يمر القط عند الرصد مع ادراكات الراصد نفسه الحسية و الحسية-الممتازة او الخيالية من حالة التراكب الكمومى الخطى الى الحالة الكلاسيكية الاحصائية بسبب الثقالة الكمومية. 
و هذه يقينا حالة غير موجودة فى الفضاء-زمن لان الفضاء-زمن نفسه فى الثقالة الكمومية غير موجود بل هو يتخلق مع تخلق موت او حياة قط شرودينغر نفسه و تخلق ادراكات الراصد وهذا جميعه لنفس الاسباب التى هى ديناميك الثقالة الكمومية (وهو ديناميك مجهول). 
اذن هذه حالة لا يمكن ان تدركها الا العقول الروحية المحضة التى تخلصت من كل ادراكات الحواس (المادية) و الخيال (النفسية). 
الفرضية هنا ان هذه العقول المحضة خارجة عن وصف نظرية كل شيء اى اننا نتبنى ثنائية العقل-و-جسم لديكارت بشكل او بآخر. 
وهذا المقترح هو احد اسباب اهتمامى بفكرة عالم الخيال التى لم يهتم بها احد فى الاسلام الا المتصوفة بعد ان اضاعوها فى اشراقهم و وحدة وجودهم اى بعد ان اضاعوا مركبتها التحليلية العقلية. 

 سطح الوعى-و-الخيال

 سطح الوعى-و-الخيال او الفضاء-زمن-جسم-عقل.
 الخط المستقيم هو مجموعة النقاط المقابلة (تقابل واحد-لواحد) لمجموعة الاعداد الحقيقية التى يرمز لها ب R. 
اما الخط التخيلى البحت فهو مجموعة النقاط المقابلة لمجموعة الاعداد التخيلية البحتة وهى مجموعة الاعداد الحقيقية مضروب كل عنصر فيها بالعدد التخيلى البحت الذى يرمز له ب i. اذن مربع كل عدد على الخط التخيلى هو عدد سالب لان مربع العدد التخيلى i هو ناقص 1. العدد التخيلى i هو ليس الا دوران العدد 1 فى المستوى بزاوية تساوى 90 درجة. 
اذن الجداء الديكارتى للمستقيم الحقيقى و المستقيم التخيلى البحت هو المستوى المركب. كل نقطة فى المستوى المركب (اى كل عدد مركب) تحتوى على جزء حقيقى و على جزء تخيلى بحت. هل هناك شك فى وجود المستقيم التخيلى البحت و فى وجود المستوى المركب. الجواب تقريبا بالاجماع لا يوجد شك. 
لنمثل الامر فيزيائيا. 
المستقيم الحقيقى هو الفضاء ببعد واحد. 
اما المستقيم التخيلى فهو يمثل الزمن و ليس هو الزمن. الزمن معضلة دائما. لان مربع كل عدد تخيلى بحت على المستقيم التخيلى هو سالب اما مربع الزمن الحقيقى فهو عدد موجب فان العدد التخيلى (بعد قسمته على العدد التخيلى البحت i) هو الزمن الاقليدى وهذا العدد التخيلى (بعد تدويره فى المستوى المركب بزاوية ناقص 90 درجة) هو الزمن الحقيقى. هذا ما يسمى تدوير وييك Wick rotation. وهذا امر معقد تقنيا ليس سهلا ابدا لانه مرتبط ارتباطا وثيقا بتصرف الدوال المركبة فى المستوى المركب. 
اذن المستقيم التخيلى يمثل الزمن رغم انه ليس بالضبط هو الزمن الحقيقى (اى الزمن النسبى او زمن الوعى). اذن المستوى المركب الذى وصفته هنا هو بالضبط فضاء-زمن مينكوفسى (اى فضاء-زمن النسبية الخاصة) فى بعدين. 
لو اخذنا عوض المستقيم الحقيقى الفضاء الاقليدى الثلاثى فاننا نحصل على فضاء-زمن مينكوفسكى فى ثلاثة ابعاد. اما المستقيم التخيلى فهو دائما يمثل الزمن . هل هناك شك فى وجود هذا الفضاء-زمن. الجواب اكيد لا. 
نذهب الآن الى ثنائية العقل-و-الجسم لديكارت. بكل بساطة الخط المستقيم هو الجسم اما الخط التخيلى فهو العقل. نضبط هذا الامر اكثر. الخط المستقيم يمثل الابعاد الفضائية الثلاثة التى نعيش فيها و يمثل الحس الخارجى المشترك للجسم (الذى تجتمع فيه ادراكات الحواس الخارجية الخمسة). اذن لدينا 3+1 اى اربعه ابعاد مادية-جسمية-حسية. هذا هو عالم الجسد عند ابن عربى. 
اما الخط التخيلى فهو يمثل الزمن كما ذكرنا و كذا قوى الحس الباطنى وهى (حسب ابن سينا و السهروردى مع تحوير من عندى) اربعة: قوة الوهم او التقدير, القوة المتفكرة, قوة الذاكرة و قوة التعقل. اذن لدينا 1+4 اى خمسة ابعاد زمنية-عقلية. وهذا هو عالم العقل عند ابن عربى. 
عند اخذ الجداء الديكارتى لعالمى الجسد و العقل نحصل على عالم الخيال الذى هو برزخ بينهما و هو مبدأيا فضاء بتسعة ابعاد. وهذا هو العالم الثالث عند ابن عربى. 
اذا اضفنا الوعى و الخيال فاننا نحصل على عشرة و 11 بعد على التوالى مثل ماهو موجود فى نظريتى الوتر و الثقالة الكمومية (وهذه فقط مقارنة لان قوى الاستعراف قد تكون اكثر من المذكورة و حتى قوة الوعى الوظائفى المادى قد تكون ايضا اكثر من الحواس الخمسة). 
الوعى و الخيال هما قوتان تربطان بين عالم المادة و عالم العقل. 
الوعى يتميز به الانسان و الحيوان اما الخيال فلا يتميز به الا الانسان و لهذا لا يعقل الحيوان و يعقل الانسان لاننا نحتاج الى كل من الوعى و الخيال لنربط بين المكان-و-الزمن من جهة و بين الجسد-و-الروح و بين الحواس-و-العقل من جهة اخرى. 
يمكننا تصور الخيال و الوعى على انهما بعدين اضافيين تتميز بهما كل نقطة فى سطح الوعى-و-الخيال (المستوى المركب فى المثال الرياضى). 
كل هذه الابعاد معا تعرف فضاءا هو الفضاء-زمن--جسم-عقل مثلما ان الفضاء و الزمن معا يعرفان الفضاء-زمن. 
اقول ان ما نسميه العقل هو فعلا ليس الا مجموع نقاط هذا الفضاء-زمن-جسم-عقل. اذن عالم الجسد هو المحور الافقى (الخط المستقيم) و عالم العقل هو المحور العمودى (هو الخط التخيلى البحت) و عالم النفس فهو الجداء الديكارتى او ما اسميه سطح الوعى-و-الخيال (الذى هو المستوى المركب) و لان الفيزياء لا يهمها الا الخط الافقى المستقيم و تريد اختزال الخط العمودى التخيلى فهى تعجز عن وصف العقل و الوعى و النفس و الروح و تعجز معها الفلسفة اكثر من عجزها. 
هنا ثنائية ديكارت العقل-و-الجسم تم تجاوزها لان الذى لدينا فعلا هنا هو احادية و وحدوية النفس و الوعى. 
فليس هناك فى الاخير الا السطح النفسى فلا وجود للجسد و لا للعقل مفردين مثلما انه لا يوجد فعلا الا المستوى المركب فليس هناك خط مستقيم و لا خط تخيلى مفردين. 

 عالم الخيال: المهلوس و المجنون و النبى و المؤمن 

 أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف. 
وهذه أكبر نعمة يمكن ان يتنعم بها الله سبحانه و تعالى على عبيده. 
ورغم هذا تجدهم يتمردون و لا يقومون بما هو فعلا مطلوب منهم. 
والخوف اشمل فهو يشمل ايضا الخوف من الجوع فنحن مثلا فى الجزائر نسمى (الجوع) (شر) لكثرة شروره فعلا. 
لكن ذكر الله الجوع منفصلا عن الخوف لأهميته او بالاحرى لخطورته لوحده على الانسان. 
فالانسان البدائى فى احقاب الصيد و الزراعة كانت بالنسبة الي مصارعة الجوع و محاربته هى مدار كل حياته و مجور كل وجوده. 
وبعد ان تغلب الانسان على الجوع مع التحكم فى الزراعة بعد الثورة الزراعية فى الشرق الادنى و انتقال الزراعة الى شمال افريقيا و جنوب اوروبا منذ حوالى عشرة الاف سنة بدأت الحضارة. 
اذن شرط الحضارة الاول هو الامن من الجوع. 
لكن هناك محاوف اخرى كثيرة غير الجوع ومنها المرض و الحروب و الوحدة و الطبيعة المجهولة و الموت المُغيب. 
و كلما تغلب الانسان على احدها كلما حقق تقدما اكبر فى علومه و آدابه و حياته و حضارته. فتغلب الانسان قليلا على الخوف من المرض باكتشاف الطب و التطبيب ثم تطور هذا الامر اكثر و اصبح لدينا اليوم كل هذه العلوم البيولوجية و الطبية لكن الانسان مازال يخاف كثيرا من الامراض فهى فعلا خطيرة على الانسان بقوتها الفطرية. 
وتغلب الانسان قليلا على الحروب باكتشاف السلاح و تطويره فزادت الحروب اكثر ثم قام بتطوير التكنولوجيا فلم يزد الوضع الا سوءا فاضطر الانسان المتحضر الى احتضان و ممارسة السياسة و تطويرها الى علم عند من يفهم وهذا كله حتى يطمئن جانب الانسان من الانسان و يزول خطر الحروب التى يمكن ان تقوم بينهما (وهذا لم يصلح بل زاد الوضع سوءا). ثم وجد الانسان فى التكنولوجيا مآرب اخرى عير الحرب اهمها الصحة و التطبيب و ايضا (ولى فيها مآرب اخرى). 
وتغلب الانسان على الوحدة النفسية و المجتمعية و النوعية بتطوير المجتمعات و تطوير الادب و الفن و الخيال و الاسطورة و احتضان الحب بين الافراد و الاشياء و الافكار. 
وتغلب الانسان قليلا على مجهولات الطبيعة بتطوير الفيزياء و الرياضيات و غيرهما من العلوم الاساسية التى تريد ان تفهم الطبيعة حتى يأمن منها الانسان و يسيطر عليها و يتخلص من عبثيتها و عدميتها وهذا نوع اعلى من الشعور بالوحدة لا تنفع فيه العلوم الدقيقة فتدخل الفلسفة و تدلو بدلوها بدون اى نجاح يذكر. 
و اراد الانسان ان يتغلب على خوفه من فكرة الموت و خوفه من الموت فهو اكبر مجهول وهو اكبر وحدة و هو اكبر مرض و هو اكبر حرب على الانسان. 
 فلم يجد الانسان بدا هنا الا احتضان الدين و الايمان فهذا هو الامر الوحيد الذى يخفف من وطأة الموت على الانسان و من خوف الانسان من الموت. 
والبعض يقول -مثلا هيوم و ماركس و نيتشة و شوبنهاور و كيرغارد وهم من عمالقة الفلسة اذن قالوا و لو باشكال مختلفة- ان الانسان اخترع الدين حتى يخفف من وطأة الموت عليه. 
وهذا لا يهم ان كان صحيحا او غير صحيح. 
فالبعض يصر على عدم رؤية قدرة النفس الانسانية على التخييل (على مصطلح ابن عربى). فالنفس الانسانية قد تتخيل الايمان لكنه يبقى حقيقي تماما بالنسبة اليها حتى لو لم يكن حقيقيا لغيرها. وهذه قوة الأنا الظواهرى كما يصر (شالمرز) على تمييزه عن الأنا الوظائفى فكل شخص يرى الكون بشكل معين لا يشترك فيه مع غيره و ذلك الشكل هو الحقيقة بالنسبة له. فكل شخص هو خفاش على راى فيلسوف العقل الآخر (نايغل) لا يمكننا ابدا و لن يمكننا ابدا ان نرى بعيني رأسه و قلبه. 
فالمهلوس أو المجنون يرى و يسمع و نحن لا نرى ما يرى و لا نسمع ما يسمع ثم نحن نتفق ان الذى يراه و يسمعه ليسا حقيقيين فقط لاننا قبلنا رأى العلم فى الهلوسة. لكن هذا رأى فقط. فالبعض مثلا ابن سينا يصر على ان المهلوس يرى فعلا و يسمع ما يعرض عليه من عالم الخيال الذى هو عالم انطولوجى حقيقى. 
ثم أخذ ابن عربى هذه الفكرة ووضع نظرية كاملة لما سماه عالم الخيال الذى هو وسط بين المادة و العقل اذن هو حقيقى تماما مثلهما. 
وهذا اخذه كوربان فى العصر الحديث وبنى عليه لكن ايضا بنى عليه عالم النفس الاول جونغ. 
اذن المهلوس و المجنون و النبى و المؤمن كلهم يأخذون من عالم الخيال حسب ابن سينا و ابن عربى و الغزالى و كوربان و جونغ لكن فقط المهلوس اختلط عنده الخيال بالتخيل اما النبى فهو مرآة صافية و اما المؤمن فهو شعور لا يستطيع ان يعبر عنه بشكل عقلى. وهذا يذكره تولستوى ايضا بفصاحته. 
اذن الخوف من الموت لا يمكن ان يتغلب عليه الا الايمان و الدين ولهذا اخترع الانسان الدين (نيتشة و ماركس و هيوم) او ان الانسان تكشف على عالم الخيال ورأى الحقيقة (ابن عربى و كوربان و جونغ) فرأى الايمان الذى جعله يتغلب على خوفه من الموت. 
اذن (أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف)  هى بداية حضارة الانسان و تقدمه و صيرورته نحو الافضل و ادراكه للقيمة و الغاية. فعلينا ان نكون آمنين من الجوع و الخوف وبعد ذلك تبدأ الحضارة التى تنبنى على الدين و الفلسفة و الفيزياء و الرياضيات و الطب و التكنولوجيا و الفن و الادب. 
لكن الامن اولا. وقد (أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف) فى عصور و بلاد الجوع و الخوف الاكبر بامتياز و مع هذا ذهبوا و تمردوا و كفروا و تركوا اهم واجبات الانسان وهو الحضارة و العلم. اذن علينا ان نحذر و ألا نفعل مثل ما فعلت قريش فيطعمنا الله من الجوع و يؤمننا من الخوف و بعد ذلك عوض ان نقوم بالحضارة و العلم نذهب و نتمردعلى الله سبحانه و تعالى و نكفر و نتفلسف و نجادل. 

 عالم الخيال: اعقد مصطلح فلسفى و الجواب على انطومينيات كانط (النقطة اوميغا الثانية, فرضية بولتزمان-شوتز, الحرية المنظوريانية ادق من الحرية التواؤمية)

 و اعقد مصطلح فلسفى احتاجه و اعتقد جازما انه محورى و حاسم لكننى مازلت لا افهمه بأى طريقة تسمح لى بأن ابنى عليه ما اريد هو مصطلح (عالم الخيال) لابن عربى. 
هذه المحاولة او الشطحة الفكرية هى محاولة اخرى فى هذا الاتجاه. 
اذا افترضنا ان (عالم الخيال) هو موجود فى الفضاء-زمن (وهذه فرضية الملا صدرا الشيرازى) فاننى سأقول ان (النقطة اوميغا) لفرانك تيبلر -التى يعتقد هذا الاخير انها هى الله- هى بالضبط عالم الخيال وليست الله (فان الله خارج الفضاء-زمن و نحن مع الغزالى فى هذا الى آخر رمق من حياتنا ان شاء الله). 
وعالم الخيال تدركه قوة الخيال فى النفس وهى على المرجح قوة لاواعية لان الفطرة (كما يفهمها ابن تيمية) تعتقد ان الخيال غير حقيقى اما الخيال الذى يقصده ابن عربى فهو انطولوجى تماما اما الذى يقصده السهروردى فهو ابيستيمولوجى و اما الذى يقصده جونغ فهو نفسى. 
فالوعى الوظائفى و هو الوعى الذى تعترف به علوم العصبونات قريب من المحور الافقى للمادة و الحواس (انظروا المنشور السابق)  أما وعى الكواليا (اى الذاتية او الأنا) فهو قريب من المحور العمودى للعقل و الفكر وبينهما ما يسمى الفجوة التفسيرية (مصطلح شالمرز).
و اظن ان هذه الفجوة هى البرزخ الخيالى الذى يتكلم عنه ابن عربى و السهروردى. اذن بقية مستوى المادة-و-العقل بين المحور الافقى المادى-الحسى و المحور العمودى العقلى-الفكرى فهو (وعى و لاوعى و خيال). وهنا تتبقى مشكلة ما هى العلاقة بين هذه الثلاثة و هل هناك اشياء اخرى تملأ هذا البرزخ. 
اذن كما ترون فان عالم الخيال (الملكة فى النفس و العالم الانطولوجى الذى يفصل بين المادة و العقل) هو حل كامل لمعضلة العقل-و-الجسم لديكارت (ونحن ايضا مع ديكارت فى ان العقل خارج الفضاء-زمن و لهذا قلنا ان النقطة اوميغا التى هى نهاية الفضاء-زمن هى عالم الخيال). 
اذن نحن نعيش فى الفضاء-زمن فى الحاضر ككائنات مادية تقريبا بحتة بوعى كثير و عقل اقل و خيال بينهما لا يدركه الا القلة القليلة. 
لكن فى المستقبل سنعيش (بعد ان نُبعث) ايضا فى الفضاء-زمن لكن ككائنات خيالية تتجلى فيها بالكامل ملكة الخيال و تندثر ربما بالكامل ملكات الحواس لكن العقل يزيد فيها. 
اذن الموت و البعث و الجنة و النار كلها فى هذا العالم الخيالى. 
او ان الجنة هى النقطة اوميغا اما النار فهى هذه الدنيا -وهذا هو تقريبا رأى فرانك تيبلر فهو ليس متأكد ان النار موجودة اما الجنة فهى يقينية عنده-. 
اذن الفضاء-زمن قبل النقطة اوميغا هو النار. والفضاء-زمن فى النقطة اوميغا هى الجنة. 
لكن هناك اللافضاء-زمن الذى لا هو داخل و لا هو خارج النقطة اوميغا (على مصطلح الغزالى و الاشاعرة) او هو خارج النقطة اوميغا (على مصطلح ابن تيمية و الحنابلة). هذا هو عالم العقول المحضة. 
اذن خارج الزمن و خارج الفضاء تقع العقول المحضة.
فهناك اذن نقطة أوميغا اخرى سيُدركها قلة قليلة ممن سيدرك النقطة اوميغا الاولى وهم ربما صاحب المقام المحمود (محمد صلى الله عليه و سلم او الخضر عليه السلام) و الانبياء و من يجتبيهم الله سبحانه و تعالى من خلقه. فهؤلاء سيدركون النقطة اوميغا الثانية بعد ان يدركوا مع غيرهم النقطة اوميغا الاولى وهذه النقطة اوميغا الثانية هى العالم الحقيقى -عالم السعادة- الذى كان يتكلم عنه الفلاسفة. 
وهو عالم الرجوع الى الله او الفناء فيه اوعالم المعرفة الصحيحة -معرفة الله-. 
فابن سينا عندما اخترع فكرة -عالم الخيال- فهو اخترعها حتى يفصل بين اهل الشقاء الابدى (الذين لن يدركوا حتى النقطة اوميغا الاولى) و اهل السعادة الحقيقية (الذين سيدركوا النقطة اوميغا الثانية) لان هناك مجال كبير بينهما لا هو ابيض و لا هو اسود و ذلك هو عالم الخيال. 
اذن فى فرضية بولتزمان-وشوتز فان التقلب الحرارى-الكمومى هو كل هذا العالم اما التوازن الحرارى فهو عالم الخيال. 
 والتقلب الحرارى هو مرجح احتماليا ان يكون وهمى و ليس حقيقى -وهنا تدخل فرضية المصفوفة و حجة المحاكاة-.
اما فرضية المصفوفة فهى تتطلب صانع. فهى احدى مقدماتها. لكن فرضية المصفوفة تؤكد ايضا ان هذا التقلب الحرارى (هذا العالم المادى) و هذا التوازن الحرارى (عالم الخيال) يجب ان يكون عددى -اى أن فرضية ويلر هنا هى الاصح واذن فان اصل الاشياء المادية ليس الذرة لكن البت-. 
وكون اصل الاشياء عددى و ليس مادى (اى ان الاعداد اكثر اساسية من الذرات) هو ايضا نتيجة من نتائج الفرضية اوميغا. 
فهذا هو السبب الذى يجعل البعث من ابسط الاشياء من الناحية الفيزيائية. 
وفرضية بولتزمان-شوتز ايضا تفسر السهم فى الزمن و تؤكد ان السببية هى منظوريانية و بالتالى فان المعرفة و كذا الحرية كلاهما منظورياني. 
اما كون المعرفة منظوريانية فهذا يفسرها الميكانيك الكمومى (مثلا مبدأ التكامل و مبرهنة بال). 
اما الحرية فهذا امر يتطلب اشياء اخرى. فمن الجهة الاخرى فان فرضية الاعيان الثابتة لابن عربى تؤكد ان كل ماهو موجود فى العوالم الثلاثة (المادى و الخيالى و العقلى) و كذا فى العوالم الاعلى مثلا نفس الرحمن و غيرها كلها ليست الا افكار او معلومات فى علم الله القديم هى هذه الاعيان الثابتة. 
والفكرة او المعلومة او العين الثابتة هى ليست كاملة او مكتملة حتى تتحقق فى الموجود العينى بكل صفاتها التى كمنت عليها فى علم الله سبحانه و تعالى ومن هنا تكمن الحرية -حتى حرية الشيطان اللعين و من هنا يبدأ حل او فهم معضلة الشر المترتبة عن وجوده-. 
لكن العالم المادى مقيد بالاسباب اما عالم الخيال (الذى منه عالم الوعى) و كذا عالم العقول المحضة فهو عالم حر. 
والانسان مادة و خيال و عقل و لهذا فان الانسان بين جبر الطبيعة و حرية الخيال و العقل فكان تواؤمى مسؤول. 
وهذه اجابتى عن انطومينيات كانط الاربعة مع احترام ضوابط عقيدة السلف و بناءا على نتائج العلم و الميتافيزيقا المبنية على العلم.


الاعجاز البلاغى للقرآن الكريم

هؤلاء الاعلام من المعتزلة (الرمانى) و الاشاعرة (الجرجانى) و السلفية (الخطابى) من القدماء لا يتكلمون ابدا عن الاعجاز العلمى و لم يقولوا ابدا ان القرآن جاء بلغة علمية.
لكنهم مُجمعون على القول بأن القرآن جاء بلغة بلاغية و ان هذه البلاغة معجزة وهى التى تحدى بها القرآن قريش و العرب ان يأتوا بمثلها و ان هذا الاعجاز اللغوى البلاغى فهمته قريش بسليقتها اللغوية و لهذا لم تُجب الرسول فى التحدى و تحداهم الرسول انهم لن يستطيعوا حتى لو حاولوا لكنهم لم يحاولوا.
اذن الهدف هو اننا نريد ان نفهم هذه القصة بطريقة تحليلية لان هذا هو عماد النبوة و ليس شيئا آخر.
هل هذا الفهم التحليلى ممكن اصلا? اذا كان الامر ممكنا (واننى اعتقد انه كذلك) فعلينا القيام به واذا كان الامر غير ممكنا فهذا شيء عجيب ان ينبنى ايمان و دين كامل على معجزة او القول بمعجزة لا يمكن القيام بتحليلها. 
شخصيا اجد نفسى ووجدت نفسى وحيدا فى هذا السؤال و لا ادرى لماذا لا يهتم به الناس من العلماء و الجمهور بهذا المنطق بالضبط: بينوا لنا اعجاز القرآن بطريقة تحليلية و ليس بطريقة خطابية. فهذا هو مربط الايمان و لا تقولوا لنا بايمانكم ان القرآن معجز. بل بينوا لنا بالبناء التحليلى انه معجز فنستطيع ان نبنى ايماننا بطريقة تحليلة على قضية الاعجاز البلاغى.
فالايمان بالنبى (عكس الايمان بالله) يحتاج الى فهم اعجاز القرآن و فهم التحدى و فهم عدم الرد على التحدى هل هو نفسى او كمونى. 
اذن هذه اسئلة مهمة جدا لكن نجد المتكلمة و المتفقهة صرفوا وقتا هائلا فى محاولة معرفة هل صفة الكلام هى زائدة على الذات ام هى عين الذات و صرفوا وقتا اطول فى محاولة معرفة هل القرآن كلام الله مخلوق ام قديم و اذا كان قديم فما هو اذن كلام الله هل هو اللفظ او الحرف او المعنى القائم بالله و اذا كان القرآن مخلوقا فلماذا اذن فهم السلف انه قديم لانهم مصرون على انه كلام الله صفة الله. 
اذن تجد الناس صرفت وقتا هائلا فى محاولة معرفة الجواب على هذه الاسئلة التى لن تزيد معرفة اجوبتها و لن تنقص فى الايمان. 
لكنهم لم يهتموا بقضية الاعجاز البلاغى فى القرآن التى يقوم عليها الايمان نفسه بمحمد و بنبوته و بالاسلام. 
اذن من المهم جدا معرفة (معرفة تحليلة و ليس خطابية) لماذا عجزت قريش عن الرد على الرسول و الاتيان بمثل القرآن. 
ألم يكن هذا حلا سهلا لها للقضاء على دعوة محمد عوض كل تلك الحرب الشعواء?
ثم ان الجميع من معتزلة و اشاعرة و سلفية اتفقوا على ان بلاغة القرآن هى مربط الفرس و انها معجزة للكافة و على رأسهم قريش كما ان شعر امرؤ القيس هو شعر مفحِم معجز للجميع باستثناء الخاصة من الشعراء الفحول.
والتحدى موجه للعرب فى عهد الرسول و ليس للعرب بعد ذلك الزمان و لا فى زماننا هذا لان العبرة هنا عبرة لغوية و من ليست اللغة عنده لغة أم فهو غير معنى بالتحدى لان من لم يستطع الاجابة عن التحدى رغم فصاحته الفطرية فليس من المعقول ان يجيب عنه من يتكلم الدارجة او لغات اجنبية عن العربية. 
وهذا كافى جدا اذا بيناه. اذن فهذا ليس باشكال. 
و قد اتفقوا ايضا على ان قريش قد ادركت هذا الاعجاز بغريزتها اللغوية و لهذا فهى لم تجبه و بعضهم (المعتزلة) قالوا ايضا هو قد يكون اعجاز نفسى (الصرفة) وهذا ايضا مهم جدا اذا كان الامر كذلك ولهذا فاننى لا افهم صرف الاشاعرة كثيرا من وقتهم على الرد على الصرفة.
انتم وهم تريدون تبيان اعجاز القرآن لقريش مثل معجزة احياء الميت او شق البحر او غيرها والصرف النفسى ليس شيئا هينا ابدا اذا كانت تلك هى الحقيقة لكن انتم محقون فى أن الاعجاز الكمونى (البلاغة) اقوى.
لكن لا هذا و لا ذلك بينه اى احد الى غاية يومنا هذا باى طريقة مقنعة وافضل من عبر عن هذا الوضع الخطابى السلفى الذى لم تعجبه جميع مقالات الناس فى هذا الامر وقدم محاولته الشخصية التى تنبنى هى الاخرى على الاعجاز البلاغى الكمونى و على عدم الرد على التحدى. 
اذن هناك افكار كثيرة جدا هنا نهدف الى استخراج القوى منها و فرزه عن الضعيف ونحن لسنا مع اى مذهب فى هذا بل نحن مع البرهان و اذا كان القرآن كلام الله المعجز فلن نخاف اكتشافنا عدم اعجازه بل نحن عاجزون فقط عن الفهم بعد او بالاحرى نحن عاجزون ان نرى اين هو الاعجاز الذى رأته قريش. 
واننى لاحسد الوليد بن المغيرة الذى قال (ان لقوله حلاوة و ان عليه طلاوة) رغم انه كافر واننى مسلم لانه رأى بوضوح شديد (واننى لا ارى باى وضوح) هذا الاعجاز الذى يتكلم عنه جميع الناس فى جميع البلدان و جميع الازمان دون ان يبينوه لنا. 
لكن ارجع و اذكر لا تضعوا امامنا العربة قبل الحصان فان الاعجاز البلاغى للقرآن هو الاول ثم يأتى بعده الايمان بالاعجاز البلاغى للقرآن و ليس العكس. 
واذكر ايضا اننى لست بالضرورة ضد الانواع الاخرى من الاعجاز التى يتكلم عنها الناس مثل الاعجاز العلمى فى القرآن (او بالاحرى الاعجاز القرآنى فى العلم) و الاعجاز العددى (الذى يربطه البعض بالسحر و التنجيم) و الاعجاز الصوفى (مثل الذى بينه ابن عربى قديما فى تفسيراته العميقة) و غيرهم. 
لكن مدار التحدى الموجود فى القرآن هو الاعجاز اللغوى البلاغى الذى كانت تدركه قريش و العرب بالفطرة و السليقة و لغة الام و صنعة الشعر. 
وسؤال اخير وهل فعلا يعنى القرآن الاعجاز البلاغى عندما تحدى قريش ان تأتى بمثله او انه كان يعنى شيئا آخر فهمه من جاء بعد عهد النبوة بالاعجاز و هو ليس ذلك اصلا? ثم هل يمكن ان يقوم الايمان بالنبوة بدون الايمان بمعجزة النبى التى هى القرآن المعجز بلاغيا? 
اذن هذا سؤال ربما يوضح خطورة هذا الموضوع فهو موضوع وجودى (وجود النبوة من عدمها) و كل المواضيع التى تأتى فى اصول الدين هى مواضيع وجودية لا اقل و لا اكثر احتار جدا عندما ارى الناس تأخذها بسهولة و استسهال. 

 اعجاز القرآن الكريم مرة اخرى 

 فى هذا الجزء الثالث نواصل مع الرمانى المعتزلى فى رسالته (النكت فى اعجاز القرآن) وهى رسالة لم يهتم فيها مؤلفها الا بالجزء النظرى و التطبيقى لمسألة اعجاز القرآن و لم يتطرق للجزء الجدلى الذى يهتم بالرد على المعترضين عكس الخطابى السلفى فى رسالته (بيان اعجاز القرآن) الذى اهتم كثيرا بالرد على المعترضين (انظر المنشور القادم ان شاء الله). 
لكن الرمانى رغم اعتزاله و رغم تركيز المعتزلة على الصرفة و ايضا رغم ان الخطابى سلفى و رغم اعتراض السلفية القديم و المستمر و الشديد على الاشاعرة الا ان كلاهما يركز على الاعجاز البلاغى التى هى نظرية اشعرية بالاساس ابتدأها الامام الباقلانى ثانى الاشاعرة فى كتابه (اعجاز القرآن) الذى كان اول من ابتدأ دراسات الاعجاز بعقد المقارنات البلاغية بين اشعار الجاهليين و على رأسهم امرؤ القيس و نظم القرآن الكريم. 
الرسالة الثالثة التى سنبدأ مراجعتها قريبا هى رسالة الجرجانى الاشعرى بعنوان (الرسالة الشافية) وكتاب الجرجانى (دلائل الاعجاز) يبقى اكبر كتب الاشاعرة بل هو اكبر كتب اهل السنة وحتى من غيرهم الى غاية يومنا هذا فى هذا الموضوع. 
لكن الجرجانى فى رسالته لم يركز على الجزء البلاغى (او ما اسميه الجزء الكمونى لان البلاغة تكمن فى نظم القرآن حسب هذا الرأى و هو الرأى السائد) لكنه ركز على الجزء التاريخى-النفسى وهو التحدى للكافة وعدم اجابة التحدى من قريش و العرب ثم ركز فى جزء معتبر من رسالته على محاولة دحض نظرية الصرفة للمعتزلة وهى نظرية الاعجاز النفسى (وهذا ايضا مصطلحى) بمقابل نظرية الاعجاز الكمونى فى البلاغة و النظم لمنظرى الاشاعرة والسلفية و غيرهم. 
اجد هذا الامر اهدارا للجهد ان تحاول دحض الصرفة وتقوم بما لم يقم به الخصوم. فاننى فى هذا الامر اتبع الغزالى فى مسألة قدم العالم الذى استعان بكل المذاهب و منهم المعتزلة (وهو يذكر هذا صراحة فى بداية كتابه التهافت) من اجل دحض فكرة قدم العالم للفلاسفة و على رأسهم ابن سينا وما كاد ينجح وربما لم ينجح (كما بين حل ابن عربى المختلف جذريا عن كل من ابن سينا و الغزالى لاحقا). 
بالمثل هنا فاننا سنستمدد بكل المذاهب و كل الاراء من اجل محاولة تبيان اعجاز القرآن والصرفة فكرة ليست بالهينة ابدا و الاعجاز الذى ينجر عنها اذا كانت صحيحة ليس بالاعجاز الذى يمكن رده بأى شكل.
اذن الخطابى السلفى رد على المعترضين على الاعجازولم يصرف الا فقرة واحدة من اجل رفض الصرفة اما الجرجانى الاشعرى (وهو العمدة فى هذا المجال) فانه صرف نصف الرسالة على الرد على الصرفة التى هى بالاساس فكرة مؤيدة للاعجاز ليست ناقضة له وهى حتى ليست فكرة ناقضة اصلا للأصل الذى هو الاعجاز البلاغى. هذا ما اسميه اهدار للجهد و الوقت. 
فعلا شعرت بخيبة امل لان الاشاعرة كانوا و مازالوا من اذكى اذكياء الكلام مع المعتزلة يخدمون الاسلام باقوى الطرق لكن حساسيتهم المرضية من المعتزلة تفوق فى بعض الاحيان حساسية السلفية المرضية من الاشاعرة (وتذكروا قول ابن تيمية بخصوص هذا الامر الذى استحى من تكراره هنا). 
اذن بخصوص هذا الامر لا يجب ابدا ان نكون متمذهبين فهى مسألة تهم الجميع من معتزلة و اشاعرة و سلفية على قدر سواء وهم مجمعون على ان الاعجاز البلاغى هو السر (حتى الرمانى المعتزلى يقول ذلك) لكن هذا لا يمنع ان يكون هنا اعجاز من نوع آخر او انواع اخرى ينطوى عليه القرآن. 
وهم جميعهم (الرمانى و الجرجانى و الخطابى ) يتمثلون بمثال الرجل العاقل العطشان الذى يكاد يهلك وامامه ماء لكنه لا يشرب منه حتى يهلك. فالرجل العاقل هو قريش و العطش الذى يعانيه هى دعوة محمد التى تقف بوجه مصالحهم السياسية و المالية و الاجتماعية و الطبقية و غيرها قبل ان تقف بوجه دينهم و آلهتم و جاهليتهم و الماء هو التحدى و الاتيان بالمثل الذى اعطاهم اياه محمد و الذى ان جاؤوا به كان محمد كاذبا و كان هناك قرآن آخر بأيدهم هو ذلك المثل الذى يمكن ان يحتوى على كل الافتراء المؤيد لهم الذى يرغبون به و فيه. لكنهم لم يشربوا من الماء الموضوع امامهم حتى هلكوا من العطش. لماذا? الجواب بالاجماع انهم كانوا عاجزين عن ذلك. السؤال الآن هل ذلك العجز راجع الى شيء فيهم (الصرفة فالله صرف هممهم عن الاتيان بالمثل) او الى شيء فى القرآن (كلام معجز فى حد ذاته لا يقدرون عليه)? اقول شخصيا ان العجز قد يكون راجع الى كلا الامرين فى نفس الوقت رغم ان احدهما يكفى بنفسه فالاول هو اعجاز للارادة النفسية (حرية الارادة) اما الثانى فهو اعجاز للقدرة اللغوية (الوعى) فذلك غير متناقض. 
 وهكذا نرجع دائرة كاملة الى موضوعين شيقين آخرين مهمين لنا هما حرية الارادة و الوعى. 
فيما تبقى نقدم الجزء الثالث من تلخيصنا الشخصى للرمانى.
الجزء الثالث (النظرية المعتزلية فى اعجاز القرآن الكريم): 
يُعرف الرمانى التشبيه كما يلى: التشبيه هو العقد على ان احد الشيئين يسد مسد الآخر.
و التشبيه على وجهين: تشبيه شيئين متفقين بانفسهما و تشبيه شيئين مختلفين لمعنى يجمعهما.
و التشبيه البليغ اخراج الاغمض الى الأظهر باداة التشبيه مع حسن التأليف.
ومن امثلة ذلك فى القرآن (والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا) فهذا تشبيه بلاغة حيث شبه اعمال الكفار بالسراب فهو اذن تشبيه قد اخرج ما لا تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه. ومثال آخر (مثل الذين كفروا بربهم اعمالهم كرماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء) و (اتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها... فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) و (و الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء الا كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه و ماهو ببالغه). و من امثلة ذلك ايضا فى القرآن (واذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) فهذا تشبيه بليغ اخرج ما لم تجر به عادة الى ما قد جرت به العادة. ومن هذا النوع ايضا (انما مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض) و (انا ارسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم اعجاز نخل منقعر) و (فاذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان). ومن امثلة ذلك ايضا فى القرآن (وجنة عرضها كعرض السماء و الارض) فهذا تشبيه بليغ قد اخرج ما لا يُعلم بالبديهة الى ما يُعلم. ومن هذا النوع ايضا (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا). وايضا من امثلة التشبيه فى القرآن (وله الجوار المنشآت فى البحر كالاعلام) فهذا تشبيه بليغ اخرج ما لا قوة له فى الصفة الى ما له قوة فيها. ومن هذا النوع ايضا (خلق الانسان من صلصال كالفخار). 
يُعرف الرمانى الاستعارة كما يلى: الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له فى اصل اللغة على جهة النقل للابانة. 
و الفرق بين الاستعارة و التشبيه ان ما كان من التشبيه باداة التشبيه فى الكلام فهو على اصله لم يغير عنه فى الاستعمال و ليس كذلك الاستعارة.
وكل استعارة بليغة فهى جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب بيان احدهما بالآخر كالتشبيه. وكل استعارة حسنة فهى توجب بيان لا تنوب منابه الحقيقة. فكل استعارة لابد لها من حقيقة. 
و من امثلة الاستعارة فى الشعر قول امرؤ القيس فى الفرس (قيد الأوابد) وحقيقتها (مانع الاوابد) لكن (قيد الاوابد) ابلغ من (مانع الاوابد). 
ومن امثلة الاستعارة البليغة فى القرآن (وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا) فحقيقة (قدمنا) هنا هى (عمدنا) و اما (هباء منثورا) فهو بيان قد اخرج ما لا تقع عليه الحواس الى ما تقع عليه. ومن امثلة الاستعارة البليغة فى القرآن (فاصدع بما تؤمر) فحقيقة (الصدع) هنا هى (التبليغ) لكن الاستعارة ابلغ من الحقيقة. ومن الامثلة ايضا (انا لما طغا الماء حملناكم فى الجارية) و حقيقة (طغا) هى (علا), و من الامثلة ايضا (بريح صرصر عاتية) وحقيقة (عاتية) هى (شديدة), و من الامثلة ايضا (سمعوا لها شهيقا وهى تفور تكاد تميز من الغيظ) و حقيقة (الشهيق) هو (الصوت الفظيع القبيح) و حقيقة (تميز من الغيظ) هى (شدة الغليان بالاتقاد). و من الامثلة ايضا (وانه فى ام الكتاب لدينا) وحقيقة (أم) هى (أصل), و من الامثلة ايضا (ولما سكت عن موسى الغضب) و حقيقة (السكوت) هو (الانتفاء). ومن الامثلة (سنفرغ لكم ايها الثقلان) وحقيقة (سنفرغ) هى (سنعمد) لان الله لا يشغله شأن عن شأن لكن (سنفرغ) استعارة ابلغ من حقيقتها (سنعمد). و من امثلة الاستعارة فى القرآن (فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة) ف(مبصرة) هنا استعارة بليغة حقيقتها (مضيئة), و من الامثلة ايضا (واشتعل الرأس شيبا) ف (اشتعل) استعارة بليغة حقيقتها (كثر), و من الامثلة ايضا (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق) ف (القذف) استعارة بليغة حقيقته (بل نورد الحق عل الباطل فيذهبه). 
ويواصل الرمانى ذكر امثلة الاستعارة من القرآن الكريم و بعد ان يفرغ من ذلك يشرح ابواب البلاغة السبعة المتبقية (التلاؤم, الفواصل, التجانس, التصريف, التضمين, المبالغة, حسن البيان) ثم يعود فى آخر الرسالة و يشرح باقتضاب شديد ابواب الاعجاز الستة المتبقية وهى ترك المعارضة مع توفر الدواعى و شدة الحاجة, التحدى للكافة, الصرفة, الاخبار الصادقة عن الامور المستقبلة, نقض العادة, و قياسه بكل معجزة. 

 تفكيك دليل الاعجاز

 لنفكك دليل الاعجاز الى مفاصله الاساسية: 
اولا هناك اعجاز بلاغى فى القرآن الكريم حينما يتلاقى اللفظ و المعنى و النظم بالشكل الذى يتلاقى به فى آيات القرآن الكريم وهو اعجاز تعجز عنه الفطر اللغوية للعربى الجاهلى و العربى المخضرم و العربى من اهل الطبقة الثالثة من الشعراء الفحول و اهل البادية ممن عاصر المخضرمين و عرف لغتهم. 
 لا شك و لا نقاش ان نظم القرآن ليس له نظير ابدا و لا مثيل (والنظير يختلف عن المثيل كما نعرف من الفيزياء) اذن نظم القرآن ليس له نظير و لا مثيل لا فى كلام الجاهلية و لا فى كلام الاسلام. هذه قضية بديهية اذن لا نحتاج الى تفصيل فيها. 
لكن النقاش كان دائما حول اعجاز النظم القرآنى للعربى الجاهلى هل هو حقيقى موجود فى العربى الجاهلى او فقط مُتوهم. 
اذن هذا الاعجاز اللغوى هو اعجاز فى قدرة الوعى و العقل العربى عن الاتيان بالمثل. اذن هذا اعجاز لقدرة الانسان العربى الجاهلى اللغوية و العقلية. 
ثانيا وقد يكون هناك اعجاز فى الانسان العربى الجاهلى بأن صرفه الله عن الاتيان بمثل القرآن رغم قدرته عليه. اذن هذا الاعجاز النفسى هو اعجاز للارادة الحرة فى الانسان العربى الجاهلى. ولنلاحظ ان هذا الاعجاز فى الارادة رغم قوته الشديدة هو اضعف نوعا ما من الاعجاز الاول فى القدرة لكنهما اعجازان غير متنافيان. وقد ذهب اهل السنة مع الاعجاز فى القدرة و ذهب المعتزلة مع الاعجاز فى الارادة. 
ثالثا لكن ماهو الدليل فعلا على الاعجاز الاول فى الارادة او الاعجاز الثانى فى القدرة. الدليل الاول هو دليل الوعى الظواهرى (وهو دليل ذاتى و ليس موضوعى) لقريش التى قال زعيمها الوليد بن المغيرة معبرا عن هذا الوضع الذى يواجهونه (ان لقوله حلاوة و ان عليه لطلاوة). اذن قريش رأت بفطرتها اللغوية ان هذا الذى يتلوه محمدا ليس تحت قدرتهم. وشبيه بذلك دليل الايمان حيث ان كثيرا من عتاة قريش تحولت عداوتهم لمحمد الى موالاة بعد ان سمعوا القرآن الكريم يتلى. لكن هذا دليل ذاتى ايضا وليس دليل موضوعى فالناس يمكنها ان تؤمن بأى شيء حقا او باطلا. 
والدليل الاقوى هو دليل التحدى (وهو دليل تاريخى-نفسى) وهذا هو الدليل الموضوعى الثانى (بالاضافة الى البلاغة) الذى هو فى متناول الدارس الموضوعى. لكن فهم الدليل البلاغى صعب بالنسبة لغير المتخصص اما دليل التحدى فهو بسيط بالنسبة للدارس المجتهد غير المتحصص. 
كما ان دليل التحدى فى نفسه هو دليل على دليل البلاغة نفسه. أرأيتم ذلك! 
فكون قريش فشلت فى التحدى يعنى ان القرآن يتميز بشيء ما هو هذا الاعجاز البلاغى الذى تراه قريش بفطرتها اللغوية لان اللغة العربية بالنسبة لها غريزية (او قد يكون السبب فى الفشل فى التحدى هو فى نفس قريش وهذا هو رأى الصرفة). 
اذن تحداهم القرآن ان يأتوا بمثل هذا القرآن و لو بسورة منه (قل فأتوا بسورة من مثله) و لو مفتريات (أم يقولون افتراه فاتوا بعشر سور مثله مفتريات) و تحداهم ان يستعينوا بمن شاؤوا (وادعوا من استطعتم) و حتى لو استعانوا بالجن فالقرآن يؤكد لهم انكم لن تأتون بمثله (قل لئن اجتمعت الانس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) ثم اكد هذا التحدى فى الزمن (بعد ان اكده فى المكان) حيث اكد بانهم لن يستطيعوا ولو حاولوا فى الحاضر و المستقبل (فان لم تفعلوا و لن تفعلوا) ومع كل هذه التحديات و شدة الحاجة الى تكذيب دعوة محمد الا ان قريش لم تفعل شيئا. اذن الاستنتاج الوحيد الذى يمكن ان نخرج به ان قريش كانت عاجزة عن الاتيان به او انها مصروفة عن الاتيان به وهذا هو دليل التحدى الذى هو دليل على دليل البلاغة نفسه لمن لا يستطيع ان يدرك الدليل البلاغى مباشرة وهم اغلب العرب و غير العرب من العجم و الامازيغ و الترك و الكرد و الهنود قديما و حديثا. 
هناك نقطة ضعف وحيدة فى هذا الدليل كان قد اشار اليها الخطابى السلفى فى رسالته سأتناولها بالشرح فى فرصة اخرى ان شاء الله وهى لن تفعل بهذا الدليل الا تمتينه و تقويته (من وجهة نظرنا) حيث يتحول دليل التحدى الى دليل وجودى وهذا يكفينا جدا فى بناء ايماننا الوجودى الذى نرنوا اليه. 

 النبى ساحر و القرآن سحر! 

 فانه فى قصة الوليد بن المغيرة التى ارادت قريش ان تُشنع عليه ظنا منها انه قد صبأ فان الوليد بن المغيرة يأتى قريشا فيقول لهم: اتزعمون انى صبأت و لعمرى ما صبأت. 
انكم قلتم: (محمد مجنون) وقد ولد بين اظهركم (لم يغب عنكم ليلة و لا يوما) فهل رأيتموه يخنق قط? فكيف يكون مجنون و لم يخنق قط. 
و قلتم: (شاعر) و انتم (شعراء) فهل احد منكم يقول ما يقول? 
وقلتم: (كاهن) فهل حدثكم محمد فى شيء يكون فى غد الا ان يقول (ان شاء الله). قالوا: فكيف تقول يا ابا المغيرة? 
اقول هو (ساحر) فقالوا: و اى شيء السحر? قال: (شيء يكون ببابل) من حذقه فرق بين الرجل و امرأته و الرجل و اخيه أليس مما تعلمون ان محمدا فرق بين فلان و فلانة زوجته و بين فلان و ابنه و بين فلان و اخيه و بين فلان و مواليه فلا ينفعهم و لا يلتفت اليهم و لا يأتيهم? 
قالوا: بلى. 
فاجتمع رأيهم على ان يقولوا انه ساحر. 
اذن الوحى و النبوة و التحدى بالمعجزة تشبه احد اربعة اشياء: 
-الجنون ولهذا فان عالم الخيال عندما يناقشه ابن سينا و الغزالى و ابن عربى فانهم يستعملون فى بعض الاحيان الحالة العقلية و النفسية للمجنون الذى يدرك حسبهم لمحات غير متميزة من عالم الخيال. اما النبى فانه يدرك بعقله الجزء الموضوعى من ذلك العالم الذى هو البرزخ بين عالمى المادة و الروح. 
- الشاعر. وهم مجمعون ان ما يقوله ليس بشعر و انهم لا يطيقون الاتيان بمثله. ومن هنا يأتى الاعجاز البلاغى و الجرجانى من اكبر المختصين فى هذا الامر (ترقبوا ملخص الرسالة الشافية فى المنشور القادم ان شاء الله). 
-الكاهن. لكن الرسول لا يتنبأ بل يقول ان شاء الله اى ان عقيدة القضاء و القدر و علم الله الازلى كما يُعبر عنهما الرسول بقوله (ان شاء الله) فى كل شيء هى الدليل على انه ليس بكاهن. وهذا من اعظم دلائل النبوة على تواؤمية القضاء و القدر فى الاسلام كما ذكرته فى مواضع اخرى. فالنبى دليل على التواؤمية و التواؤمية دليل على النبى وهذه الثنائية من افضل انواع البرهان. 
-ساحر. و أتفقوا ان الرسول ساحر و ان القرآن سحر و هو من نوع سحر بابل (العراقى-اليهودى). 
 نحن نعلم بل نحن نؤمن ان الرسول ليس بساحر لان تفرقته بين الزوج و زوجته ليست فى الشر من اجل الشر بل هى نتيجة حتمية لطبيعة الايمان الذاتية الذى هو نور يقذفه الله فى قلوب البعض و لا يقذفه فى قلوب البعض الآخر (تواؤمية القدر مرة اخرى). 
اذن الرسول ليس بساحر لكن كون قريش تقول انه ساحر يؤكد لنا الاعجاز البلاغى للقرآن من طريق اخرى غير مباشرة.
 فاهم نموذج قدمته قريش فى القرآن هو ان القرآن سحر و السحر مُعجز للمسحورين حتى نكتشف العلم الذى يقوم عليه. 
(واذا لم يكن هناك علم يقوم عليه فهو خرق للعادة معجز فعلا. نصل الآن الى نقطة مهمة هل السحر مُعجز. هناك آراء لكن الرأى السليم الصحيح انه ليس كذلك بل كل السحر هو علم الا معجزة النبى و كرامة الولى فهما خرق للعادة حقيقى و ليس مُتوهم). وهذه هى دلالة الاقوال (على مصطلح الجرجانى) وهى دلالة قوية جدا على اعجاز القرآن وهذا بشرحى الشخصى جدا الذى استمددته من المنطق الميتافيزيقى الوجودى للفيزياء النظرية التى تؤسس المنهج الذى ادعوا اليه فى التفكير الفلسفى العلمى. 

 بين اعجاز القرآن للبلغاء و اعجاز نظرية كل شيء للفيزيائيين

 امرؤ القيس اعجز غيره من العرب لكن لم يُعجز منافسيه من شعراء الطبقة الاولى من الفحول وهم النابغة الذبيانى و زهير بن ابى سلمى و الاعشى الذين جايلوه. بالمثل فان اينتشاين اعجز غيره من الفيزيائيين فلم يأت احد بمثل ما أتى لحد الساعة لكن الفرق ان لا احد ادعى ان النسبية العامة مُعجزة للفيزيائيين. 
دعنى اقول شيئا مختلفا جديدا. دعنى اقول ان النسبية العامة هى فعلا مُعجزة للفيزيائيين وهى قد لا تكون مُعجزة دائما لان احدهم قد يأتى بنظرية الثقالة الكمومية لكن حتى ذلك الوقت فهى مُعجزة للجميع و حتى بعد ذلك الوقت فهى ستبقى مُعجزة للجميع الا ذلك الشخص الذى سيأتى بنظرية الثقالة الكمومية فهو الوحيد الذى سيخرج من دائرة العجز. 
الاغلبية الساحقة من العرب باستثناء شعراء الطبقة الاولى كانوا و مازالوا و سيبقون داخل دائرة العجز بالمقارنة مع شعر امرؤ القيس. 
بنفس الطريقة فان الاغلبية الساحقة من الفيزيائيين باستثناء الفيزيائى الذى سيكتشف نظرية الثقالة الكمومية كانوا و مازالوا و سيبقون داخل دائرة العجز بالمقارنة مع النسبية العامة لاينتشاين. 
الآن القرآن مختلف لانه يتحدى العرب بأن يأتوا بمثله و لم نسمع ان العرب قد أتوا بمثله. 
 التحدى فى حد ذاته دليل على النبوة لان الكاذب لا يمكن ان يتحدى هكذا تحدى فالكاذب مبلغ علمه و جل همه هو النجاة بكذبه الذى كذبه و ليس ان يتحدى القوم الذين كذب عليهم ثم يضيف الى هذا التحدى انه يتحداهم وهو كاذب بالضبط فى صنعتهم التى هم فيها متميزون و ممتازون. 
تصوروا امرؤ القيس يتحدى العرب فى الاتيان بالمثل ثم يتحداهم انهم لن يستطيعوا ذلك. و قد تحدى امرؤ القيس كثير من الشعراء فى الاتيان بالمثل (فهذه هى المعارضة التى كانت مشهورة بين الشعراء) لكن لم نسمع عنه ابدا انه تحداهم انهم لن يستطيعوا الاتيان بالمثل. وقصة تحدى امرؤ القيس لعلقمة بن عبدة فى وصف الفرس هى مثال مشهور حيث حكمت ام جندب (زوجة امرؤ القيس) ضد زوجها لصالح علقمة بن عبدة فطلقها امرؤ القيس (هؤلاء العرب عرب الجاهلية هم فعلا عرب  ليسوا ابدا مثل عرب العصر الحديث). 
اما اينشتاين فانه لم يتحدى احد بواقع المقال بأن يأتوا بمثل نظريته فى النسبية العامة لكنه تحداهم بواقع الحال ان يأتوا بالمثل. فكل الفيزياء النظرية من عهد نيوتن الى عهد اينتشاين الى عهدنا هذا مبنية على المنافسة الشديدة و المعارضة و التحدى و الاتيان بالمثل و الاعجاز و من لم يفهم هذا الامر من الفيزيائيين الطلبة او الاساتذة فهو مازال لم يفهم شيئا فى الفيزياء. 
اذن الفيزياء مبنية على محاولة الاتيان بنظرية او اكتشاف و اعجاز غيرك بذلك دون التصريح بذلك التحدى. 
دعنا نذكر الآن شيئا آخر جديد. نظرية كل شيء. اقول ان نظرية كل شيء (التى ستصف و ستشرح كما يدل اسمها كل شيء مادى وجد او موجود او سيوجد فى هذا الكون) هى نظرية مُعجزة للكافة مثلما ان القرآن معجز للكافة. 
اى انه بكل بساطة لن يتم ابدا اكتشاف هذه النظرية مهما حاول الفيزيائيون ذلك و السبب بكل بساطة انها تريد ان تصف كل شيء و هذا كثير جدا على قدرات العقل الانسانى ان يتحمله. 
اذن نظرية كل شيء هى قطعة من الوحى الالهى الكونى (وهو مصطلح ابن عربى) التى احتفظ بها الله سبحانه و تعالى فى علم غيبه عكس القرآن الذى هو قطعة من الكلام الالهى الذى اوحى به الله سبحانه و تعالى الى محمد صلى الله عليه و سلم فخرج بذلك الى عالم الشهود. 
لكن على هذا الفهم الذى طرحته هنا فهما الاثنان معجزان معا (القرآن) مُعجز لغويا للكافة من العرب الفصحاء و (نظرية كل شيء) مُعجزة فيزيائيا للكافة من العلماء الكونيين. 

 مقارنة بين النبى و العبقرى 

من اقوى الادلة التى يأتى بها الرافضون للاعجاز هو دليل الربوبيين -اى المؤمنين بالله الذين لا يؤمنون بالنبى- القائلين بأن القرآن فعلا مُعجز لأنه عمل عظيم لكن كذلك اعمال افلاطون و ارسطو و نيوتن و اينتشاين و شكسبير و تولستوى و غيرهم من العلماء و الادباء و الفنانين فكل واحد من هؤلاء عمله مُعجز لا يمكن الاتيان بمثله ابدا. و هذه قضية صحيحة بعد تكييفها قليلا و هى نقطة بداية النهاية لجميع الاطراف (او هكذا اعتقد). 
ففعلا عمل كل هؤلاء العباقرة مُعجز لكنه مُعجز فقط الى غاية ان يأتى احد بعدهم بمعجزته. 
ولاننا نتكلم فى اطار العبقرية فالمعجزة هنا هى الابداع و بعض ذلك الابداع فعلا قاهر جبرى للاخرين يمكن وصفه بالمعجزة. 
فنيوتن عمله معجز للفيزيائيين حى اتى اينشتاين و اعجز غيره بنظريته الثورية و اينتشاين سيبقى معجز الى غاية ان يأتى احد بثورة مغايرة فى الفيزياء. 
نفس الشيء افلاطون معجز لكنه لم يعجز ارسطو وهل هناك من يقول غير ذلك و افلاطون و ارسطو لم يعجزا هيوم و كانط مثلا وهكذا فكل ابداع عظيم يأتى بعده ابداع اعظم او على الاقل يساويه. 
والامر اوضح فى الادب والفن. 
جيد الآن السؤال اذا كان القرآن هو افلاطون فما هو ارسطو و اذا كان القرآن هو نيوتن فما هو اينشتاين و هكذا اى السؤال اذا كان القرآن عملا عظيما فما هو العمل الروحى الاعظم الذى يُعوضه. 
اعتقد سيتفق الجميع انه لا يوجد شيء قد ضاهى القرآن بعد القرآن مثلما ان كانط قد ضاهى ارسطو و مثلما ان اينتشاين قد ضاهى نيوتن. 
وهذا هو الفرق الاول بين العبقرية و النبوة. 
السؤال الآن من اين أتى افلاطون بابداعه و من اين اتى ارسطو بابداعه و قد سألت هذا السؤال (الذى لا يسأله احد) فى منشور قديم بنية مختلفة لكن ذات علاقة. ومن اين اتى نيوتن بابداعه و من اين اتى اينشتاين بابداعه. ومن اين اتى كل هؤلاء الادباء و الفنانون بابداعهم. 
الجواب هو الالهام و الكشف علينا ان نعترف بذلك. رغم ان اغلبنا لا يعرف ماهو الالهام و الكشف لاننا لم نجربهما قط و لن نجربهما قد. 
لكن اغلبنا يؤمن بالالهام و الكشف و الابداع على انها حالة مفردة من الله سبحانه و تعالى او من الطبيعة ليست ذات علاقة بالاجتهاد و العمل و المواظبة. 
فالعبقرية (النظرية و الرياضية و الميتافيزيقية و الادبية و الفنية) تسمح لصاحبها بأن يرى الاشياء بطريقة غير خطية تستمدد من عالم الخيال البرزخى و لا تكتفى بعالم المادة و هى طريقة لا يمكن لغيره ان يستوعبوها بله ان يطبقها و يتماهى. 
العبقرى يمكنك ان تتماهى معه لكن لن تفهم ابدا كيف يأتى بافكاره ابدا فالوعى الظواهرى هو سر آخر من اسرار الغيب يضاهى سر القدر و سر الزمن او هو ربما سر القدر او الزمن نفسه. 
و طريقة العبقرى التى بها يعبقر و يأتى عبرها بابداعه هى طريقة ليس هو حرا فيها -فهو لم يختر ان يكون عبقريا و ان يرى الاشياء عبر تلك الزوايا و بذلك النفاذ و العمق- بل هو وجد نفسه فوجدها شيء طبيعى فى وعيه و عقله و نفسه تلك الميزة التى يسميها الناس عبقرية. 
بالمثل فان هذا الالهام و الكشف علينا ان نقبل انه بداية انوار ما يسمى النبوة عندما يرى النبى اشياءا لا يمكن لغيره ان يستوعبها. 
اقول ان العبقرية هى نموذج علمانى للنبوة ليست شيئا آخر و من قبل امكانية العبقرية (التى لا دخل للاجتهاد او ما اسميه العقل التطبيقى فيها ابدا) فان عليه ان يقبل امكانية النبوة (التى لا دخل للعقل التحليلى فيها ابدا). وهذا هو الفرق الثانى بين العبقرية و النبوة. 
اما الفرق الثالث فهو فى كون كل من العبقرى و النبى تأتيهم العبقرية و النبوة كطبيعة ثانية مغروسة فى وعيهم و عقلهم و ليس اختيارا اختاروه. 
لكن العبقرى عندما يستشعر هذه العبقرية و يستشعر هذه الطبيعة الطبيعية بالنسبة له و يجد نفسيته سهلة متناغمة فى رؤية العالم و الوجود بطرق لا تتوفر لغيره فانه يقول اننى حر حرية مطلقة افعل ما اشاء -أليس احدهم قد وضع اسس المنطق و الآخر قد اخترع النسبية و الآخر اكتشف نظرية كل عين- اذن بالنسبة له لا يوجد جبر و قهر وجوديان فى هذا العالم بل كله اختيار و حرية الانسان العبقرى -ثم يأتى الانسان العادى ويتماهى مع مقولة الانسان العبقرى و هى لا تناسبه البتة-. 
لكن النبى لا يريد النبوة بل هى مفزعة له مجبور عليها (انظروا مالك بن نبى فى تحليله الفريد فى الظاهرة القرآنية) و رغم ان النبى يستشعر هذه النبوة و يستشعر ايضا سهولة و تناغم فى نفسيته فى رؤيته للعالم الفيزيائى و الميتافيزيقى على قدر سواء وهذا بطرق لا تتوفر لا للانسان العادى (الذى لا يرى شيئا و لا يعرف الا الجدال و المراء) و لا تتوفر حتى للانسان العبقرى و لا حتى للولى الذى هو عبقرى روحى فانه رغم كل هذا الذى يراه النبى بل بسبب كل هذا الذى يراه النبى و كل هذه الحقائق التى انكشفت له -دون اختيار منه- فانه لا يقول اننى حر حرية مطلقة استطيع ان افعل ما اشاء بل يقول عن كل شيء يصادفه و يعانيه (ان شاء الله). 
وهذا هو ثالث و اكبر فرق بين العبقرى و النبى. 
فالعبقرى يتعالى معرفيا و قد يتعالى عرفانيا وهو يرى نفسه حر مختار فهو عبقرى لا يعرف الصدفة و لا تعرفه الصدفة اما النبى فهو متواضع معرفيا و عرفانيا لانه يبقى طوال حياته غير مصدق ان الله قد اختاره من بين كل هذه البشرية لهذه المهمة العظيمة -الوصل بين الخالق و الخلق- غير مصدق ان الله قد تكرم عليه كل هذا الكرم و كشف الحجب امام بصره و بصيرته ليرى الحق و الحقيقة معا فهذا هو التفضل الذى ليس بعده تفضل و الوجود الذى ليس بعده وجود. 

 النبى هو الدليل على الاعجاز و ليس الاعجاز هو الدليل على النبى 

 النتيجة النهائية (فى هذه المرحلة): اعجاز القرآن الكريم ليس دليلا على نبوة محمد صلى الله عليه و سلم بل نبوة محمد هى الدليل على الاعجاز القرآنى. 
اذن بالنسبة للشعوبيين (وهم من يمثل الربوبيين وممثلهم فى الاسلام ابن الراوندى) و الزنادقة (وهم من يمثل الدهريين وممثلهم فى الاسلام ابى بكر الرازى) و الابراهيميين (وهم من يمثل المؤمنين وممثلهم فى الاسلام المعتزلة و الاشاعرة) فهم كلهم على صواب. 
الدليل او مجموعة القرائن الخاصة بالاعجاز البلاغى ليست كافية فى حد ذاتها بدون الايمان بمحمد صلى الله عليه و سلم. هذا لا يمكن ان يكون دليلا تحليليا كما كنت اعتقد و لا حتى دليلا وجوديا كما كنت سأقبل كحل وسط. 
لكن المعجزة بين ايدينا وهى القرآن الكريم. 
اذن ليس علينا الا استخراج الاعجاز منه كل حسب تخصصه فمثلا كفيزيائيين علينا ان نبحث عن الاعجاز الكونى فى النص وهذه هى طريقة الاعجاز العلمى التى اضطر الى ان ارجع اليها فى الاخير لان طريقة الاعجاز البلاغى غيرحاسمة البتة. 
 نذكر امثلة. 
لماذا دخل ابو بكر فى الاسلام و صدق بمحمد حتى فى اغرب مقالاته وهى الاسراء و المعراج? 
ولماذا حارب ابو جهل محمد و حاربه ابو لهب و غيرهما باستماتة و شراسة كبيرتين? ولماذا لم يدخل ابو طالب فى الاسلام رغم انه عم محمدا دافع عنه ووقاه الكثير من شرور قريش? (ثم يقول لك المتخلفين ذهنيا ان ابى طالب مخلد فى النار!!). ولماذا دخل عمر فى الاسلام عندما سمع القرآن لأول مرة رغم انه كان عدوا شرسا للمسلمين? 
العبرة ليست فى ان هؤلاء اعجزهم القرآن بتحديه ان يأتوا بمثله فلما أُعجزوا فان بعضهم خضع و دخل للاسلام و بعضهم جاحد و عاند و بعضهم وقف فى الوسط. ليست هذه هى العبرة. العبرة هى ان الله قذف الايمان فى قلب عمر الفاروق و لم يقذف الايمان فى قلب ابى جهل. هذه هى العبرة. العبرة هى الحس الالهى (من مصطلحات علم نفس الدين) اى ان بعض الناس يمتلك ذلك الحس و بعضهم لا يمتلكه. اذن الايمان هو الدليل على الاعجاز و ليس الاعجاز هو الدليل على الايمان. 
نأخذ مثالا آخر. لماذا يدخل كثير من الغربيين الى الاسلام كل عام و لماذا يخرج الكثير من العرب من الاسلام كل عام. هى ليست معجزة القرآن و الدليل البلاغى او غيره كالدليل العلمى او الدليل الكلامى او غيره. العبرة ان هؤلاء الغربيين الذين دخلوا الى الاسلام لديهم حس الهى فطرى لم تملأه المسيحية و لا اليهودية و وجدوه فى الاسلام فدخلوا فى الاسلام فلما دخلوا فى الاسلام رأوا الاعجاز القرآنى رغم انهم لا يتكلمون اصلا العربية لا قليلا و لا كثيرا لا دارجة و لا فصجى و لا دزيرية مخلوطة بالفرنسية الركيكة. اما هؤلاء العرب الذين خرجوا من الاسلام فهم لا يتمتعون بالحس الالهى ثم زاد الطين بلة انه يعيش بين ظهرانيهم هؤلاء المتدينون الذين يتكلمون باسم الدين هؤلاء القساة الغاضبون العنيفون الحاقدون الذين يكرهون و يحقدون و يبغضون كل شيء باسم الدين نفسه. فهؤلاء المتدينون الخوارج سيُنفرون الجميع من هذا الدين وليس فقط من ليس لهم حس الهى. 
الحس الالهى هى الروحانية الفطرية التى يجدها بعض الناس فى نفوسهم. وعندما يخرج احدهم من الاسلام فانه لن يرى اى اعجاز فى القرآن. فحتى الانسان غير المسلم العادى جدا غير المتحامل الموضوعى جدا لن يرى اى اعجاز فى القرآن وهى اصعب قضية يمكنك ان تشرحها له-من تجربتى الشخصية-. لانه بكل بساطة تحتاج الى الايمان حتى تصبح هذه القضية قضية معقولة يمكن فهمها. و بدون الايمان فهى قضية غامضة ان تقول ان هذا الكلام معجز للكافة ماذا يعنى هذا, ماذا يعنى انه معجز و انه معجز للكافة بالنسبة لهذا الغربى. 
اذن هذه اسئلة معقولة جدا ليست لها اجابة بدون الايمان بمحمد و محمد هو دليل اعجاز القرآن و بعد ان تؤمن بمحمد ستبدأ فى رؤية اعجاز القرآن و لكن ليس قبل ذلك. 
اذن هناك ثنائية بين محمد و القرآن اسميها الثنائية المحمدية/القرآنية لن ينفع فى البرهان عليها تحليليا لا المنطق و لا البلاغة و لا العلم لان نقطة ارتكازها هو الايمان و هو النور الذى يقذفه الله فى قلب المرء (كما قال الغزالى) و اضيف الى قوله النور الذى يقذفه الله فى قلب البعض و لا يقذفه فى قلب البعض الآخر. 
اذن حتى لو ذهبنا الى الاعجاز العلمى فان نفس القضية ستُطرح و سنحتاج من اجل بناء الثنائية المحمدية/القرآنية تحليليا على الاعجاز العلمى سنحتاج الى عنصر الايمان او على الاقل قليل منه حتى نستطيع الانطلاق. 
وشخصيا من الناحية الانسانية المحضة (التى تحكمنى قبل الناحية الدينية) لا استطيع ان الوم من لم يقذف الله نور الايمان فى قلبه لان الايمان هو منطلق فهم الثنائية المحمدية/القرآنية وهو لا يمتلكه فهو اذن لن يستطيع ابدا ادراك كنه هذا الاعجاز ليس بالضرورة عن جحود و انكار بل هى قضية منطقية و بعض الناس منطقيون فعلا جدا. اما شخصيا فاننى ارى ان القرآن معجز-لأنه لدى قليل من الايمان يسمح لى برؤية ذلك ادعوا الله ان يحفظه على-و رغم اننى أُقر ان الدليل البلاغى هو ليس بدليل تحليلى بل لم يرتقى حتى الى مصاف الدليل الوجودى لانعدام القوة الكافية فيه فاننى أُقر ان القرآن معجز لكننى لا استطيع ان ابرهن لكم على هذا الامر بطريقة تحليلية حاسمة (على الاقل فى هذه المرحلة). 
 و اننى ادعى و اقول ان لا احد فعل ذلك قطعا. فكل من يتحدث فى الاعجاز البلاغى و العلمى و الصوفى و غيره فانه ينطلق من الثنائية المحمدية/القرآنية و يفترض انها صحيحة الى حد ما بالاعتماد على الايمان ثم يناقش. 
الطريق الصحيح فى فهم هذه الثنائية هو ان محمدا هو الدليل على الاعجاز و ليس العكس و هذه هى طريق ابى بكر الصديق و الامام على عليه السلام و الرعيل الاول من المسلمين. 
محمد بن عبد الله النبى هو دليل الاعجاز القرآنى بلاغى او علمى او او و ليس الاعجاز هو الدليل على محمد صلى الله عليه و سلم.

الاعجاز القرآنى-حوصلة 

 البعض قد يسيء الفهم خاصة ان الافكار التى اعرضها هنا هى افكار معقدة و مركبة الى حد كبير تتطلب قراءة ما كتبته سابقا و الرسائل التى نصحت بها (رسائل المعتزلة و الاشاعرة و السلفية التى ذكرتها لكن لا تقرأوا اعمال ابن الرواندى و ابى بكر الرازى فهما خطيران جدا على غير المحصن فكريا بشكل معين). 
اولا اننى شخصيا اؤمن بالاعجاز القرآنى على مستويات مختلفة وكما يذكر ابن عربى (كل معنى من القرآن مفهوم للمخلوق هو مقصود للخالق) فهذا من الاعجاز الصوفى وهو من اكبر انواع الاعجاز التى يندر نقاشها. 
لكن هذه ليست قضية شخصية فشخصى ليس مهم فى الموضوع بل الشيء الوحيد المهم هى الحقيقة و هل سنكذب او ندلس على انفسنا مثلا (ربما البعض)? 
ثانيا لكننى ايضا تحكمنى بل اسعى ان تحكمنى الموضوعية العلمية و المنطقية الصارمة. وكما قال الفخر الرازى اذا انقطعت ربقة التقليد عن المرء فليس له مطمع ابدا فى تحقيق الايمان الا عبر البرهان. ثم ان الحقيقة لا تخشى البحث و اذا كان الايمان حقيقة فهو لن يخشى البحث. 
ثالثا الايمان كان عاملا اساسيا فى تقبل عقولنا لكثير من انماط التفكير التى لا تدخل فى اطار المنهج العلمى الموضوعى الذى اخترناه ان يحكم تحليلاتنا. فهناك فرق بين الايمان (بالاعجاز مثلا) و العلم (ببرهان الاعجاز مثلا). على هذا الفهم اذن فان الايمان هو منهج معرفى منفصل نريد اعادة بناءه قدر المستطاع تحليليا ولو ان الايمان فى صميمه غير تحليلى (انظر ادناه و انظر التعليقات السابقة ايضا). وعندما نقول ان العلم موضوعى (فهو فعلا كذلك) فان هذا لا يعنى ان الايمان غير موضوعى فى صميمه. بل هو دورنا اخضاع الايمان لموضوعية العلم و اذا لم نستطع (ولن نستطع) فعلينا ادراك ان الايمان يأتى بموضوعيته الخاصة به التى يمكننا تطويرها نحو التماهى مع الموضوعية العلمية (نعم هذا ممكن جدا و لهذا فنحن نكتب ما نكتب). 
رابعا قضية النبوة (عكس قضية الالوهية) كما ذكرنا فى التعليقات لم نستطع اخضاعها لحد الساعة للدليل الوجودى (الاحتمالى التحليلى المنظوريانى). 
خامسا لان عقولنا متشبعة بقدر يزيد او ينقص من الايمان فهى ترى قوة دليل الاعجاز القرآنى بشقيه (البلاغى و التحدى) لكن هذا ليس دليلا تحليليا لا عقليا و لا وجوديا يمكنك ان تقدمه لغير المؤمن و تنصرف. 
سادسا القرآن معجز بشكل اقوى بكثير من عصا موسى مثلا. لان عصا موسى هى اعجاز حسى قد انقضى و يمكن لاى احد ان يُكذب به فهى معجزة لم يرها الا قوم موسى اما القرآن فهى اعجاز فكرى فالمعجزة امامنا بين ايدينا و الحقيقة لا تخشى البحث فلنبحث فيها اذن. ولاحظوا ان كل معجزات موسى هى معجزات حسية ورغم هذا فان اليهود و الفراعنة لم يؤمنوا به رغم انهم رأوها بأم اعينهم اذن بالاولى ان يرفض من جاء بعد موسى من الربوبيين و الدهريين معجزة موسى فهم لم يروها رأى العين و لا يصدقون برواية القرآن. بالمثل فانه بالاولى ان يرفض من كان مع محمد من العرب و من جاء بعد محمد من العرب معجزة القرآن لانها بكل بساطة معجزة اضعب على الادراك من اى معجزة حسية (مثلا قلب العصا حية او شق البحر) فمعجزة القرآن تحتاج الى ذكاء فكرى معين-متجرد من الحواس- قبل ان يُدركها من سيدركها. 
سابعا لكن ادراك معجزة القرآن يتطلب ايضا الايمان او قدر معين منه قبل ان تتطلب الذكاء. فهنا نحتاج الى قفزة ايمانية على طريقة كيرغارد حتى يقع ادراك الاعجاز او نواته الاولى التى يمكن بعد ذلك تنميتها رويدا رويدا بالتنقيب اللغوى و البحث العلمى و التحليل الفلسفى و التأمل الصوفى.

 الظاهرة المحمدية و الظاهرة القرآنية

 مالك بن نبى رجل ذكى وهو رجل فرنكفونى الثقافة بالاساس الامر الذى جعله يتميز بعقلانية ديكارتية حقيقية قل نظيرها فى هذا العصر بين المعربين و المتعربين و العرب. 
فمالك بن نبى قد رأى مثلا بديكارتيته التى تعلمها فى المدارس الفرنسية بالضبط المعضلة الحقيقية التى تواجه الاسلام و المسلمين. 
فلم يتورط فى التسييس الذى تورط فيه الاخوان مثلا و لا الاصلاح الذى تورطت فيه جمعية العلماء و لا التسلف الذى تورط فيه غيرهما ممن جاء بعدهما. 
فهى معضلة حضارة عنده وهى ظاهرة قرآنية عنده. 
واقول ان معضلة الحضارة (التى هى بالاحرى معضلة العلم) هى ايضا فى الحقيقة معضلة جانبية ثانوية فالاساس هو الاسلام بثوابته المتينة و العلم يمكن تطويعه لخدمة الاسلام او تركه اكبر متحدى للاسلام كما هو عليه الحال اليوم. 
فالخيار خيار المسلمين فى الدنيا كما كان الخيار خيار آدم فى الجنة. 
اما الظواهر التى يتكلم عنها مالك بن نبى فهما فى الحقيقة ظاهرتان اثنتان و ليست ظاهرة واحدة هما الظاهرة المحمدية و الظاهرة القرآنية. 
والتحدى هو اثبات ان هذه الظواهر هى ظواهر موضوعية ذات محتوى يوازى و يكامل المحتوى الموجود فى الظواهر الطبيعية للذرة و الوعى و المجتمع. 
اذن ثابتا الاسلام الاساسيان هما الظاهرة المحمدية كون محمد نبى من عند الله سبحانه و تعالى و الظاهرة القرآنية كون القرآن هو معجزة وهما يشكلان معا ثنائية بل قد يشكلان معا احادية تظهر لعقولنا التحليلية على انها ثنائية حتى تستطيع عقولنا البسيطة التحليل و النقد و البرهان. 
اذن المعضلة الحقيقية التى تواجه الاسلام هو المسيح الدجال الذى هو العلم الحديث و هذا ليس نقدا للعلم بل هو تأويل لفكرة المسيح الدجال فالعلم مع كل ايجابياته هو المشكك الاساسى فى القضايا الايمانية تشكيكا وجوديا مثل الذى ذكرته الآثار عن المسيح الدجال. 
اذن كيف سيصمد الايمان امام العلم. بل كيف سيصمد المؤمنون امام العلم. 
اقول لن يصمد الا القليل و ان آجلا او عاجلا ستتهاوى كل القلاع الفكرية المبنية على الرواية و الدراية و حتى على العقل المحض و لن يتبقى الا الايمان المبنى على العرفان و الكشف لان ايمان النبى نفسه هو من هذا الباب ليس ايمانا تحليليا مبنى على الرواية او الدراية او العقل. 
اذن قد يصمد الايمان امام العلم الذى هو المسيج الدجال عندما لا يصمد المؤمنون امامه لكن صمود بعض هؤلاء لا يكون و لن يكون الا بفهم العلاقة الحقيقية بين الظاهرة المحمدية و الظاهرة القرآنية و كيف تتعاضد هذه الظواهر من اجل حماية الايمان و بالمثل كيف يحمى الايمان هذه الظواهر حماية عقلانية تحليلية بعيدة عن الحشو و الغلو و اللاانسانية. 
وقد دعونا منذ سنوات الى محاولة فك الظاهرة المحمدية عن الفكر السلفى و حمايتها من الميول الطبيعية لهذا الفكر نحو تدمير الاسلام من الداخل مثل الذى حاوله بل فعله شمشوم الجبار عندما قال (على و على اعدائى) وهدم المعبد على رأس اعداءه وهو معهم داخل المعبد. 
اذن حتى نحمى محمدا من هذا الانتحار الفكرى الدوغماتى علينا تطليق الفكر السلفى من الظاهرة المحمدية. 
بالمثل فاننا ايضا ندعوا الى محاولة تفكيك الظاهرة المحمدية و كذا الظاهرة القرآنية عن الفكر اليهودى وحمايتهما من الميول الطبيعية لهذا الفكر او بالاحرى هذا الدين نحو تدمير الدين الابراهيمى عبر ملأه بالخرافة و الاسطورة و اللاعلم. 
وقد لا يفهم البعض خطورة هذه الدعوى. 
فاقول باختصار ان الكثير من العقلانيين يعتمد على محاولة فهم محمد على انه ظاهرة نفسية و فهم القرآن على انه ظاهرة تاريخية اما الايمان العقلانى فهو يُصر على ان محمد و القرآن هما كما فهمهما مالك بن نبى ظاهرتان طبيعيتان موضوعيتان ليس هناك اى علاقة لهما بنفسية محمد و بالتاريخ الذى جاء فيه محمد لانهما من عند الله. 
وحتى ينجح الايمان فى البرهان على نفسه امام المسيح الدجال الذى هو العلم فانه يجب عليه ان يبرهن على موضوعية الظاهرة المحمدية و كذا موضوعية الظاهرة القرآنية. وهذا لن يتأتى له ابدا الا بعد التفكيك الكامل لاى علاقة مشتبهة بين الفكر اليهودى السابق لمحمد بمحمد (اذن حتى نقطع الشبهة بأن محمدا اخذ من عند اليهود) و كذا التفكيك الكامل لاى علاقة مشتبهة بين الفكر السلفى اللاحق بمحمد بمحمد (وهذا حتى نقطع شبهة ان بعضهم هو ناطق وممثل رسمى لمحمد).
 بل الحقيقة اقرب الى ما قاله ابن عربى فى ان كل معنى مفهوم من القرآن (واضيف كل معنى مفهوم من محمد) هو مقصود للقرآن (مقصود لمحمد). 
وهذه منظوريانية نيتشة و الطريقة العلمية فى اصفى صورهما. 
فالحقيقة هى بصريات المعرفة مثلما ان الصورة هى بصريات الضوء فاذن مجموع كل المنظوريانيات الممكنة من كل الزوايا الانسانية يجب ان يدخل فى تشكيل تلك الصورة التى نسميها معرفة و حقيقة و ايمان.

 فلسفة الكلام: الاعجاز الفلسفى فى القرآن الكريم

 علم الكلام او بالاحرى فلسفة الكلام (فهو فلسفة و ليس علما) اذا مورس بالشكل الصحيح قد يوفر فى الحقيقة الاعجاز الفلسفى فى القرآن الكريم. 
ففلسفة الكلام هى فلسفة تفترض الوحى كمسلمة تنطلق منها لاكتشاف العالم وهذه هى طريقة الاعجاز العلمى لكن علم الكلام هو علم بمنهجية متينة و اصول راسخة و مدارس عريقة. 
اذن بدون شك فان طريقة فلسفة الكلام هى المنهجية الافضل و ايضا يبقى الاعجاز العلمى فرع على الاعجاز الفلسفى و ليس العكس. 
و عندما نقول علم او فلسفة الكلام فاننا نقصد دقيق علم الكلام (وهو ما نسميه اليوم فلسفة الفيزياء) و لا نقصد جليله (وهو الميتافيزيقا او الالهيات او فلسفة الانطولوجيا). اقدم فى هذا الفيديو مبادئ علم الكلام حسب موسى بن ميمون (وهو تلميذ ابن رشد) فى هداية الحائرين وايضا مبادئ علم الكلام حسب الاستاذ باسل الطائى فى كتابه دقيق الكلام. 
ابنى على آرائهما و اقول ان مبادئ علم او فلسفة الكلام هى مبادئ سبعة: 
اولا مبدأ الذرية اى مبدأ وجود الجسيم الاولى و الكم و البت. اى ان المادة وكذا الطاقة و كذا المعلومات كلها كينونات متقطعة (منفصلة) و ليست مستمرة (متصلة). وهذه نتيجة تجريبية اساسية للميكانيك الكمومى. 
ثانيا مبدأ وحدة الفضاء و الزمن. اى انه لا فرق بين الفضاء و الزمن و يجب توحيدهما فى كينونة واحدة. فمثلا الغزالى كان يقارن الفوق/التحت فى المكان بالماضى/المستقبل فى الزمان. و كان ابن عربى يقول ان المكان زمان جامد و ان الزمان مكان سائل. ومبدأ توحيد الفضاء و الزمن فى كينونة الفضاء-زمن هو المبدأ الاساسى للنسبية. 
ثالثا مبدأ تقطيع الفضاء و الزمن. اى ان الفضاء-زمن مثل المادة يجب ان يكون متقطعا منفصلا و ليس مستمرا متصلا. وهذه هى الفرضية الاساسية لجميع نظريات الثقالة الكمومية و هى ستكون مكون اساسى لما يسمى (نظرية كل شيء) التى هى نظرية الثقالة الكمومية الصحيحة. 
 رابعا مبدأ الخلق المتجدد. اذن الخلق يتجدد فى الآنات وهو مبدأ من مبادئ المتكلمين الراسخة و بخاصة الغزالى و ابن عربى. وهذا هو فعل الرصد الكمومى. ففعل الرصد الكمومى يُخرج الكينونات من الوجود الكامن الى الوجود المتحقق كل مرة نقوم فيها بالرصد. او ان فعل الرصد يؤدى الى انشطار العالم كل مرة نقوم فيها بالرصد. 
خامسا مبدأ الحدوث. كل شيء يقع فانما يقع بسبب و الاسباب تتوالى الى سبب اول. وهذا السبب الاول هو الانفجار الاعظم. 
سادسا مبدأ التناهى اى مبدأ عدم وجود المالانهاية المتحققة. اذن الاسباب يجب ان تتوالى و تنتهى الى سبب اول لانه لا يمكن لعدد الاسباب ان يكون مالانهائى اذا كانت المالانهاية غير موجودة. 
سابعا مبدأ التجويز وهو القول بأن السببية غير حتمية. اذن السببية موجودة لكنها جائزة غير واجبة بمعنى آخر فان الاسباب ليست حتمية و وجود المسببات بعد وجود الاسباب ليست ضرورة عقلية (بل هى ضرورة طبيعية يمكن ان تتخلف و ليس لدينا عليها اى برهان الا الاستقراء كما بين ذلك هيوم). وهذا يؤكده من الناحية التجريبية كل من الميكانيك الكمومى و تواؤمية حرية الارادة فى علوم الوعى. 
هذه هى توليفتى الشخصية لمبادئ فلسفة الكلام.
 وكما ترون فان تنظيرات المتكلمة لم تبتعد كثيرا عن النتائج العلمية المعاصرة مما يدل على اعجاز كلامى فى القرآن الذى انطلقوا منه وهو اعجاز يريد ان ينكره كثير من المؤمنين انفسهم وهذا مما تحار امامه العقول.
 اذن نحن فعلا نحتاج الى كتابة (هداية اخرى للحائرين) ليست موجهة هذه المرة الى اصحاب الكلام (كما اراد ذلك موسى بن ميمون) بل الحائرين اليوم هم من المناهضين للكلام ممن يفهم و لا يفهم على قدر سواء. 
لكن فلسفة الفيزياء فيها الكثير من الجديد (علم الكلام الجديد) الذى لا تنقضى عجائبه و فلسفة الكلام هى ليست الا مواصلة فلسفة الفيزياء انطلاقا من الوحى و وصولا الى العالم من اجل كشف و اكتشاف الاعجاز الفلسفى الكلامى فى القرآن الكريم.

 الثنائية المحمدية/القرآنية 

 أُلخص فى هذا المقال كل ما ذكرته حول الاعجاز القرآنى هذه الصائفة. أ
بدأ بملخص للمقال. 
ثم أُقدم فى الباب الاول شرح مستفيض للنظرية المعتزلية-الأشعرية-السلفية فى الاعجاز القرآنى التى تعتنى بالجزء البلاغى من الاعجاز الفكرى للقرآن الكريم. مثلا اشرح باستفاضة رسائل الرمانى (المعتزلى) و الجرجانى (الاشعرى) و الخطابى (السلفى) وهم جميعهم ادباء و لغويون فحول و ليسوا فقط ممثلين للميتافيزيقيات الاسلامية الاساسية: المعتزلية و الاشعرية و السلفية. 
فى الباب الثانى اقدم النظرية الوجودية فى الاعجاز القرآنى التى تأخذ الاعجاز البلاغى كنقطة انطلاق و تضيف اليها القفزة الايمانية لكيرغارد كعنصر مؤسس لما سميته الثنائية المحمدية/القرآنية. 
فى الباب الثالث اقدم حوصلة. 
اقول فى آخر نقطة من هذه الحوصلة: "ثامنا هذه هى الثنائية المحمدية/القرآنية التى يجب اخذها كبديهية او بالاحرى اخذ محمد صلى الله عليه و سلم كبديهية (مثل بديهيات العلم التجريبى مثلا بديهيات الميكانيك الكمومى) التى لا نستطيع الا ان نتحقق منها بعد ذلك تجريبيا (البحث فى الاعجاز هو مثل اجراء التجربة العلمية) فنتأكد من البديهية (محمد) و نطمأن الى التجربة (الاعجاز)."
انظر المقال (النظرية الوجودية فى القرآن الكريم).



وجهة نظرى فى الوجودية 

 دعونى الخص لكم وجهة نظرى فى (الوجودية) باقتضاب: 
اولا (معضلة الوجود) اساس حلها يكمن فى (معضلة الوعى). ف(الوجود الواعى) هو المعضلة و ليس الوجود المادى (او غير المادى) المحض الذى لا يتحلى بأى وعى. 
ثانيا (معضلة الوعى) اساس حلها يكمن فى (معضلة الشر) لان اسوء ادراكات (الوعى) هى ادراكات (الشر) فهذا الشر هو الذى يجعلنا نرجع الى (الوجود) و نتشكك فى انه نيلي و عدمي و عبثي. فمثلا لو لم يكن هناك (وعى) لما كان هناك (شر) لانه لما كان هناك (ادراك للشر) بل لو لم يكن هناك (وعى) لما كان هناك (وجود) لانه لما كان هناك (ادراك للوجود). اذن اساس الوجود هو الوعى و اساس الوعى هو لماذا الشر. فهذا (الوجود الواعى الشرير) هو الذى يجعلنا نخشى الموت. 
ثالثا (معضلة الشر) اساس حلها (معضلة حرية الارادة). فالانسان يجب ان يكون حرا حرية حقيقية حتى يترتب عنه شر. هنا مسلمتان ان (الوجود) ليس فيه (شر) و ان (الوعى) هو منبع الشر. 
 رابعا (معضلة حرية الارادة) اساس حلها (معضلة العقل-و-الجسم). فالعقل يجب ان يكون منفصلا عن الجسم انفصالا حقيقيا لان الجسم يخضع للاسباب وهى حتمية جبرية اما العقل فهو غير مادى غير حتمى وهو منبع الحرية. هنا العقل هو الوعى فبدون الوعى لا يمكن ان نتكلم عن حرية و مسؤولية. 
خامسا (معضلة العقل-و-الجسم) اساس حلها (معضلة النفس) و ما يسمى النفس هو التوحيد بين العقل الواعى و الجسم الغريزى. ومن الواضح ان هذه (النفس) سوف تحتاج الى (فلسفة الفيزياء و الفيزياء) لوصف جزءها المادى و (فلسفة الوعى و علم النفس) لوصف جزءها النفسى. 
اذن حل (الوجود) هو (الفيزياء) و (علم النفس) و ليس الفلسفة المحضة التى تفترض هذا (الوجود). 
 
الوعيوية

(الوعيوية) بالعربية و (consciousnesslism) بالانجليزية هو المصطلح المعبر عن (الوجودية) التى ادعوا اليها. 
وهو مصطلح جديد فى اللغتين. 
و هذه الوعيوية تتلخص فى الآتى: 
-وحدة الوجود-و-الوعى. 
-الوجود لا بداية له و لا نهاية اما الوعى فقد بدأ عند آدم و ينتهى بالموت. 
-الوجود لا هو خير و لا هو شر اما الوعى فهو خير و شر. 
-الوجود لا هو حر و لا هو جبر اما الوعى فهو حر. 
-الوجود مادى و عقلى و الوعى عقلى. 
-الوجود تحكمه الاسباب و الحتمية اما الوعى فيجب ان يكون خارج الاسباب غير حتمى والا فلا مجال للحرية و اذا لم تكن هناك حرية فلا مجال لفهم الشر و اذا لم يكن هناك تبرير للشر فهى العبثية مرة اخرى. 
-الوعى بعد الموت هو خيال. 
 -الوعى هو مركز النفس وهو البرزخ بين الجسم و العقل. 
-النفس هى وحدة العقل-و-الجسم وهى الموضوع الكلامى-الفيزيائى الوحيد.

 انطومينيات كانط و فلسفة الكلام وجها لوجه 

 نبدأ من كانط حتى نستطيع ان نحكم على (فلسفة الكلام) حكما علميا فلسفيا موضوعيا تحده و تحدده الطريقة العلمية (الفيزياء التجريبية) و الطريقة الرياضية (الفيزياء النظرية) و الطريقة العقلية (الفلسفة) و الطريقة القرآنية (فلسفة الكلام). وكانط كما يعلم الجميع هو (او هيوم) هو اعظم فيلسوف بعد ارسطو بالاجماع و بدون منازع. 
كانط يلخص جميع الفلسفة فى اربعة معضلات او متناقضات او مفارقات عقلية او ما يسميها انطومينيات (مفرد انطومينية) اثنتان يسميهما النُقاد الانطومينيتان الرياضيتان و الاخريتان يسميهما النقاد الانطومينيتان الديناميكيتان. 
الانطومينية الرياضية الاولى: 
الجزء الاول او الفرضية هو القول بأن الفضاء-زمن هو بنية هندسية لانهائية و مستمرة متصلة. لكن الجزء الثانى او الفرضية المضادة فهو القول بأن الكون يتناهى فى الحجم و الزمن له بداية لأنهما تخلقا عند الانفجار الاكبر. وهذا هو التناقض العقلى او الانطومينية التى لا يمكن البرهان لا على الفرضية (الجزء الاول) و لا على الفرضية المضادة (الجزء الثانى). 
هذه كانت انطومينية على عهد كانط لكن اليوم العلم يؤكد على حقيقة الانفجار الاكبر ومنه فان الجزء الثانى هو الصحيح علميا تجريبيا. 
فلسفة الكلام ومنذ القديم و بالاجماع بين المدارس تؤكد على ان الفضاء و الزمن يجب ان يتوحدا فى كينونة واحدة هى الفضاء-زمن و يجب ان يتناهيا و يجب ان يكونان متقطعين وهذا متفق تماما مع النتيجة العلمية. 
الانطومينية الرياضية الثانية: الجزء الاول او الفرضية هو القول بأن المادة مستمرة متصلة يمكن مواصلة تقسيمها الى مالانهاية. لكن الجزء الثانى او الفرضية المضادة فهو القول بوجود الجزء الذى لا يتجزأ الذى ينتهى عنده تقسيم المادة. وهذه هى الانطومينية اى التناقض العقلى الذى لا يمكن البرهان لا على الفرضية و لا على الفرضية المضادة وهذا الوضع كان صحيحا على عهد كانط لكن اليوم على العكس انه من اليقينيات العلمية الكبرى وجود الجزء الذى لا يتجزأ او الجسيم الاولى وجودا تجريبيا مؤكدا. و كلمة (الأولى) فى المصطلح العلمى (الجسيم الاولى) تعنى ان الجسيم الاولى مثلا الالكترون هو هندسيا نقطة رياضية اذن الجسيم الاولى ابعاده صفر و رغم هذا فهو موجود. وهذا حكم علمى تجريبى نهائى. 
فلسفة الكلام و منذ القديم و بالاجماع بين المدارس تؤكد على وجود الجوهر الفرد و الجزء الذى لا يتجزأ الذى هو جوهر و عرض و الاعراض هى الخواص الفيزيائية التى لا تنفك عن الجوهر الفرد فتجعله جزءا لا يتجزأ. وكما ترون فان هذه الانطومينية هى اكثر الانطومينيات التى يتفق فيها العلم التجريبى و فلسفة الكلام. اذن الطريقة القرآنية لفلسفة الكلام (التى تنطلق من الوحى للوصول الى العالم) عكس الطريقة العقلية للفلسفة (التى تنطلق من العالم للوصول الى الله) هى افضل توافقا مع العلم التجريبى وهذا ان دل على شيء فانما يدل على ما اريد تسميته بالاعجاز الفلسفى-الكلامى المحتوى فى القرآن الكريم الذى هو المسلمة الاساسية للطريقة القرآنية لفلسفة الكلام. 
الانطومينية الديناميكية الاولى: الجزء الاول او الفرضية هو طغيان الاسباب و الطبائع على الكون و الانسان. لكن الجزء الثانى او الفرضية المضادة فتنص على ان الانسان او الوعى العاقل بصفة عامة هو حر مسؤول بسببية مؤثرة هى مناط المسؤولية. وهذا هو التناقض العقلى او الانطومينية لانه لا يمكننا البرهان لا على القضية و لا على القضية المضادة. وهذه انطومينية مازالت موضع صراع كبير بين الفلاسفة و العلماء (الذين يميلون للفرضية المضادة اى القول بحرية الارادة). 
لكن من الناحية الموضوعية المتجردة فان العلم يميل الى ما يسمى التواؤمية و هو التوليف بين الفرضية (الاسباب) و الفرضية المضادة (حرية الارادة) وهذا هو رأى فلسفة الكلام منذ القديم بدرجات مختلفة فقال المعتزلة بخلق الفعل و قال الماتريدية بالارادة الجزئية التى هى لا مخلوقة و لا غير مخلوقة و قال الاشاعرة بالكسب او ما سماه الشيخ التوقادى بالجبر المتوسط وقال السلف بالايمان يالقضاء و القدر. 
وكما ترون فان هذه الانطومينية تربط بين السببية و الزمن و الوعى و حرية الارادة فهى اذن رغم انها غير محلولة حلا حاسما الا انها انطومينية موحدة لكثير من المعضلات الميتافيزقية. 
الانطومينية الديناميكة الثانية: الجزء الاول هو ضرورة وجود الصانع الذى هو السبب الاول للعالم داخل العالم او خارج العالم او لا داخل و لا خارج العالم. لكن الجزء الثانى عدم وجود الصانع بل لا ضرورة هناك لوجود الصانع فليس هناك فى الحقيقة الا الدهر الذى هو الصانع. وهذه اخطر انطومينية على الاطلاق لان الخلاف فيها بين الفلاسفة و العلماء و فلاسفة الكلام أشد. من ناحية الطريقة القرآنية لفلسفة الكلام فان اقوى الادلة القديمة هو دليل الحدوث (الدليل الكوسمولوجى) الذى يعتمد على ضرورة وجود الاسباب (حتى لو تكن حتمية) و تناهيها عند نقطة اولى هى السبب الاول وهذا لتجنب الوقوع فى التسلسل اللانهائى او ما يسمى ايضا الدور. هنا ضمنيا هناك افتراض باستحالة المالانهاية المكتملة وربما حتى المالانهاية الكامنة و هذا ايضا فصلنا فيه فى مكان آخر. 
لكن فلسفة الكلام تمتلك ايضا ادلة حديثة قوية جدا على وجود الله سبحانه و تعالى هى الادلة الوجودية الاحتمالية التى فصلنا فيها فى مكان آخر. اما من ناحية العلم فان اقوى الادلة على وجود الصانع هو وجود الانفجار الاكبر نفسه ومحدودية عمر الكون وهذا مؤكد علميا و تجريبيا. 
ولأن عمر الكون محدود فالاسباب تتناهى و يصبح دليل الحدوث فى غاية القوة. اذن هناك توافق بين فلسفة الكلام و العلم لا يمكن انكاره و لن نقول انه توافق قوى جدا فى نفسه لكنه توافق قوى بما فيه الكفاية بالنسبة للقفزة الايمانية. 
اما الطريقة العقلية الفلسفية فهى ضائعة تماما فهى فعلا مازالت انطومينية كما وصفها كانط لا تستطيع لا البرهان و لا البرهان المضاد. بل على العكس فان الفلسفة لا تستطيع حتى البرهان على وجود العالم وهذا ما سماه هيوم فضيحة الفلسفة.

الفرضيات الاربعة 

نقدم اربعة فرضيات متناقضة فيما بينها هى خلاصة الدين-و-الفلسفة: 
اولا الايمان بالله. و نقصد بالله واجب الوجود الذى هو لا داخل العالم و لا خارج العالم مثلما انه لا داخل الزمن و لا خارج الزمن. وهذا هو ايمان الفلسفة الالهية واولهم ارسطو و افلاطون منذ القدم. 
ثانيا الايمان بالدهر و الطبيعة. وعماده الفيزياء و العلوم و على رأسها نظرية الانتقاء الطبيعى و نظرية التطور. وهذا هو رأى الفلسفة الطبيعية و اولهم الرياضى فيثاغورس و الفيزيائى ديموقريطس و الطبيب ابوقراط منذ القدم. 
ثالثا الحياة عبثية و الوجود عدمى. وهذا رأى الفلسفة الوجودية الاساس بل هو اساس الوجودية و من لا يؤمن بهذه القضية فهو ليس بوجودى. 
رابعا الوجود خير. وهذا رأى الجميع من الفلسفة الالهية الى الفلسفة الطبيعية الى الفلسفة الوجودية.
 اما فلسفة الكلام -التى تتكلم باسم الدين- وكذا الفلسفة الالهية فهى تقبل الفرضية الاولى (وجود الله) و تقبل الفرضية الرابعة (الوجود الخير) بدون اى برهان او تعليل حقيقى. و ترفض تأثير الدهر و أثر الشر الجليان فى الواقع جلاء نور الشمس و اللذان لا يُنكرهما الا المؤدلج. و لا يوجد اكثر ادلجة من الكلام نفسه و اعداء الكلام من التسلف. 
اما الفلسفة الطبيعية فهى تقر بالفرضية الثانية (الدهر و الطبيعة) و تريد ايضا ان تقبل الفرضية الرابعة (الوجود الخير) وهذا من اكبر التناقضات الفلسفية قاطبة. فالدهر و الطبيعة لا يهمهما لا خير و لا شر بل هما وراء الخير و الشر او كما قال نيتشة. فانه لا مهرب من عدمية الوجود و عبثية الحياة اذا كان الوجود نفسه دهرى محض و طبيعى بحت. 
لان السؤال الاساس (لماذا) هو بالضبط هذا السؤال (اذا كان دهر و طبيعة فلماذا المعنى و كيف القيمة و أين الجدوى). 
اما الفلسفة الوجودية فهى لا تهتم بالقضية الاولى (الله موجود) و قد تميل الى القضية الثانية (الدهر هو كل شيء) و تعترف بالقضية الثالثة (الحياة عبثية) و كل هدفها يبقى هو الدفاع عن القضية الرابعة (ان الوجود خير و ان الشر هو فقط تغيب الخير). 
هذا رأى لا يختلف عن الفلسفة الطبيعية الا فى قبوله التام للفرضية الثالثة (الحياة عبثية) و عدم اعتراضه التام على القضية الاولى (الله موجود). اذن هو رأى احسن بكثير من رأى الفلسفة الطبيعية لكنه يقع فى نفس مطبات هذه الاخيرة الا و هو العجز عن الاجابة عن السؤال الاصلى (اذا كان الوجود من الدهر فلماذا هناك معنى و قيمة فى هذا الوجود). 
هنا و فى غير هذا المكان كنت دائما ادعوا الى ما ما سميته سابقا (الوجودية الايمانية) لكن كلمة (الايمان) كلمة ملغمة و الوجودية اهتمامها بالحالة الانسانية اكثر الحاحا من اهتمامها بالحالة الايمانية. وهذا صحيح فالحالة الانسانية اقرب للتحليل و الفهم من الحالة الايمانية. كما ان الانسان جزء من الواقع اما الايمان فهو يريد ان يتسامى عن الواقع. 
اذن عوض (الوجودية الايمانية) سأستخدم مصطلحا جديدا هو (الوجودية الالهية) وهذه الوجودية تريد ان تقبل قضيتين اساسيتين: 
اولا ان الله موجود (وهذا هو اساس الالهية). 
ثانيا وان الحياة عبث و الوجود عدم (وهذا هو اساس الوجودية). 
اما كيف التوفيق بين هذا و ذلك فهما متناقضان فهو تماما مثل التوفيق بين (الحرية) و (الجبر) أو (الكمومى) و (الكلاسيكى) أو بين (الراصد) و (المرصود) او بين (الفضاء) و (الزمن) او بين (المادة) و (الوعى) أو بين (الفضاء-زمن) و (الحركة) او بين (الثقالة) و (القوى المعيارية) أو بين (الموجة) و (الجسيم). 
 فالتوفيق بين كل هذه الاشياء المتناقضة فيما بينها تم عبر تبنى ثنائيات بينها تجعل احدها صالح فى مجال ينهار فيه الاخر و العكس. 
 فايضا هنا يتم التوفيق بين (الايمان بالله) و (حقيقة الوجودية) فى قالب ثنائى. وهذا القالب الثنائى يتطلب ضم الفرضية الثانية (الدهر و الطبيعة) تحت اطار الفرضية الاولى (واجب الوجود) كما فعل ابن عربى مثلا او سبنيوزا او ربما ليبنيز (فهو اوضح و اقل خطرا). 
وايضا فى هذا القالب الثنائى علينا الاقرار ان الفرضية الرابعة (الوجود خير) وهذا اصر عليه الجميع باستثناء اذن علينا الاقرار بان هذه الفرضية خاطئة فهى متناقضة مع الفرضية الوجودية الاولى (الحياة عبث و الوجود عدم). 
 فهناك فعلا فى الوجود شر و منبع هذا الشر هو الانسان الحر جزئيا و الشيطان الحر كليا (وهذه قد ناقشناها سابقا). اذن هناك فعلا شر وهذا غير مناقض للفرضية الاولى (فى ان الله موجود) لان الجميع يصر على ان (الله خير) وهذا خاطئ بل (الله بتعدى الخير و الشر) وهذه قد وصل اليها نيتشة وهو لا يؤمن بالله على ما يبدو. 
فالخير و الشر مفهومان نسبيان اما الله فهو يتعداهما لان الله خلقهما معا ليس لا لسبب كما يدعى بعض اهل الكلام و ليس لحكمة كما يدعى الآخرون بل خلقهما لانهما من افكاره او اعيانه الثابتة التى تريد بل يجب ان تخرج الى الوجود فتفعل لكن بعد ان تفعل فهى افكار قائمة بذاتها (هذه الموجودات العينية) تتحمل مصيرها. 
اذن (الوجودية الالهية) تعتمد على مسلمة اضافية ضمنية هى (حرية الارادة المنظوريانية) وهذا ايضا مصطلح جديد. 
و (حرية الارادة المنظوريانية) تختلف عن (التواؤمية) فالتواؤمية تريد ان تواؤم بين الجبر و الاختيار اما (حرية الارادة المنظوريانية) فهى تنص على ان الانسان من وجهة نظره (منظوريانيته) هو حر فعلا و منظوريانية الانسان هى كل ما يملكه هذا الانسان فعلا و لكن تبقى هذه المنظوريانية موضعية مقيدة بالطبيعة. 
اذن الانسان حر من منظوريانيته -لكن ليس كل الانسان فالاطفال و المجانين و البؤساء و المقهورين ليسوا احرارا بالمرة- وهذه الحرية هى منبع الشر فالشر اذن موجود فعلا و لا يمكن تغييبه وراء غياب الخير كما فعل اول من فعل ذلك افلوطين فى توليفته الاشراقية-الصوفية بين ارسطو و افلاطون. 
اذن هذه هى (الوجودية الايمانية) فهى الايمان بالله مع عدم انكار تأثير الدهر و اثر الطبيعة فهما من صفاته او تجلياته سبحانه و تعالى لكن الوجودية الايمانية هى وجودية بالاساس اذن هى تقر بعبثية الحياة و عدمية الوجود التى كانت ستكون مطلقة نهائية لولا وجود الله. 
لكن الوجودية الايمانية تقر ايضا بوجود الشر فهو فعلا مركبة اساسية بل هو المركبة الظلامية للوجود فليس كل الوجود نور وهذا الشر ينبع من حرية الانسان (صاحب الوعى التام) المنظوريانية. 
 فبدون الوعى التام لن يكون هناك لا حرية و لا منظوريانية و لا شر و لا خير و لا وجود و لا اى شيء اخر. 
فالوعى التام هو مثل الموجود الكلاسيكى الذى يريد ان يخرج الى الوجود المتحقق و الوعى الممتاز هو مثل الموجود الكمومى الذى بالاضافة الى ذلك يريد ان يتعدد فى الوجود الكمومى. 
اما غياب الوعى او نقصانه تحت اى درجة فهو شبه-وجود مصيره الى التلاشى فى نار العدم. 

الحقيقة الوجودية (تحديث للفكرة) 

 و الفيزياء تهدف الى الكشف عن العمليات الميكروسكوبية التى تؤسس للواقع الماكروسكوبى. اما الميتافيزيقا (او ماوراء-الفيزياء) فهى تهدف الى الكشف عن الطبيعة الاساسية للواقع.
 اذن الميتافيزيقا لاتهتم بالواقع الماكروسكوبى (الظواهر الفيزيائية) و لا بالواقع الميكروسكوبى (البواطن الفيزيائية) الا بالقدر الذى يسمح لها بالكشف عن طبيعة الواقع نفسه (اى البواطن الميتافيزيقية). 
اذن هذا تعريف بسيط و دقيق جدا للميتافيزقيا اخذته من عند فيلسوف العقل الاسترالى دايفيد شالمرز David Chalmers. 
واهم الفرضيات الميتافيزيقية (فى رأيى بطبيعة الحال) اذكر اربعة فرضيات اثنتان وجودية و اثنتان ايمانية.   
الفرضيات الوجودية: 
-فرضية المصفوفة لشالمرز (وهى تنطوى على فرضية المحاكاة لبوستروم) وهى تحل من بين ما تحل معضلة الذرة و معضلة خارج-و-داخل العالم و معضلة العقل-و-الجسم.   
-فرضية المنظوريانية لنيتشة و فرضية الاعيان الثابتة لابن عربى و هى تحل من بين ما تحل معضلة الجبر-و-الاختيار.   
الفرضيات الايمانية: 
-فرضية بولتزمان-و-شوتز وهى تحل من بين ما تحل معضلة الزمن و معضلة وحدة-او-تعدد الوجود ومعضلة قدم-او-حدوث العالم. فهذه الفرضية هى نموذج فيزيائى فى الحقيقة للمونيزم المحايد لابن عربى و سبينوزا. 
 -فرضية عالم الخيال لابن عربى ايضا وهى تحل معضلة النبوة و الموت و البعث و المعاد. و تحل ايضا معضلة العقل-و-الجسم. 
اذن هاته الفرضيات الاربعة يمكن جدا توليفها و شحذها مع مسلمتى السلف و العلم. لكن الامر ليس سهلا ابدا. فاننى لا ادعى شيئا هنا. 
وهذه الفرضيات تقابل انطومينيات كانط الاربعة للفلسفة التى حولتها فى فكرة سابقه الى انطومينيات فلسفية-فيزيائية. 
فانطومينية الصانع عند كانط (فلسفة الكون فى فلسفة الفيزياء) تقابل فرضية بولتزمان-و-شوتز فى الميتافيزيقا الوجودية-العلمية-الايمانية التى ادعوا اليها.
و انطومينية الذرة عند كانط (فلسفة الكمومى فى فلسفة الفيزياء) تقابل فرضيتى المصفوفة و المحاكاة فى هذه الميتافيزيقا الوجودية-العلمية-الايمانية. 
وانطومينية الحرية عند كانط (فلسفة الوعى فى فلسفة الفيزياء) تقابل فرضيتى المنظوريانية و الاعيان الثابتة. 
وانطومينية الفضاء-زمن عند كانط (فلسفة الزمن فى فلسفة الفيزياء) تقابل فرضية عالم الخيال. 
اذن الفيزياء و فلسفتها مرة اخرى تلعب دورا حاسما لكن بسبب قيدى الايمان و السلف فانه لا يمكن الاكتفاء بها لكن حتى لا نغرق مرة اخرى فى وحل الكلام فانه يجب التقيد بالميتافيزيقا التحليلية على طريقة دافيد شالمرز و نيك بوستروم و غيرهم من الفلاسفة الغربيين المحدثين من المدرسة التحليلة. 
ومن الفرضيات اعلاه فان فرضيات ابن عربى (الخيال و الاعيان الثابتة) هى اصعب الفرضيات و هى ايضا ابعدها عن الاطار التحليلى. 
وهذه هى المعضلة و هذا هو البرنامج ان شاء الله. 
فهذا البرنامج (الميتافيزيقا او الفلسفة الوجودية-العلمية-الايمانية) سميته فى فكرة قديمة لى (الحقيقة الوجودية). 

 بين الصوفية و الدهرية 

 كثير من الصوفية كفروا من كثرة تفكيرهم فى القضايا الايمانية. اذن هو كفر ناجم عن شدة الايمان. 
اما كثير من الدهرية فقد كفروا من قلة تفكيرهم فى القضايا الايمانية. فهذا اذن كفر ناجم عن انعدام الايمان. 
لكن هذا الكفر من جانب بعض الصوفية (خاصة المتأخرين من الاشراقيين و الفلاسفة) هو ليس كفرا قلبيا و لا هو كفر عملى و ليس هو ابدا كفر جحود بل هو كفر قولى لغوى لان اللغة لا تتحمل حقيقة كثير من الحقائق الايمانية اذا انكشفت لهم عقليا و روحيا. 
اما الدهرية فكفرهم هو كفر دليلى من جهة انهم (لم يفهموا الدليل و لم يقتنعوا بالدليل او) وهو كفر راجع بالاساس الى انعدام الحس الالهى عندهم فكما ان الاعمى لا يستطيع ان يرى نور الشمس (الذى هو الدليل على الشمس) ليس لذنب ارتكبه فهو اعمى فكذلك الدهرى لا يستطيع رؤية النور الذى فى الدليل العقلى ليس لذنب ارتكبه بل هو ينقصه الحس الالهى. 
فالدليل العقلى على القضايا الايمانية يحتاج دائما الى نور يرافقه حتى تستطيع رؤيته ثم الاطمئنان اليه وهذا النور لا يمكنك رؤيته الا اذا اعطيت الآلة. 
وقد يقول البعض ان هذا الذى تذكره دائرى لكن كل العلاقة بين العقل و الايمان هى علاقة دائرية تحتوى على نقطة انقطاع معرفية و عرفانية حقيقية لا يمكن جسرها الا بقفزة ايمانية سيراها كل من تميز فعلا بالعقل واعطى فعلا الايمان و سيُحرمها من اعطى العقل و لم يعطى الايمان (الدهرية) او اعطى الايمان و لم يعطى العقل (ايمان العجائز). 
لكن حتى نؤكد فانه الى جانب الكفر القولى الناجم عن الايمان عند بعض الصوفية و الكفر الدليلى الناجم عن انعدام الآلة الايمانية (الحس الالهي) عند الدهرية فهناك فعلا كفر جحود ومثاله النموذجى ابليس مع آدم و فرعون مع موسى و قريش مع محمد. فهؤلاء لديهم العقل و لديهم الآلة الايمانية لانهم وُوجهوا بالدليل وفهموا الدليل و مع هذا رفضوا الامتثال لحكميهما اى لحكمى العقل و الايمان معا فكفروا كفرا هو الكفر الجحودى الذى يأتى ذكره كثيرا فى القرآن. 

 التعدد الفكرى 

 الفيزياء خصبة جدا عقليا لكنها عقيمة تماما روحيا. 
اما الميتافيزيقا فهى خصبة جدا روحيا لكنها عقيمة تماما عقليا. 
وجمال الفيزياء انها لم تدعى وصلا بليلى (الروح) اما اغراء الميتافيزيقا فهى تدعى انها نفسها ليلى (روح) قيس (العقل). 
لكن الروح اقوى من المادة بالنسبة للمؤمن و لهذا فان اغراء الميتافيزيقا لن ينتهى ابدا حتى بالنسبة للفيزيائيين الملتزمين مثل حالى. 
ماهو المخرج من هذا المأزق? 
هل هو العيش (الامنية) ام التعايش (الواقع)?. 
ولهذا فان (الحقيقة الوجودية) و (نظرية كل شيء) شيئان مختلفان عندى لا استغنى عنهما معا. 
فنحن نعتقد انه لا يمكن ان نرتاح الا معهما معا لكن فى الحقيقة لن نرتاح ابدا معهما معا. فهما ضرتان فكريتان. ولن تستطيعوا ان تعدلوا (ببينهم) و لو حرصتم. و هذا هو حال التعدد و التعديد فكريا كان او بيولوجيا او نفسيا. 

 الفرق بين الكلام و الوجودية 

 الفرق بين (الكلام) و (الوجودية) ان الكلام يبحث فى الله اما الوجودية فهى تبحث فى الانسان. و (الكلام) يبحث فى الله و لم يصل حتى الى الانسان. اما (الوجودية) فانها تبحث فى الانسان وقد تصل الى الله. 
الفرق بين (الكلام) و (الوجودية) ان الكلام يثق فى نفسه و يشكك فى غيره. اما (الوجودية) فلا تتثق فى شيء لا فى نفسها و لا فى غيرها وهذا هو المذهب الشكى النقدى ان تبدأ من (الشك) لتصل الى (المعرفة) اليقينية و ليس أن نبدأ من (المعرفة) ثم نجد انفسنا نشك و هو حال اغلبنا. 
وهذا هو ما تعلمناه من الغزالى و ديكارت لكن للاسف تعلمناه متأخرين فلم ننتفع منه و به كثيرا. 
فالمعرفة هى الاعتقاد الصحيح الجازم. 
اذن هى اعتقاد جازم لكنها ايضا اعتقاد صحيح وهذه هى الامنية فى جميع العلم و الفلسفة و الدين. 
و اننى لا اقصد بالكلام كلام (الغزالى) و غيره من الاشاعرة و (النظام) و غيره من المعتزلة بل اقصدهما و اقصد ايضا كلام (ابن تيمية) و (ابن حزم) و غيرهما من الفقهاء و كلام (ابن رشد) و غيره من المتفلسفين. 
و لا يخرج من الكلام فى الاسلام الا (ابن سينا) و (ابن عربى). 
ابن سينا خرج من الكلام لانه دخل فعلا الى (الفلسفة). فهو فعلا حالة فلسفية سليمة من كل التلويثات الكلامية (وهذا لا يعنى قبولنا لاراءه قليلها او كثيرها لكن ابن سينا فعلا فيلسوف مثل ديكارت و كانط). 
و ابن عربى خرج من الكلام لانه دخل فعلا الى (الوجودية). وهذا هو الابداع الحقيقى. اذن فاننى لا اقصد بالوجودية نيتشة و كيرغارد و باسكال و غيرهم من الاوروبيين المتأخرين بل اقصدهم و اقصد الوجودية الاشمل وجودية ابن عربى. 
فابن عربى يسمى نفسه و طريقته (أهل التحقيق) لانه يهدف الى تحقيق حق (وليس فقط حقيقة) الاشياء واهم حق هو حق الانسان. 
اى لماذا الانسان و كيف الانسان و الى اين الانسان و من اين الانسان و متى الانسان. اذن ابن عربى لا يدخل فى الكلام. بل هو يدخل فى الوجودية. 
لكن علينا ان نلتزم و نُلزم ابن عربى بشيء ثالث هو (السلف). 
ومن أهم مراجعاتى هو الرجوع و الالتزام بالسلف و مبادئهم الاساسية المصرح بها فى رسالة الطحاوى مثلا. وبعض المراجعات (وهى سنة بين الاسلاميين شهيرة و هى تدل على كثرة الاخطاء اكثر من دلالتها على الموضوعية) تجده عندما رجع و راجع قال التزم بابن تيمية. ونحن نحب شيخ الاسلام ابن تيمية لكننا لسنا تيميين و هذا قول الشيخ القرضاوى و هو قول حق. لكن بالنسبة لى ابن تيمية دخل الكلام مثلما دخله الغزالى و لم يعرف الخروج منه (وهذا قاله الذهبى عن ابن تيمية و قاله ابو بكر بن عربى عن الغزالى و ابو بكر بن عربى هو فقيه مالكى اندلسى ليس هو الشيخ الاكبر محى الدين ابن عربى). 
اذن نحن رجعنا الى (السلف) لكن لم نرجع الى (ابن تيمية) لان بكل بساطة ابن تيمية هو تفسير انسانى كلامى لمسلمات السلف قد يكون صحيحا لكنه مرجوح الخطأ عندنا. 
اذن نحن طلقنا (الكلام) لكننا لم نطلق (الوجودية). 
ونحن نقصد بالوجودية (وجودية الانسان المتطور طبيعيا) لنيتشة و نقصد ايضا بالوجودية (وجودية الانسان المخلوق لله) لابن عربى. 
لكن لن نأخذ من (الوجودية) الا ما لا يتعارض مع مسلمات (السلف). 
و (الكلام) رغم ثقته الزائدة فى نفسه فهو لم يخرج كثيرا عن مدارس الافلاطونية و الارسطية و الافلوطينية. 
وهذا نفس الشيء يقال عن بقية الفلسفة الاسلامية (التى هى كلها كلام) و على رأسها ابن رشد. بل ابن رشد بفهمه الخاص و الصحيح لارسطو هو الذى تسبب للحضارة الغربية فى ذلك السكيزم الذى تعانى منه بين (الوجود) من جهة و (الوعى) من جهة اخرى الذى لخصه فيما بعد ديكارت فى معضلة الجسم-و-العقل. 
لهذا تجد الغربى يبحث دائما عن عقلنة كل الاشياء حتى العقل نفسه وهنا الديكوتومى التى جعلته يُطلق (الدين) بمفهومه الواسع و ليس فقط مظاهر (التدين) المختلفة. فالعقل هو ليس القوة الادراكية الوحيدة للنفس بل هناك ايضا الخيال وهذا تسبب فى فقدانه للغربيين ابن رشد الذى رفض عالم الخيال و قوة المخيلة عند ابن سينا صراحة. 
لكن الوجودية الاكبرية أتت بشيء لم تأت به جميع الفلسفة اليونانية و الغربية هو مفهوم (عالم الخيال) الذى هو وسط و يتوسط بين المادة و الجسم من جهة و الروح و العقل من جة اخرى. فهو العالم النفسى الذى يتوحد فيه بالكامل كل من (الوجود) و (الوعى) على العكس مما هو واقع فى العالم المادى اين (الوجود) شيء مختلف عن (الوعى) فالوجود مرتبط اكثر بالجسم اى بالمادة اما الوعى فمرتبط بالعقل و كثير من الفلاسفة و العلماء فى هذا العصر يريد ان يختزل هذا الاخير (اى العقل و الوعى) الى الاول (اى المادة و الجسم) لانه لا يستطيع تصور وجود الوعى بدون المادة. 
 عالم الخيال او الموندوس ايماجيناليس (على مصطلح هنرى كوربان) هو عالم يتميز بالفضاء-زمن و بجميع الكواليا الاخرى الموجودة فى عالم المادة مثل اللون و الذوق و اللذة و الالم ووو لكنه عالم لا يوجد فرق فيه بين الوجود و الوعى فهما نفس الشيء هناك. 
وعندما يوحى الى النبى و عندما يموت الانسان و فى رؤيا الصالحين فى المنام و فى تأملات الروحانيين فى اليقظة و فى كشوفات الصوفية الروحانية و كشوفات العلماء و العباقرة الفلسفية و العلمية و حتى فى بعض هلوسات المجانين فكل هذه مظاهر يتم فيها الاتصال بدرجة او باخرى بعالم الخيال و اصفاها و اجلاها هى درجة الوحى و النبوة. 
لهذا يقول السهروردى الاشراقى فيما معناه (اذا كنت الخضر فانك ستصل بدون صعوبة الى بلاد اللامكان). وعلى ان انوه هنا ان السهروردى و هو مجايل لابن عربى لم يستخدم ابدا مصطلح (عالم الخيال) بل استخدم عبارات اخرى منها (بلاد اللامكان). اذن اذا كنت الخضر (اى انكشفت امامك الحجب و عبرت الادراكات الحسية و القوالب المادية) فانه سيسهل عليك ادراك (عالم الخيال) الذى يُدرك باستعمال قوة المخيلة وهى قوة فى النفس مختلفة عن القوة العقلية الاستعرافية. 
و هذا المصطلح (عالم الخيال) اول من استعمله هو ابن عربى. 
واننى اعتقد ان هذه الفكرة هى اكثر الافكار انسجاما مع مسلمات السلف بل هى الفكرة الاكثر تأسيسا لعلم النبوة.   

فلسفة اسلامية-وجودية-علمية 

 لا اشك ابدا فى صلاح شيخ الاسلام ابن تيمية كرجل مسلم مؤمن لا يريد الا الخير لاهل الاسلام و لاهل السنة لكننى اشك و مازلت اشك فى صلاح كثير من افكاره. 
ولا اشك ابدا فى أن بعض افكار الشيخ الاكبر ابن عربى هى الحل النهائى لكثير من المعضلات الميتافيزيقية المستعصية لكن بعض افكاره الاخرى خطيرة جدا جدا على المسلم و على الايمان. 
و لست اشك ايضا ان حجة الاسلام الغزالى هو وسط الاسلام لكنه لا يضاهى ابن تيمية فى السلف و السنة و لا يضاهى ابن عربى فى التصوف و التسامى. 
ولست اشك ان الشيخ الرئيس ابن سينا هو الفلسفة الوسطية لكنها فلسفة تخرق كثير من مسلمات السلف. 
ولست اشك ان الشيخ الشارح ابن رشد هو العقلى الصارم الوحيد فى الاسلام لكن عقلانيته وقفت الى جانب ارسطو ضد الغزالى و ابن سينا وهما يمثلان الوسطية الاسلامية و الوسطية الفلسفية. 
هؤلاء هم النموذج فى بناء فلسفة جديدة تعتمد على الرباعية الايمان و السلف و الوجودية و العلم. 
لو لم أكن مؤمنا لكنت تحررت من كثير من هذه القيود و لكنت حرا اكثر و لكنت تخلصت من كل هؤلاء و تخلصت من ركنى الايمان و السلف و اعتمدت فقط على الوجودية و العلم و لكانت المهمة اسهل بكثير فى بناء فلسفة وجودية-علمية. 
اذن نحن مضطرون -او اننى مضطر شخصيا- الى النظر الى الماضى. 
لكننى اظن ان فكرة التكرار الابدى لنيتشة صحيحة اذن الزمن فعلا دائرى و النظر الى الماضى هو نظر الى المستقبل. 
الهدف هو اذن فلسفة اسلامية-وجودية-علمية و ليس فلسفة وجودية-علمية و لهذا نحن نحتاج الى ابن تيمية و ابن عربى و الغزالى و ابن سينا و ابن رشد. فعلا نحن نريد فيلسوف عبقري اسلامى جديد يجمبع بين وسطية الغزالى فى الاسلام و وسطية ابن سينا فى الفلسفة و العقلية الصارمة لابن رشد و السنية الصارمة لابن تيمية و تسامى ابن عربى هذا من جهة و من جهة اخرى بين العلمية و الوجودية وهذا دون افراط او تفريط و دون ميل او ميلان.
 
 الخلاصة المنهجية 

أمقت ما أمقت أن يشكك أحد فى فهمى. و أمقت ما امقت ان يشكك احد فى فهمى لموضوع كنت شخصيا الذى قدمته للقراء و قد اكون اول من قدمه للقراء العرب. و أكثر شيء امقته ان يشكك أحد فى فهمى للفيزياء. أما أعلى مرتبة مقت عندى فهى ان يشكك احد فى نزاهتى و موضوعيتى العلمية -فى الفيزياء او الميتافيزيقا-. 
و لهذا كنت حذفت فى فترة سابقة كل من مازال يعتقد فى ما يسمى (الجرح-و-التعديل) من قريب او من بعيد لانهم من أسهل الناس فى التشكيك فى نوايا الناس و تحدى فهم المختص اعتمادا على شيخهم (الذى قدس الله سره) كما يقولون. والخلاصة: 
-لست اجادل ولا اريد ان اجادل ومن حول النقاش الى صراع فاننى سأنسحب و قد احذف. و قد هجرت اغلب الاصدقاء فى الواقع لان اغلبهم يجادل فهو يريد ان يغلبك و ليس مهتما بان يفهم. 
-لست مهتما بالاقناع و لا بالاقتناع. فالمؤمن مؤمن لنفسه و الكافر كافر لنفسه. نحن نضع المعطيات امام القارئ وهو يقرر لنفسه. ليس لدى قوالب جاهزة. 
-لست مهتما بالشعبية و لا باكتساب الاصدقاء. فعندى اقل عدد ممكن من الاصدقاء و عندى اقل شعبية على البوستات رغم اننى اعتقد اننى افضل من غيرى كثير بكثير. ويمكنكم الحكم بأنفسكم. 
-ما اقدمه اقدمه صدقة جارية لله سبحانه و تعالى ارجوا ان يصحح الله نياتنا و يتقبلها منا. 
-لا فرق عندى بين شيخ الاسلام و الشيخ الاكبر و حجة الاسلام فكلهم سواء عندى فعلا. اذن ليس هناك مرجعية عندى. المرجعية هى مرجعية اهل السنة و الجماعة المعروفة و على رأسهم السلف. 
-لست أُُقلد لا وجودية نيتشة و لا اى وجودية اخرى فان الوجودية التى اقوم ببناءها هى وجوديتى الخاصة. اذن لست متقيد بأى قوالب معرفية جاهزة فاننى سأصنع ان شاء الله قالبى المعرفى الخاص بى ثم يقبله من يقبله و يرفضه من يرفضه. 
-لست مهتما بالروحانية و لا بالسلف و لا بالفلسفة و لا بالكلام فاننى بالاساس رجل علمى تعلمنا ان نُفكر بطريقة معينة هى الطريقة الموضوعية البنائية. 
-لست مهتما بالتوليف بين العلم و الدين فاننى اقتنعت انه لا ضرورة لذلك لكن لست ايضا معارض لمحاولات التوليف. 
-اقتنعنا ايضا ان الايمان ليس عقلى لكن لن نتوقف عن محاولات عقلنة الايمان فليس هناك ضير منها بل على العكس قد يأتى منها خير عظيم و فكر جديد. 
- ولهذا فان الوجودية-النفسية هى افضل طريق و ليس الكلامية-الدينية و لا هى النقلية-السلفية و لا هى الفلسفة-التحليلية. 
-الفيزياء مستقلة سيدة نفسها لكنها ايضا خادمة للميتافيزيقا. اذن هنا يقع التفسير و نحن أولى به من غيرنا. لكنه تفسير موضوعى بنائى تحليلى ليس كلام أو ادب ومن هنا تكمن صعوبة الفهم (فجأة الفهم و راحة الفهم).


ابن عربى: الله هو الوجود و هو  الموجود اما الخلق فهو خيال وهو موجود

 وجودية نيتشة تنص على ان الحياة عبث و ان الوجود عدم و انه لا جدوى من البحث عن المعنى و القيمة. 
اما وحدة وجود الشيخ الاكبر ابن عربى فتنص على انه لا يوجد شر فى الوجود و كل شيء هو خير. 
اذن هما متناقضان او هكذا يبدو.
 لكن شخصيا لا ارى انهما متناقضان بل هما متكاملان فهى سوداوية نيتشية متكاملة مع التفاؤلية الاكبرية.
 فنيتشة بطبيعته الشخصية و طبيعة جنسه الغربى لم يرى الا المادة وهى عبث فعلا. اما ابن عربى بطبيعته الشخصية و طبيعة جنسه الاسلامى فقد راى ابعد من ذلك بل هو قد يكون الوحيد الذى قد رأى طبيعة الوجود فى ترتيبه و تكامله.
 فعنده هذا العالم المادى اقل كثافة (اى اقل واقعية) من عالم الخيال الذى هو بدوره اقل كثافة من عالم العقل او الروح هذا الاخير الذى ينبعث او يصدر او يفيض من الوجود الذى هو الله نفسه عند ابن عربى -وهذا اول فهم لوحدة الوجود-.
ونيتشة كرد فعل على من سبقه من الفلاسفة الالمان الفحول مثل كانط و هيغل قد رفض المفهوم الفلسفى العميق للوجود او البين being الذى ترجمه العرب قديما ب (الانية) وهذا من اغرب المصطلحات التى ترجمت على عهد المأمون و لم ترسخ ربما لغموض اصلها و نحتها.
 لكن عند ابن عربى -فهو كغيره من الفلاسفة قديما و حديث- يلعب عنده هذا المصطلح دورا محوريا. 
فهناك الوجود وهو ال being اى (الانية) الذى هو الله سبحانه و تعالى واجب الوجود. وهناك الموجودات او الكينونة وهى ال existence وهو كل شيء آخر موجود غير الله سبحانه و تعالى. اذن الكينونة هى الكون نفسه على فهم معين. لكن ايضا هناك الشيء فى ذاته و هو كل شيء موجود فى علم الله سبحانه و تعالى (وهذا المصطلح هو اشهر مصطلحات ابن عربى و هو يرجع بالاساس الى المعتزلة كما يقر ابن عربى نفسه بذلك). 
اذن الواقع عند ابن عربى هو قرن ضوئى (رأسه الله و قاعدته العالم المادى الذى ينتهى عند العدم المحض او اللاشيء و وسطه عالم الخيال ومن وراء ذلك عالم العقل و الروح). 
وهنا اعرض مقارنة اخرى بين قرن الضوء فى فلسفة ابن عربى و مخروط الضوء فى نسبية اينشتاين. 
اما فى نسبية اينشتاين فان المخروط الضوئى يرتكز على المشاهد او الملاحظ او الراصد لانه هو اساس كل شيء وهذه هى وجودية نيتشة فى احلى صورها وهى الصورة الرياضية.
 اما عند ابن عربى فان قرن الضوء يرتكز على الله سبحانه و تعالى فهو النور و هو الراصد الاول و الاخير بل هو الراصد الحقيقى و كل راصد آخر هو ليس الا خيال. وبالفعل فانه عند ابن عربى كل شيء آخر غير الله سبحانه و تعالى هو خيال يسميه الخيال الاكبر.
 اذن على التحقيق فان عالم المادة و عالم الروح او العقل بالاضافة الى عالم الخيال تشكل فيما بينها خيال أكبر. فالله وحده هو حق فهو الحق. و الله وحده هو الوجود و هو موجود و كل شيء آخر ليس بوجود حتى لو كان موجودا. 
والله وحده هو النور و كل شيء آخر ليس بنور بل هو ظلام اذن هو شر و ليس خيره الا بقدر ما يصله من نور الله سبحانه و تعالى. 
ولهذا يقول ابن عربى ان العدم-المحض هو شر لانه ظلام محض و ان كل من دخل فى الوجود فهو خير لا محالة لانه انعكاس و لو جزئى لاسم من اسماء الله. 
اذن الاشياء فى ذاتها شر و ظلمة -كما يقول نيشتة- لكنها بالنسبة الى الله هى خير و نور -كما يقول ابن عربى-.
 اذن كل شيء آخر غير الله سبحانه و تعالى هو خيال على التحقيق وهذا فهم آخر لوحدة الوجود. فالله هو الوجود و هو الموجود. اما الخلق فهو خيال وهو موجود. وهاتان الجملتان الاخيرتان تلخصان فهمى الشخصى جدا لوحدة الوجود.
 اذن نيتشة كما اينشتاين و من قبلهما سبينوزا لم يروا الا عالم المادة او الطبيعة ولهذا فان نيشتة لانه هو صاحب الاحساس المرهف من بينهم قال ان الحياة عبث و ان الوجود عدم و ان لا معنى و لا قيمة وراء اى شيء. 
اما ابن عربى فقد رأى عالم الخيال و هو الوحيد الذى رأى عالم الخيال متميز عن عالم المادة و عالم العقل و الروح معا. واول من ادرك عمق هذه النظرة فى العصر الحديث هو هنرى كوربان Henry Corbin الذى اقترح المصطلح اللاتنيى موندوس ايماجيناليس mundus imaginalis اى عالم الخيال للتعبير عن عالم الخيال بعيدا عن اللغات الاوروبية الحديثة التى تتفق كلها فيما بينها ان الخيال هو تخيل و وهم و سراب اى انه عالم غير حقيقى لا يدخل لا فى الانية being التى هى الوجود و لا فى الوجود existence الذى هو كينونة. 
لكن كوربان فهم جدا ابن عربى و عرف مقصوده و ان عالم الخيال الذى يتكلم عنه ابن عربى حقيقى جدا بل هو اكثر حقيقية من عالم المادة (لكنه اقل حقيقية من عالم العقل و الروح). 
 لهذا يؤكد كوربان مباشرة فى بداية مقاله الشهير من عام 1972 ان عالم الخيال يعبر عن نظام واقعى حقيقى تماما سماه القارة الثامنة eight clime بمقابل نمط ادراك حقيقى تماما هو الوعى التخيلى imaginative consciousness او الاستعراف الخيالى cognitive Imagination . ولهذا فانه يستخدم ايضا مصطلح ايماجينال imaginal عوض مصطلح ايماجينارى imaginary للتعبير عن هذا العالم الخيالى (رغم انه حقيقى وواقعى) او الموندوس ايماجيناليس. 
وقديما كان صدر الدين القونوى التركى وهو تلميذ ابن عربى المباشر قد استبدل لنفس الاسباب (على ما يبدو) كلمة عالم الخيال ب عالم المثال لتفادى هذه الشبهات اللغوية فى نفس المستمع. 
لكن اعتقد شخصيا ان مصطلح "المثال" هو تحريف لفكرة ابن عربى لان المثال هى فكرة افلاطون و المثال و الخيال فكرتان مختلفتان جذريا. 
لانه عند افلاطون ليس هناك الا عالم المثال اما عند ابن عربى فان عالم الخيال هو مرتبة فقط من الموجودات اعلى من عالم المادة فى القرن الضوئى لكنها ادنى من مرتبه عالم الروح و العقل. 
اذن افلاطون لا يقر بالمادة اما ابن عربى فالمادة عنده هى الخيال فخياليتها اكثر من خيالية الخيال الايماجينال. بعبارى اخرى فان عالم الخيال اكثر كثافة اى انه اكثر واقعية من عالم المادة وهما معا (مع عالم العقل و الروح) جزء من الخيال الاكبر. اذن بالنسبة الى ابن عربى فان كل شيء هو فى الاخير خيال غير حقيقى بالنسبة الى الله سبحانه و تعالى. فالله هو الوجود وهو الموجود و هو النور و هو الحق و هو الخير و كل شيء آخر عبث و عدم اى خيال وهو راى نيتشة منذ البداية رغم انه لم يدرك عمق ابن عربى. وهذا فهم آخر لوحدة الوجود. 




 ماهى المواقف من ابن عربى
 
 -ابن عربى. 
-المواقف العربية (صدر الدين القونوى و ابن تيمية الحرانى). 
-المواقف الغربية (Henry Corbin,Toshihiko Izutsu). 
-المواقف النقدية (William Chittick).  
-الوجودية. 
 وابن عربى كان فعلا صدمة فى تاريخ الفلسفة الاسلامية و الفلسفة الغربية. وهى صدمة بدأت الفلسفة الغربية فى استيعابها رغم حواجز اللغة و العقل المتسامى (وليس العقل التحليلى) الذى نجده فعلا عند ابن عربى (و ليس كما ادعاه كانط الذى يبقى عقله تحليلى بامتياز) و كذا حواجز اسلوب ابن عربى نفسه صاحب النفس الطويل جدا و الاستطراد اللانهائى مع العمق غير المسبوق الذى لا يمكن انكاره الا من قبل حاقد او عاجز وهم كثر عندنا قلة عندهم. 
لكنها صدمة مازالت الفلسفة الاسلامية غير قابلة او غير قادرة على استيعابها فالحضارة الاسلامية عكس الحضارة الغربية مازالت متعلقة باوهام و سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده. 
لكن ماهى المواقف من ابن عربى و لماذا يجب ان نهتم بابن عربى? 
اما الاهتمامات العربية فهى نوعان. 
فهناك صدر الدين القونوى التركى ربيب ابن عربى و تلميذه المباشر. و صدر الدين القونوى كان فحلا فى حد ذاته و كثير من تلاميذه كانوا كذلك لكنها تلك مدرسة قامت بالكامل على افكار ابن عربى لا تريد ان تحيد عنها قيد انملة. و ذهبت تلك المدرسة و تركت وراءها كم هائل من الطرق الصوفية و المريدين يرون فى ابن عربى شيئا مقدسا يقرب من النبى لا شك عندهم فى ذلك. 
اما الموفف العربى الثانى فيلخصه ابن تيمية الحرانى الكردى الذى كان من اعدى اعداء الفكر الصوفى فكفر ابن عربى و جاء بمصطلح "وحدة الوجود" و حكم على السنة و البدعة (وليس فقط ابن عربى) من منطلق السلف الذى كان يعتقد جازما انه يتكلم باسمه. و رغم ان ابن تيمية عادى ابن عربى بشكل فظيع الا انه اخذ فى الاخير -كما بين البحث الرصين- و من دون اى مقاومة كثير من الافكار من عند ابن عربى (مثلا رأيه فى قدم العالم, رأيه فى حرية الارادة, رأيه فى فناء النار). 
اذن هذه هى المواقف العربية و لا توجد من بينها اى مواقف نقدية يعول عليها الباحث العلمى المحايد. 
واهتمامات المتفلسفين من العرب المعاصرين كانت دائما اما الغزالى او ابن رشد او الفلسفة الغربية. 
سؤال: لكن لماذا يهتم المتفلسفون الفرس الايرانيون بابن عربى (اكثر حتى من اهتمامهم بالسهروردى و الملا صدرا)? 
 اما الموقف الغربى الاول من ابن عربى فهو مكتشف ابن عربى من بين الغربيين وهو الفرنسى هنرى كوربان Henry Corbin صاحب كتاب "الخيال الخلاق فى تصوف ابن عربى". وهو اول من انتبه الى ابن عربى و الى افكاره مثل عالم الخيال و البرزخ و الانسان الكامل و الحقيقة المحمدية و المقامات الوجودية و غيرها. لكن هنرى كوربان لا يعتبر بأى معيار باحث نقدى فى ابن عربى لان كل كتبه عن ابن عربى هى كتب فى الحقيقة يحاول فيها كوربان بناء فلسفة خاصة به شخصيا منطلقا من افكار ابن عربى ليس هدفه الاساسى دراسة ابن عربى و محاولة فهمه بشكل مضبوط متناسق. 
اذن هدفه -اى كوربان- كان دائما بناء فلسفة وجودية مسيحية تعتمد التثليث المسيحى فى قالب عقلى جديد يعتمد على افكار ابن عربى بعيدا عن افكار القديس اوغستين الارسطية-الافلاطونية التى كانت و مازالت ظاغية على المسيحية. حتى انك عندما تقرأ حول هنرى كوربان عند اتباعه تجدهم لا يركزون الا على فلسفته و يتصرفون و يتكلمون وكأن عالم الخيال مثلا هى فكرة كوربان الاصلية و ليست فكرة ابن عربى اخذها منه كوربان و افكار اخرى غيرها. 
الموقف الغربى الثانى هو موقف المختص الثانى فى ابن عربى من بين الغربيين اليابانى توشيهيكو ايزيتسو Toshihiko Izutsu فى كتابه "الصوفية و الطاوية" الذى يحاول فيه هذا الفيلسوف اليابانى بناء ميتا-فلسفة (اى نظرية فلسفة) يتم فيها التوحيد بين الاسلام كما يفهمه الصوفية وبالخصوص ابن عربى و بين البوذية و الكونفوشيوسية و الطاوية و غيرها من الاديان الصينية. 
وكما ان اهم افكار ابن عربى التى اثرت فى هنرى كوربان هى فكرة عالم الخيال فان اهم افكار ابن عربى التى اثرت فى توشيهيكو ايزيتسو هى فكرة الانسان الكامل. 
اذن كوربان و ايزيتسو هما فلاسفة باجندة خاصة بهم رأوا فى ابن عربى طريقا سالكة نحو اهدافهم. 
الموقف الغربى الثالث من ابن عربى هو موقف نقدى بامتياز يمثله خاصة من الجيل الثانى الامريكى ويليام شيتيك William Chittick فى كتابه (التجلى الذاتى لله) و الفرنسى ميشال شودكيفيكز Michel Chodkiewicz فى كتابه (الولاية). 
اذن هؤلاء النقاد من امثال ويليام شيتيك (الذى درس فى ايران على يد حسين نصر و غيره) لا يهمهم الا فهم ابن عربى كما يريد ابن عربى نفسه او هكذا يدعون و اننى مصدقهم. 
 مثلا يذكر شيتيك ان فكرة "وحدة الوجود" لها سبعة مفاهيم مختلفة عند المختصين ليس اى واحد منها على الراجح هو نفسه فهم ابن عربى الحقيقى لها. 
شخصيا اظن ان طريق كوربان و ايزيتسو هو الطريق الذى يجب اتباعه فى محاولة بناء فلسفة جديدة انطلافا من افكار ابن عربى الخلاقة لكن يجب ايضا التعويل و الاعتماد اكثر على الطريق النقدى المحايد لشيتيك و غيره. 
فالهدف فى الاخير ليس اخذ كل شيء قاله ابن عربى بل الهدف هو اخذ كل افكار ابن عربى التى تخدم الفلسفة الوجودية (فمثلا حرية الارادة و معضلة الشر كما صاغهما ابن عربى لا اراهما منسجمان مع الوجودية اما فكرة الانسان الكامل و الحقيقة المحمدية و منظورية المقامات فهى من اعمق ما قيل من وجوديات). 
والوجودية بالاساس هى فلسفة تنبع من الانسان و ابن عربى فى ال"رسالة الوجودية" (هكذا اسمها) لا يفعل الا ان يشرح الحديث "من عرف نفسه فقد عرف ربه". 
اذن الفلسفة الوجودية كما صاغها العبقرى السوداوى نيتشة هى نقطة الانطلاق الصحيحة و الحل الذى وصل اليه تولستوى  (وليس نيتشة او كيرغارد) هو حل صحيح (وهو ينطوى على شيئين من عند ابن عربى رغم عدم معرفة تولستوى بابن عربى هما الكشف و وحدة الوجود فالرجل كان رافضا للتثليث المسيحى الى غاية آخر يوم فى حياته رغم ايمانه المسيحى العميق). 
لكن الطريق الذى اتبعه ابن عربى هو الطريق الصحيح لان وحدة الوجود عنده ليست الا توحيد للتوحيد (فالله موجود وهو الوجود being اما العالم فهو خيال وهو موجود existent), اذن علينا فقط ربط النهاية (التوحيد الوجودى) بالبداية (العدمية و العبثية) عبر طريق (الانسان الكامل) مع التخلص من كل الأثقال الاخرى التى لا تفعل الا ان تثقل كاهلنا اكثر مما هو مثقل. 

 وحدة الوجود بين ابن عربى و ابن تيمية 

 "وحدة الوجود" هو مصطلح وضعه ابن تيمية للتعبير عن فكر ابن عربى وهو مصطلح يعنى عند ابن تيمية "وحدة الخلق و الحق" ولهذا فهى كفر و منه فان ابن عربى كافر. هذه خلاصة كل فكر ابن تيمية حول ابن عربى ليس هناك شيء اضافى. 
لكن "وحدة الوجود" تعنى على الاقل سبعة اشياء مختلفة عند المختصين فى ابن عربى حسب ما يذكر اكبر هؤلاء المختصين وليام شيتيك و كل تلك المعانى ليست بالضرورة اعتقاد ابن عربى. 
شخصيا لا يهمنى كثيرا اعتقاد ابن عربى و لا اعتقاد ابن تيمية و لا اعتقاد ابن تيمية فى اسلام او كفر ابن عربى. 
الذى يهمنا هو الفكرة فى حد ذاتها و الفهم الفكرى الصحيح لها. 
ف "وحدة الوجود" هى احد انواع وربما اول نوع لفكرة "المونيزم المحايد" التى كانت نسخة سبينوزا (الذى جاء بعد ابن عربى و ابن تيمية بقرون) النسخة الاشهر فى الفلسفة الغربية. 
لن اقول ان الخلاف لفظى بين ابن تيمية و ابن عربى لانه ليس ابدا كذلك فهو خلاف عميق جدا كان موجود ابدا و دائما بين اصحاب الحقيقة و الشريعة و بين اصحاب الفقه و الحديث يعود الى ما قبل ابن عربى و ابن تيمية. 
الخلاف يرجع الى كلمة "الوجود" التى هى تعنى اشياء كثيرة عند ابن عربى اهمها: -اولا الوجود بمعنى الانية اى ال being. وهذا ليس واجب الوجود عند ابن سينا فال being اعمق من هذا بكثير و لهذا لا احبذ استعمال هذا اللفظ. أما لفظ (الانية) فهو ما استعمله ابن سينا مثلا للتعبير عن هذا الامر لكنه لفظ غامض ذو اصول غامضة. 
-ثانيا الوجود بمعنى الكون اى الكينونة او existence. حسب ابن عربى فان الحق هو الوجود و الحق من اسماءه الموجود. لكن حسب ابن عربى ايضا فان الخلق رغم انه موجود و من اسماءه الموجود الا ان الخلق ليس هو الوجود بل هو الخيال الاكبر. (هنا يجمع ابن عربى بين عالمى اولا المادة و الجسم و ثانيا العقل و الروح و العالم الذى بينهما الذى هو العالم الثالث الذى سماه كوربان الموندوس الايماجيناليس mundus imaginalis او ما سماه ابن عربى بكل بساطة عالم الخيال الاصغر). 
اذن الله هو الوجود بمعنى ال being وهذا هو الوجود حقا اما كل شيء آخر غيره حتى لو كان موجودا (وليس شيئا ثابتا فى علم الله) فهو خيال موجود (وليس الخيال بمعنى اللاموجود كما يفهمه الجميع). اذن الخلق هو خيال موجود بالمقارنة مع الله الوجود الحق الموجود. ولان الله واحد فالوجود واحد وهذه هى وحدة الوجود. 
والحل كما ترون هو فهم الخلق على أنه جزء من الموندوس ايماجيناليس وليس على انه جزء من الوجود لانه ليس كذلك على الاقل حسب مصطلحات ابن عربى. فالخلق جزء من الموجود لكنه يقينا ليس جزءا من الوجود. 
و "وحدة الوجود" تهتم بتوحيد الوجود و لا يهمها ابدا توحيد الموجودات فالموجودات غير الله هى تجليات خارج ذات الله تختلف يقينا عن الله سبحانه و تعالى و لا يمكن ان تتوحد معه. 
لكن الوجود ال BEING فهو فعلا واحد و لا شيء ينتمى الى الوجود الا الله بل الله هو الوجود نفسه يجب ان يكون واحدا غير متعدد وهذه هى وحدة الوجود كما افهمها شخصيا عن ابن عربى و المفتاح نحو هذا الفهم هو الخيال ال IMAGINALIS الذى هو موجود EXISTENT و ليس تخيلى IMAGINARY لكنه يبقى IMAGINALIS و ليس BEING. 
وهذا فهم اعتقد انه متناسق تماما مع التوحيد بل هو توحيد للتوحيد او كما سميته بعبارة اخرى (نظرية كل شيء الميتافيزيقية او نظرية كل عين) لكنه ليس بالضرورة هو اعتقاد ابن عربى حتى لا نتقول على المشائخ و اعتقاداتهم فهى بينهم و بين الله يحاسبهم على نياتهم و سرائرهم قبل افعالهم لا ندخل فى ذلك الامر و لا يهمنا ان ندخل فيه. 

 الايمان الوجودى مرة اخرى 

 البعض قد لا يكون استوعب المنهج النقدى المستمد من الطريقة العلمية. فعندما يكون المرء مقتنعا بفكرة ما فانه سيأتى و سيأتى فقط بأراء من سيدعم له تلك الفكرة فى كتابه و على برنامجه و على صفحته او مدونته او قناته على اليوتوب.
 لكن ليس هذا هو المنهج العلمى.
 المنهج العلمى هو انه بغض النظر عن اقتناعك و رأيك و ايمانك فانك تأتى بالاراء و الاراء المضادة او كما قال هيغل فانك تترك الاطروحة و الاطروحة-المضادة للتفاعل الديناميكى المستقل و التصارع الموضوعى النقدى المحايد ثم تخرج برأى او بتوليفة تتميز بنقاط قوة الاطروحة و الاطروحة-المضادة دون ان تعانى من اى من نقاط ضعفهما. 
فكرة هيغل هذه (الاطروحة+ الاطروحة المضادة=التوليفة) هو روح المنهج العلمى و الموضوعية. 
اذن عندما نأتى الى الغيبيات يصبح الامر صعب جدا لان الجميع اما انه يقف مع الاطروحة او انه يقف مع الاطروحة المضادة و شخصيا لا اريد ان افعل ذلك بغض النظر عن قناعاتى و ايمانى. 
المعضلة ليست فى وجود الله او ضرورة النبوة او حقيقة اليوم الآخر بل المعضلة فى العلم الدينى او بالاحرى فى الفكر الدينى (فهو فكر و ليس علم). 
فان طرق العلم او الفكر الدينى ليست برهانية بل هى جدلية و رغم هذا فان ثقته فى نتائجه ثقة ايمانية و ليست ثقة شكية (لو صحة التعبير وهو تعبيرى).
 ثم ان علماء الدين انفسهم (الا من رحم ربى) يبينون رغم كل هذا على حاكمية وجودية مقيتة. 
لو قارنا بالعلم الكونى فان الطرق هنا هى طرق برهانية اما رياضية عقلية او فيزيائية حسية و نتائجه نتائج نسبية يتحكم فيها الشك و ليس الايمان ثم ان علماء الكونيات و الحياة (الا من رحم ربى) يبينون مع كل هذا النجاح الحقيقى (وليس المتوهم) عن لايقين وجودى يؤدى بهم بشكل افضل الى الثقة و الى الايمان (فى العلم و الغيب معا). 
 اعجبنتنى وجودية فايمان. و الوجودية ليست دهرية كما يريد الكثير ان يفهمها بل هى ايمان نسبى بدرجات متغيرة و ليست ايمان عجائز مطلق الذى يحبه الفخر الرازى و غيره ممن عجز فلم يجد الا ان يلجأ الى العجائز. 
البعض يقول لى فى التعليقات المختلفة أن الحل هو الايمان اما الروحى على طريقة الصوفية او الشكلى على طريقة السلفية. لكن هذا منطق مقلوب. أليس علينا ان نجد الحل اولا قبل ان نستعمله. 
فانك عندما تعطى معادلة رياضية فانك تبحث عن حلها الرياضى و فقط الغبى من يذهب و يستعمل الحل قبل ان يبرهن عليه و هذا هو بالضبط ايمان العجائز لمن لم يفهمه بعد (ولو ان العجائز ليسوا اغبياء لكن من استعمل حلهم وهو ليس بعجوز هو الغبى). 
مازلت اصر ان الايمان اذا لم يكن روحى موهوب من الله سبحانه و تعالى للانسان فانه يجب بالضرورة ان يكون برهانى عقلى. 
و لهذا اعجبنى ابن عربى ليس من جهة كشفيته او ادعائه للكشفية. فكشفية ابن عربى لا تهمنى الا بقدر اهميتها فى شرح ظاهرة النبوة. 
لكن الذى يهمنى فعلا فى ابن عربى هو عقليته المرنة المتسامية فى فهم الغيبيات و ليس ذلك الجمود القاسى القاتل الذى نجده فى فكر السلف و الائمة و غيرهم. واعجبنى اكثر موقف كثير من علماء الكونيات مثل الذى رويته البارحة عن فايمان. وهو موقف متميز بايمان نسبى متغير حسب قوة البرهان و متميز ايضا بتواضع وجودى امام الغيبيات الذى قد يراه البعض عدم ايمان لكنه فى رأيى هو الايمان الاعمق و هو الايمان الحقيقى الوحيد الذى يولف بين العقل و العلم من جهة و بين الله و الغيب من جهة اخرى. 

 سؤال مهم جدا و جواب مقتضب حول وحدة الوجود او علم الحقيقة او نظرية كل عين 

 وحدة الوجود ليست نظرية يمكن لكل من هب او دب ان يفهمها حق الفهم. 
وهى ليست نظرية للعامة و لا هى نظرية للخاصة بل هى نظرية لخاصة الخاصة. 
اذن الذى يريد ان يكون موضوعيا و يحاول ان يفهمها عليه ان يعى انها غير موجهة له فعليه اذن ان يتواضع معرفيا و عرفانيا و يحاول ان يفهم قدر المستطاع وهذا ما افعله شخصيا فان لدى فهم شخصى جدا لها ليس هو بالضرورة الفهم القانونى لها بين اتباع بن عربى. 
و اهتمامى الخاص بها هو لاسباب اخرى كثيرة ليست بالضرورة اسباب روحية ولا هى اسباب عقلية بل هى اسباب وجودية وهو مما يُعقد دورها عندى. 
والسبب الوجودى يمكن تلخيصه فى السؤال: اذا كان واجب الوجود فلماذا اذن ممكن الوجود? 
ولم اجد فى الفلسفة الاسلامية الا ابن عربى فعلا من حاول و يحاول ان يجيب عن هذا السؤال. 
 لو عقدت مقاربة مع الفيزياء لقلت ان فهم ابن تيمية مثلا للتوحيد هو الفهم الظواهرى للجسيمات الاولية المختزل فى النموذج القياسى. 
اما فهم الغزالى للتوحيد فهو الفهم المجالى للجسيمات الاولية والكل يعرف ان ظواهرية الجسيمات الاولية تؤسسها و تؤصلها نظرية المجال الكمومى.
بالمثل فان الفهم الظواهرى لابن تيمية يؤسسه الفهم الكلامى الغزالى مثلا. 
اما فهم ابن عربى (الذى سماه ابن تيمية وهو الذى سماه بوحدة الوجود) فهو مثل فهم نظرية الثقالة الكمومية التى تسمى ايضا نظرية كل شيء فى الفيزياء النظرية.  والجميع يعرف ان فهم نظرية كل شيء هو الذى يؤسس الفهم المجالى مثلما ان الفهم المجالى هو الذى يؤسس الفهم الظواهرى. 
اذن فهم ابن عربى هو الذى يجب ان يؤسس لفهم الغزالى مثلما ان فهم الغزالى هو الذى يجب ان يؤسس لفهم ابن تيمية. 
فنحن نبحث عن نظرية اساسية و النظرية الاساسية -كما يدل اسمها- هى التى تؤسس للنظرية  الفعالة التقريبية التى تقع اعلى منها. 
وهذا هو فهم الفيزياء النظرية اطبقه على علم الكلام. 
اذن نظرية ابن عربى تمثل النظرية الاساسية بالنسبة لعلم الكلام الغزالى و علم الكلام يمثل النظرية الاساسية لفهم السلف على طريقة ابن تيمية مثلا. 
ولهذا سميت شخصيا نظرية ابن عربى (او بالاحرى فهمى لها شخصيا) نظرية كل عين لان الاعيان عند ابن عربى اعم من الاشياء فالاعيان كينونات موجودة فى علم الله و الاشياء كينونات موجودة فى العالم الخارجى. 
لو استخدمت تبسيط آخر وهو تبسيط الفلسفة الحسية المثالية فان بركلى كان مثلا يقول ان العالم هو فكرة فى ذهن الله سبحانه و تعالى. بالمثل فان ابن عربى قبله بمئات السنين كان يقول ان المخلوقات هى كانت قبل ان توجد و بعد ان توجد اعيان فى علمه سبحانه و تعالى. 
اذن وحدة الوجود هى محاولة لتوحيد التوحيد اى توحيد كل عين و شيء مثلما ان نظرية كل شيء الفيزيائية هى محاولة لتوحيد كل شيء مادى و فيزيائى. 
البعض بل الكثير لا يفهم و لا يحاول ان يفهم وحتى لو حاول ان يفهم فهو لن يفهم و رغم هذا فانه يتسرع الى التكفير. 
وحدة الوجود كما سماها ابن تيمية او علم الحقيقة كما سماها ابن عربى نفسه او نظرية كل عين كما سميتها شخصيا ليست شيئا هيئا موجها للعوام و لا الخواص اذن لماذا الخوض بخلفيات مسبقة فى اشياء ليست موجهة لهم. لكن من اراد الخوض فهو حر لكن فليخض فى الامر بنفسية و عقلية مفتوجة تُقيدها الموضوعية و العلمية و نحن فى الاخير لسنا ملتزمين الا مع النبى محمد صلى الله عليه و سلم و غيره يؤخذ منه و يرد خاصة مع من رفع فى وجهنا شعار (كل يؤخذ منه و يرد الا صاحب هذا القبر) المحكى عن الامام مالك فهؤلاء اول من نلزمهم بهذا. 
والحقيقة لن تخشى البحث و الحق احق بالاتباع و الحق ليس بالاغلبية و كل هذا شيء معروف. 

 بين التصوف و التسلف و بين ابن عربى و ابن تيمية

 التصوف هو فهم معين للاسلام يؤكد على الروحانية قبل ان يكون افراد و طرق و كرامات و خرافات.
والروحانية كما يجب ان يتفق الجميع هى اساس كل دين و الا فما هو الدين و ماذا يقدمه الى الانسانية بالفعل او بالقوة.
 ونحن عندما نتكلم عن التصوف فاننا نتكلم عن الفكرة و لا يهمنا سنة المتسننين و لا بدعة المبتدعين.
 و التصوف تاريخيا جاهد و حارب و نصر الاسلام فى الداخل و الخارج رغم بدعة المبتدعين و اتهام الكثير من الخاصة لهم فى الدين و نصرة الكثير من العامة لهم رغم كل تلك الاتهامات.
 و التسلف فهم آخر للاسلام يعتمد على القول بأن "السلف صفحتهم مطوية" كما يقول الذهبى قبل ان يكون افراد و جماعات و ارهاب و عنف فكرى.
 ونحن عندما نتكلم عن التسلف فاننا نتكلم عن هذه الفكرة و لا يهمنا سنة المتسننين و لا تطرفهم فى التسنن و لا تمسحهم بالحديث و آثار رسول الله.
 فالعبرة بالافعال و الاحوال و النتائج و ليس بالاقوال و الظواهر و المقدمات.
و السلف مع تبجيلنا اياهم نراه اصبح مفهوما مقدسا عند المسلمين وهذا شيء يرفضه كل عقل و دين. 
فنجد الامر عند ابن باديس و من تبعه من الاصلاح و الحسن البنا و من تبعه من الاخوان و كل حركة اسلامية اخرى فى هذا العصر الحديث تقدس السلف من واقع الحال و تبجلهم من واقع المقال. 
 اذن الكل مشى على درب تقديس السلف و القياس بمقياسهم متابعين فى ذلك بوعى و بدون وعى لابن تيمية تاركين وراء اظهرهم الخط الوسط للغزالى و ابن عربى و غيرهم من ائمة الامة. 
 وهذا كان احد اسباب رفضنا لكل الفكر الاسلامى بعد ان كنا تربينا فى احضانه فهو فكر سلبى كل حلوله رجعية بالفعل -كما كان يتهمهم الليبيراليون و الاشتراكيون-. والقول بأن السلف صفحتهم مطوية كالقول بأن الامام معصوم وهذا ايضا لا يستسيغه النظر المحايد و هو من اختراعات الذهبى و من وراءه الحنابلة و اهل الظاهر. 
والفرق بين التصوف و التسلف ان التصوف لم يحاكم احدا و ادعاءاته لاولياءه بالكرامة و التقديس و ختم الولاية (كما ادعاه ابن عربى مثلا) لم يُلزم بها احد من الناس. 
اما الزام البعض لاهل السنة و للمسلمين بالسلف فهو محاكمة لم يقم عليها دليل و لا يقوم عليها حتى الدليل التاريخى. فالسلف انفسهم اختلفوا بينهم اختلافا شديدا و كان فى عهدهم أناس آخرين لم يلتفتوا اصلا اليهم فلماذا يجب ارجاع كل شيء اليوم فى الدين اليهم. 
 اذن هناك التصوف و هناك الطرقية و هناك ابن عربى و لانه يمكن تطليق كل هذه المصطلحات من بعضها البعض فانه يمكننا التكلم عن كل منها بدون اى حرج فيمكننا نبذ مفهوم الطرقية دون لفظ مفهوم التصوف لانه (اى التصوف) مفهوم اساسى فى الدين بمعنى العمل (بعد العلم) و الروحانية و الزهد و الانسانية. 
لكن من الجهة الاخرى هناك التسلف و هناك السلف و هناك ابن تيمية و لانه لا يمكننا ابدا تطليق هذه المصطلحات الثلاث (على الاقل فى هذه المرحلة) من بعضها البعض فاننا ننبذ التسلف جملة و تفصيلا و نتحفظ على السلف لانه مفهوم ايجابى بالاساس لكنه تحول الى مفهوم سلبى بفعل فاعل قديم و حديث. 
 اما الفرق الانسانى بين التصوف و التسلف فهو فى مجال الانسانية و الانسان فالتصوف يتسغ قلبه اكثر للتسامح و الحب و الرحمة الذى هو روح الدين (والا فما هى جاجتنا الى الدين اصلا) اما التسلف فهو شكل و قالب للدين فقط. 
وهناك ايضا فرق فكرى آخرى يجعلنى اميل الى التصوف و ارجحه على التسلف. وهو يكمن فى الفرق بين شخصيتى ابن عربى (عميد التصوف الفلسفى) و ابن تيمية (عميد التسلف الفلسفى) وهى الصدق و الصراحة العلميتان و البعد عن الادلجة. 
فابن تيمية يريد ان يبرهن ان وجهة نظر السلف فى الوجود هى الحق اما ابن عربى فهو يريد فقط ان يبرهن على الوجود. و لا يهمه اذا استعان بالسلف (وهو يفعل ذلك كثيرا جدا) او بالائمة (المعصومون عند اهلهم) و قد فعل ذلك و بالمعتزلة (فى اهم مفهوم على الاطلاق مفهوم "العين الثابتة") و بالفلاسفة (خاصة ابن سينا فى ماهية النبوة) او غيرهم.
 و كمثال نأخذ العقيدة. فابن تيمية يثبت الصفات لكنه ينكر التشبيه (مثل كل السنة) و هذا مما لا يمكن ابدا ان يستقيم عقليا كما تبين فيما بعد. حتى الغزالى حاول ذلك و من وراءه كل الاشاعرة و المعتزلة و فشلوا جميعا. لكن الفرق بين الغزالى من جهة و المعتزلة و الاشاعرة و ابن تيمية من جهة اخرى ان الغزالى اقر بالفشل و استقال من الموضوع برمته اما الآخرون فقد اصروا على الفشل و انهم ناجحون رغم الفشل الذى نجحوا فيه بامتياز. 
اما ابن عربى فمنهجيته اقوى و اعمق وهو انجح منهم جميعا. فهو يثبت الصفات (وابن تيمية تابعه على التحقيق فى الاثبات و لم يتابع سطحية اهل الظاهر). لكن ابن عربى من الجهة الاخرى يقر ان الذات الالهية من جهة انها ذات لا يمكن ان تُعرف (وهذا يسميه ابن تيمية التجهيل) لكن الذات الالهية من جهة تعلق الاسماء و الصفات الدالة عليها بالخلق تستلزم التشبيه ضرورة. اذن ابن تيمية و الغزالى و كل متكلمة الاسلام ارادوا التنزيه المحض المطلق لكن ابن عربي بين ان ذلك غير ممكن عقلا لان اللغة لا تتسع لاستيعاب الذات الاهية على حقيقتها لكن فقط ستعبر عن الذات الالهية من باب علاقتها بالاشياء. وهذه العلاقة فيها كثير من التشبيه. فالتنزيه اذن يؤدى الى التشبيه لا محالة على رأى ابن عربى و علينا اذن احتضانه عقليا (اذن هذا ليس تشبيه الكرامية و غيرهم من الفرق الاسلامية و لا هو التشبيه الغبى الذى نجده عند العوام مدعين انه من عند السلف مرة اخرى). 
فهذه نظرة فلسفية عميقة فى دور اللغة و ربطها بين الوجود (الذى هو الله) و الخيال (الذى هو الخلق). فاللغة و كأنها هى البرزخ الفكرى بين هذين العالمين. 
 اذن نحن نثبت الصفات مثل ابن عربى و ابن تيمية و الغزالى لان السلف اثبتوا ذلك لكن لا ندعى ان ذلك هو التنزيه المطلق المحض مثلما ادعى ابن تيمية و الغزالى (فى مرحلة اولى) بل نقول مثل ابن عربى ان ذلك ينطوى على تشبيه ضرورى لا مهرب لنا منه. 

 الرازى المؤمن و الرازى الدهرى 

 الكثير عندنا يخلط بين الفخر الرازى الاصولى الفيلسوف و بين ابى بكر الرازى الطبيب الفيلسوف. واذا كنا نريد تحرى الدقة اكثر و النزاهة فى الحكم فان الوجدان الجمعى الجزائرى سوف يتجه مباشرة عندما نتكلم عن الرازى الى الرازى الطبيب بل هو فى اغلبه لا يعرف اصلا الفخر الرازى. ث
م ان الوجدان الجمعى الجزائرى يفضل يقينا الطبيب على الفيلسوف و على عالم الدين ولهذا فانه لدينا الاف مؤلفة من الاطباء مع ملايين المرضى الذين لم يجدوا اطباء لاسعافهم و ليس لدينا لا فلاسفة و لا علماء دين بل لدينا فقط متفلسفين و متسلفين. 
لهذا يفضل الجزائرى ابو بكر الرازى على الفخر الرازى وهو لا يعرف حقيقة لا هذا و لا ذاك بل كل ما يعرفه ان الاول طبيب. فهو لا يعرف مثلا ان أبى بكر الرازى هو اكبر فلاسفة الدهرية فى الاسلام فهو لا يؤمن لا باله و لا بنبى و لا باسلام. 
اما الفخر الرازى فهو اكبر فلاسفة الاسلام من المتكلمين الاشاعرة الذين خدموا الاسلام السنى بكل شيء قدروا عليه فى حياتهم الفكرية و لم يبخلوا و لم يقصروا رغم كل شيء آخر. 
ونحن نفضل الفخر على ابى بكر ليس لان الاول الهى مؤمن سنى و الثانى دهرى متحمس بل لان الاول هو فعلا اكثر تأثيرا على الاسلام و الفكر الاسلامى و الفلسفة الاسلامية من الاول دون ادنى شك. 
فالفخر الرازى اعاد ادخال فلسفة ابن سينا الى المذهب السنى بعد ان اخرجها الغزالى و مزج بين فلسفة الغزالى و فلسفة ابن سينا وهو الامر الذى نراه اليوم و فى التاريخ فيما يسمى المذهب الاشعرى. 
وكثير من الحنابلة و من بعدهم ابن تيمية و من بعده السلفية اتهموا الفخر الرازى بالتذبذب وهى تهمة مفضلة عندهم لان التذبذب نقطة ضعف يرونها و ليس نقطة قوة. 
لكن فى هذا المنشور سوف نبين ان التذبذب شيء ايجابى و ليس سلبى ابدا وهو الموضوع المحورى لهذا اليوم. 
والحقيقة ان اى انسان موضوعى قرأ اصول السلف و اصول الكلام و اصول الفلسفة و اراد فعلا ان يحافظ على موضوعيته العلمية و نزاهته العقلية و على ايمانه بالغيب فانه يجب ضرورة ان يكون متذبذبا (وهذا هو سبب تحمسى للفلسفة الوجودية و هو موضوع آخر لفرصة اخرى ان شاء الله). 
فالتذبذب صفة ايجابية فى المفكر المؤمن الذى يجتهد ان يكون موضوعيا عندما يجد نفسه امام هذه النظرية الدينية المعقدة الهائلة التى نجدها فى الاديان الابراهيمية. لهذا نجد الاشعرى مثلا متذبذبا فهو مرة معتزلى و مرة حنبلى و مرة اشعرى و آخرون قالوا بل هو كان معتزلى ثم اصبح اشعرى ثم اصبح حنبلى. وهذا خلاف لا يهم الآن لكن المهم فعلا هو التذبذب الاسطورى الذى تميز به الاشعرى و تميز به كنتيجة كل المذهب الاشعرى الذى جاء به. و اننى لا الومه هنا لان الصراع فعلا عظيم بين العقل الذى يقول شيء معين فى امر معين و السلف الذى يقول أشياء اخرى فى نفس الامر. 
ثم جاء الغزالى وهو كان اكثرهم ذكاءا و اكثرهم موضوعية فزهد فى الفلسفة و الكلام معا ولم يرى فيهما اى قوة مرجوة فى الحسم فرمى بهما معا و استقال ثم اتجه الى اليسار نحو التصوف الذى كان يعنى بالنسبة اليه ان الدين روح و روحانية قبل اى يكون سنة و شكلا و مظاهر و انه يجب احياء علوم الدين باحياء هذه الروح و هذه الروحانية و ليس برواية الحديث و رفع لواء السلف و الامام و السنة. 
وهذا رأى صحيح تماما. لكن القوم يقولون لنا ان الغزالى مات و صحيح البخارى على صدره و كأنهم يقولون لنا ان التصوف شيء معارض ضرورة للبخارى وهذا هراء آخر لن ندخل فيه الآن لان البخارى نفسه يرفضهم و يرفض فكرهم و التاريخ امامنا يمكنكم ان تقرأوه. 
ثم جاء الفخر الرازى فوقع فى تذبذب اعظم رغم محاولاته الاسطورية للتوفيق. فهو حاول الرجوع الى الوسط بعد ذهاب الغزالى الى اليسار وهذا عن طريق محاول التوفيق بين أراء ابن سينا و اراء الغزالى فخرج بذلك المذهب الاشعرى الرسمى الى الوجود وهو مذهب يتميز فى سطحه بالوسطيه بين العقل و السلف و بين الحنابلة و المعتزلة و بين الغزالى و ابن سينا لكن فى عمقه هو مذهب متذبذب لان كل اعمدته كانوا متذبذبين وهذا ليس قدح بل اراه فعلا ظاهرة ايجابية تعكس صراع جدلى بين الايمان الاختيارى بعالم الغيب و الرضوخ القهرى لعالم الشهود فى الانسان المؤمن المفكر. 
ثم جاء ابن تيمية فقرر النزوح الى اقصى اليمين و تغليب السلف على العقل تماما (رغم كل الادعاءات بغير ذلك) فولد بذلك الاسلام السنى الشعبوى الطاغى على عقول الجماهير. 
لكن قبل ابن تيمية و فى عصر الفخر الرازى جاء ابن عربى و كان افهم و اوزن من الفخر الرازى و غيره ممن سبقه مثل الغزالى و ممن لحقه مثل ابن تيمية. و لو قرأنا ابن عربى فاننا نرى بوضوح انه يميل الى الفلسفة ضد علم الكلام و هو فى هذا موافق لابن رشد لكنه يضيف الى الاداة العقلية التحليلية الفلسفية الاداة الكشفية الروحية الصوفية و هذا مما لم يتمكن من فعله ابن رشد رغم اقراره به كما يحكى ابن عربى عن لقائهما. 
اذن لو تأملنا فان ابن عربى ذهب فى نفس اتجاه الغزالى مع النجاح فى الحفاظ على الوسطية بين العقل و السلف التى فشل الفخر الرازى فى تحقيقها. وقد بلغ الفشل بالفخر الرازى رغم كل ذكاءه و اجتهاده ان اعلن (اللهم ايمان العجائز) و هذا اسوء الحلول قاطبة فهو اسوء حتى من الحل التيمى الذى اعلن مرجعية السلف الشاملة و هم انفسهم (اى السلف) لم يكونوا مرجعا لانفسهم. 
والبعض يقدس السلف و بعضهم يفضلهم على الخلف و اننى احتار من ذلك لان كثير من السلف فعلوا أسوء بكثير من كل ما فعله كثير من الخلف (فكثير من الصحابة و التابعين وقعوا فى دماء المسلمين و كثير من التابعين و تابعي التابيعن تاهوا فى اروقة قصور السلاطين). أما كثير من الخلف فلم يقعوا لا فى دماء السلمين و لا تاهوا فى اروقة السلاطين. أليس كذلك. 
اذن كثير من الخلف و حتى كثير من المعاصرين افضل من كثير من السلف. فلماذا اذن المناشزة بين التاريخ و الواقع. 
اذن فى المحصلة فان الفخر الرازى كان له تأثير هائل على الاسلام و هو احد اعمدة المذهب السنى كلاما و حتى فقها وهو مع كل عيوبه الاخرى (مثل ايمان العجائز التى ذكرناه آنفا و سحره المتهم به من قبل اتباع ابن تيمية) افضل فلسفيا بسنوات ضوئية من ابى بكر الرازى الذى يحبه البعض فقط لانه طبيب. 
وأختم بخلاصة للرد على الدهرية من امثال ابى بكر الرازى فاقول: 
- اولا الصانع موجود و الدلائل الوجودية مع البراهين الكلاسيكية كافية جدا لهذا الترجيح. 
-ثانيا الصانع شخصى اى بوعى و عقل و ارادة و علم و غيره مما تتميز به الموجودات الحية المفكرة. اذن الصانع حتى لو كان فى اطار وحدة الوجود فهو شخصى كما يقول ابن عربى و ليس غير شخصي كما يقول سبينوزا. والدليل على هذا ان الانسان و هو جزء من هذا الكون الذى صنعه الصانع هو كائن شخصى بامتياز. واذا كان المصنوع شخصى فالصانع شخصى بطريق الاولى. 
-ثالثا يجب ان يكون هناك برزخ بين الحق و الخلق كما يجب ان يكون هناك برزخ بين الوجود و الخيال. هذا البرزخ الذى هو وسط بين الاثنين هو الانسان الكامل. 
-رابعا هذا الانسان الكامل الذى هو برزخ هو النبى المعصوم الذى يأتى بالوحى وهذا من جهة توجهه الى الخلق أما من جهة توجهه الى الحق فهو الغاية من الوجود حتى تتجلى صفات الحق و تظهر. وهذا افضل نموذج لفهم النظرية الدينية. او هكذا يقول ابن عربى حسبما افهمه. 

 التوقادى حول الجبر و وحدة الوجود و رأيى فى رأيه 

 يقول التوقادى فى سلطان القدر:
من الناس من يحسون صلة بين عقيدة الجبر التى هى بمعنى رد كل شيء الى الله و نظرية وحدة الوجود المشهورة و يعدون الجبر من فروع القول بتلك النظرية لكنا لسنا موافقيهم على هذا الرأى و لا قائلين بوحدة الوجود و لا نسلم كون سيطرة الله تعالى على افعال عباده تستلزم اتحاد المسيطر مع المسيطر عليه لا سيما ان اثباتنا مسؤولية العباد عن اعمالهم لا يأتلف و نظرية وحدة الوجود قطعا. 
و لنظرية وحدة الوجود تفسير معقول بمعنى اعتبار وجود الممكنات بمنزلة العدم بالنسبة الى وجود واجب الوجود فيكون الموجود واحدا و ما عداه وجوده كالعدم لعدم كون الوجود ضروريا له و احتياجه الى موجد يوجده و يبقيه ونحن نعترف بوحدة الوجود بهذا المعنى لا كفريات من قال: 
العبد رب و الرب عبد ياليت شعرى من المكلف هذا 
و قد كان فى نيتى ابطال وحدة الوجود بمعناه الذى راج عند غلاة الصوفية القدماء وراق بعض الملاحدة العصريين كما يروقهم كل شيء يناقض الاسلام و يكون له اثر فى هدمه و ان اضمنه فى هذا الكتاب فكتبت شيئا منه ثم رأيت ان المسألة طويلة الذيل فأرجأته الى تأليف مستقل ان شاء الله. 
الشيخ مصطفى صبرى التوقادى (آخر فحول علم الكلام وهو تركى يكتب بالعربية خير من العرب و آخر مشايخ الدولة العثمانية و عالم أعلم من اغلب ممن كان فى عصره لكنه هُمش كما يهمش العالم الحق فى كل زمان و مكان لصالح الموضة و الهيب هوب). 
هذا النص من كتاب "سلطان القدر" وهو الكتاب الذى يشرح فيه مؤلفه اهم و اقوى نظرية تفصيلية واضحة صريحة محكمة للقدر فى الاسلام و هى نظرية تواؤمية (تحاول التوفيق بين المسؤولية و الحرية) تعد من اهم انجازات المدرسة الاشعرية و فحولها من امثال الاشعرى و الباقلانى و امام الحرمين و الغزالى و الرازى و الشهرستانى و غيرهم كثير جدا. 
هذا النص يمكن اعتباره صراعا بين ابن عربى (ممثلا لنظرية وحدة الوجود) و الغزالى (ممثلا بالتوقادى). التوقادى يقول ان وحدة الوجود تؤدى ضمنيا الى الجبر لكنه لا يتفق مع هذا وهو ضد الجبر و وحدة الوجود معا. لكن ابن عربى شخصيا كان يرى ان وحدة الوجود تؤدى الى الحرية تماما و الجبر ابعد شيء عنها. 
اذن الغزالى (والتوقادى معبر ممتاز عنه) يقول بالتواؤمية و كما يسميها التوقادى فى موضع آخر من الكتاب "تواؤمية الكسب هى جبر متوسط". اما ابن عربى فهو يقول بوحدة الوجود الذى يؤدى الى الحرية. 
هناك ايضا آراء أخرى مثلا المعتزلة يقولون بالحرية عبر خلق الافعال (وهذا غير كافى البتة) و الماتريدية يقولون يالحربة عبر عدم خلق الارادة الجزئية و هناك الجهم وهو جبر محض وهناك ابن تيمية الذى قلد ابن عربى و لم يفصح و هناك ابن حزم الذى يجب ان يعترض على الاشعرى فى كل شيء دون ان يقدم اى نظرية تواؤمية بمثل تفصيل ووضوح و احكام النظرية الاشعرية-الغزالية-الرازية. 
شخصيا اقول فعلا وحدة الوجود تؤدى الى الجبر كنظرية اساسية. 
واذا كان ابن عربى يرى ان وحدة الوجود تؤدى الى الحرية فهذا غير مفهوم بل هو غير متناسق فان الكائن الحر الوحيد (او الذى له فرصة حقيقية فى الحرية الحقيقية) هو الانسان الكامل و لا يمكن لانسان عادى ان يكون حرا بهذا المعنى و اقصى ما يمكن ان يصل اليه هو ان يكون تواؤمى. 
ثم اقول اكثر من هذا فان التواؤمية فى حد ذاتها غير كافية (وهذا راى جديد من عندى). 
فكل من يؤمن بالله الذى يعلم ماذا سيقع و متى يقع و كيف يقع منذ القدم (والعلم يؤكد عليه ابن عربى) يؤمن بالله الذى تشمل ارادته كل شيء سيقع و متى يقع و كيف يقع (والارادة يؤكد عليها الغزالى) يجب ان لا يطمع الا فى التواؤمية على اقصى تقدير (وهى غير كافية). 
 اذن العلم و الارادة الالهيان المطلقان الشاملان يعنيان بكل بساطة انه لا يمكن للانسان ان يكون حرا ابدا بل هو مجبر  (كما قال الجهم و سبينوزا). 
و كما سنبين فى مكان آخر فان الانسان حر من الناحية المنظوريانية اى موضعيا او محليا فى الواقع الميتافيزيقى. اذن هى ليست تواؤمية بل هى منظوريانية. و الجبر او الحتمية هى التى تحكم شموليا او كليا الواقع الميتافيزيقى.
اذن الانسان ليس حرا بل هو مجبر.
ورأى سبينوزا هو القول بالجبر المحض (وليس الجبر المتوسط الذى يقول به اهل الاسلام جميعا صرح من صرح بذلك مثل التوقادى و عاند من عاند فى ذلك).
اذن ارى سبينوزا افضل من ابن عربى فى هذا و اقوم. 
فسبينوزا رأى وحدة وجود منسجمة مع الجبر المحض اما ابن عربى فهو يرى ان وحدة الوجود منسجمة مع الحرية المطلقة (وهو لم ينسبها حتى للانسان الكامل الذى خلق الحق الخلق من اجله حتى تتجلى صفاته بل نسبها لنا جميعا وهذا متناقض). 
الا اذا كان ابن عربى يقصد بهذه الحرية الحرية المنظوريانية هى حرية الراصد فى معلمه العطالى الميتافيزيقى اى من من وجهة نظره او نظر بصريات استعرافه و وعيه.
 اذن بغض النظر عن التوحيد الاحادى للغزالى او وحدة الوجود لابن عربى او التوحيد الثلاثى لابن تيمية فان لا التواؤمية السنية (ولا الحرية المعتزلية و الشيعية) كافية تماما فى اعطاء حرية حقيقية للانسان مهما قال الغزالى بالكسب و ابن عربى بالاعيان الثابتة وابن تيمية بالسلف. 
فحرية الانسان لا يمكن ان تكون حقيقية مع العلم و الارادة الالهيان المطلقان. 
اذن لم يبقى الا الجبر للجهم الذى ضحك عليه الغزالى و ابن عربى و ابن تيمية و العلماء و حتى العوام. 
فكثير من الغربيين وصلوا الى الجبر ايضا بدون مقدمات الدين مثل سبينوزا و شوبنهاور فالجهم اذن ليس وحده. 
والعلم الفيزيائى ليس حرا ابدا بل كل شيء فيه حتمى بل هو قائم على الحتمية فالجهم اذن ليس وحده. 
لكن هناك طريق ثالث اتبعه مانى و زرادشت قديما و بعض علماء الكلام من المسيحيين حديثا. 
يقولون نؤمن بالله لكن الله اختار ان يحد من صفاته (العلم و الارادة) فهو لا يعلم ماذا سيقع و متى يقع و كيف يقع وهو سبحانه و تعالى لن يريد ما سيقع متى يقع كيف يقع. كل هذا بارادته سبحانه القديمة و اختياره. 
اذن فى هذه الحالة هناك منفذ للحرية الانسانية الحقيقية وهذا فيه ايضا حل جذرى لمعضلة الشر فالشر فعلا بعيد تماما عن العلم و الارادة و الخلق الالهيين. 
الآن البعض سيقول لك دائما اذا كان الانسان ليس حرا فكيف يكون مسؤولا. 
اقول بكل بساطة لست مسؤولا عن مسؤولية الانسان او عدمها. 
المسؤول من يدعى المسؤولية وهو لم يحقق الحرية. 
لكننى مع ذلك اشعر بمسؤولية واحدة فقط وهى محاولة تحقيق الفهم. 
ربما بعد تحقيق الفهم ستتحقق فينا الحرية و المسؤولية معا بدون اى جهد اضافى من اجانبنا فمن يدرى. 

 ولذلك كثر المؤمنون و قل العارفون: ابن عربى 

 ابن عربى رجل كشفى و ليس رجل تحليلى او هكذا يقول.
 ونظريته فى معضلة الجبر و الاختيار هى الحرية المطلقة (و ليست الحرية المقيدة) اذن هى ابعد شيء على الاطلاق عن الجبر.
 فى هذا الفص الخامس من فصوص الحكم الخاص بمقام الانسان الكامل الابراهيمى و حكمته يتناول ابن عربى موضوع الحرية باقتضاب شديد لكن بعمق اشد. 
اولا يتكلم عن الكشف الاول (او التجلى او الفيض الاقدس) الذى تتحقق فيه ماهية الاعيان الثابتة و استعداداتها الفطرية الأزلية فى الحضرة العلمية (اى فى علم الله سبحانه و تعالى). 
 ثم ثانيا يتكلم عن الكشف الثانى (او التجلى او الفيض المقدس) الذى تتعين عنده هذه الاعيان اى تخرج الى الوجود (اى من العلم الى العالم) بخلق الله لها. اذن الاستعدادات الفطرية و الميل الى الخير و الشر هى امور غير مجعولة (اى غير مخلوقة) فى الماهيات اى هى جزء من الماهيات جتى قبل ان تتعين تلك الماهيات لانها من الفيض الأقدس غير المجعول. و لهذا قال ابن سينا و تابعه ابن عربى (ان الله لم يجعل المشمش مشمشا لكنه جعله موجودا). اى كون المشمش (واذن زيد او عمر) مشمشا (اى زيد او عمر) ليس راجعا الى الله بل هو راجع الى العين الثابتة التى هى المشمش (اى زيد و عمر) فى علم الله و لم يفعل الله للمشمش (اى زيد و عمر) شيئا الا ان افاض عليه من الوجود. 
ثم يتكلم ابن عربى فى هذا الفص عن (معضلة تكليف ما لايطاق) دون ان يذكرها بالاسم. فعندما يقول الله (ولله الحجة البالغة) يقولون لله لم فعلت بنا كذا و كذا مما لا يوافق اغراضهم (فيكشف لهم عن ساق) وهو الامر الذى كشفه العارفون هنا فيرون ان الحق ما فعل بهم ما ادعوه انه فعله و ان ذلك منهم فانه ماعلمهم الا على ماهم عليه. فتدحض حجتهم وتبقى الحجة لله البالغة. 
ثم يتأول الآية (ولوشاء الله لهداكم اجمعين) تأولا شديدا. 
النظرية الاساسية عند ابن عربى ان مشيئة الله تابعة لعلمه و ان علمه تابع لمعلومه اى العين الثابتة الموجودة و احوالها و افعالها و اختياراتها. 
 اذن العلم الالهى ليس له ابدا اى تأثير فى المعلوم (فعل الانسان مثلا) بل على العكس المعلوم هو الذى يؤثر فى العلم لان العلم تابع للمعلوم و ليس العكس (كما يظن كل فيلسوف اسلامى آخر). 
وهذه نظرية مبدعة و جريئة و هى محور كل شيء عند ابن عربى. 
وهنا يقول ابن عربى ببلاغته (الكشفية فعلا) العجيبة ان هذا امر يصعب على الفهم جدا لان الخطاب الالهى جاء بما تعارفت عليه اللغة و العقل و ليس بما يأتى به الكشف. "ولذلك كثر المؤمنون و قل العارفون". 
واختم بهذه الجملة البليغة ومن اراد المزيد فليستمع الى كلام الشيخ الاكبر او ليقرأه مباشرة من كتابه فصوص الحكم. 

 ابن سينا و الغزالى و ابن عربى و ابن تيمية 

 الفرق بين الشيخ الرئيس ابن سينا و حجة الاسلام الغزالى من جهة و بين الشيخ الاكبر ابن عربى و شيخ الاسلام ابن تيمية من جهة اخرى هو ان ابن سينا و الغزالى يبحثان دائما عن حل وسط لكل معضلة يواجهانها اما ابن عربى و ابن تيمية فلا يهمهما الحل الوسط و لا البحث عنه. 
 فعلى ما يبدو فان ابن سينا و الغزالى يعتقدان فعلا ان الحل الوسط و الحق شيئا واحد او ان الحق يجب ان يقع فى الوسط بعبارة اخرى. 
اما ابن ابن عربى و ابن تيمية فهما على ما يبدو يعتقدان ان الحق لا يجب ان يقع بالضرورة فى المكان الوسط و لهذا ذهب الاول الى علوم الحقيقة و الباطن فهى الحق عنده و ذهب الثانى الى علوم الشريعة و الظاهر فهى الحق عنده وهما ليس بوسط على الاطلاق. 
فى قضية الجبر و الاختيار مثلا. ابن سينا يقول ان الانسان سبب موجب لفعله (وهذا اكثر من خلق الفعل) لا يمكن لفعله ان يتخلف مثلما انه لا يمكن للمسببات ان تتخلف عن اسبابها. اذن هذا كما ذكرت هو مذهب اكثر من مذهب المعتزلة لان المعتزلة قالوا بأن الانسان يخلق فعله لكن ليس على طريق الايجاب. 
الغزالى يقول بالجبر التواؤمى و بالكسب و بأن للانسان قدرة لكنها غير خالقة و بهذه القدرة تتعلق المسؤولية. وهذا هو مذهب السنة الاشاعرة (ويقرب منه مذهب السنة الماتريدية) على اختلافاتهم. 
ابن عربى يقول بالحرية المطلقة (اكثر من ابن سينا) فالمشيئة (مشيئة الله) تابعة للعلم (علم الله) و العلم تابع للمعلوم (فعل الانسان و اختياره) و المعلوم تابع للعين الثابتة (التى هى الانسان فى علم الله) التى هى ماهية (اى حقيقة) غير مجعوله (اى غير مخلوقة) باستعداداتها للخير و الشر لم يفعل الله الا ان ادخلها الى الوجود عبر خلقها او عبر التجليات الاقدس (الذى تتحدد به الماهيات اى الاعيان الثابتة) و المقدس (الذى تخرج به الماهيات الى الوجود او ما يسمى التعين). 
ابن تيمية من الجهة الاخرى قال بالقضاء و القدر خيره و شره و بأن علم الله وارادته محيطان بكل شيء وهو يعترض على جميع المذاهب الاخرى لكن اذا اخذنا ميل تلميذه ابن القيم الى امام الحرمين الجوينى (وهو سنى اشعرى لكن رأيه فى المسألة هو رأى معتزلى) لاستنتجنا ان رأى ابن تيمية هو بين رأيى المعتزلة و الاشاعرة فى مكان ما. 
وكما ذكرنا فهذه اكبر معضلة فى الميتافيزقيا (رتبها كانط الرابعة من بين اربعة معضلات سماها انطومينيات اى معضلات غبر قابلة لا للبرهان و لا للبرهان المضاد). 
و اى رأى فيها هو اما صفر ( حرية مطلقة) او واحد (جبر محض) او فى محل بين الصفر و الواحد (وهذه هى التواؤميات والاغلبية الساحقة من الاراء هى تواؤميات بشكل او باخر). 
وكما ترون فان الغزالى و ابن سينا ارادا شيئا بين الصفر و الواحد مع ميل الغزالى نحو الواحد وميل ابن سينا نحو الصفر. 
اما ابن عربى فهو لم يساوم هنا  و لم يهتم باى نقطة وسطية و اختار (فى حل هو الاكثر عبقرية فى رأيى) الصفر اى الحرية المطلقة. 
اما ابن تيمية فهو ايضا لم يساوم  وقال الحق هو ما ذهب اليه السلف و رفض جميع المذاهب الاخرى (و هذا رغم عدم وضوح هذا المذهب مذهب السلف من الناحية الفلسفية, فمثلا حتى الغزالى يقول و يصر على ان مذهبه هو بالضبط التعبير الصحيح عن مذهب السلف). 
شخصيا لدى ثابتان ميتافيزيقيان هما التواؤمية (وهو الوسط بين الجبر و المسؤولية) و المنظوريانية (وهو البحث عن الحل الوسط فى كل معضلة و ليس فقط فى هذه العضلة). 
اذن من هذين الثابتين اميل و بكل بساطة على الاقل فى هذه المعضلة الى الغزالى. لكن رأى ابن عربى هو توليفة عميقة جدا: اذن اذا كان الانسان حرا فهو حر بشكل مطلق وليس نسبى و الطريق الى ذلك هى نظرية ابن عربى او شيء من ذلك القبيل (لكننى استبعد جدا هذا الامر الا فى استثناءات مثل حالة الانسان الكامل). 
اذن اميل الى الغزالى لكننى ايضا الى ابن عربى. 
اما رأى ابن سينا فهو واضح بشكل كافى جدا يمكننى معه رفضه اما راى ابن تيمية فهو غامض بشكل كافى يمكننى معه رفضه. 

 نظرية كل عين 

 هذا المقال يحتوى على خلاصة دراساتى للشيخ الاكبر فى السنتين الماضيتين وهذا فى محور واحد من فلسفته وهو مدى نجاح مفهوم (الاعيان الثابتة) التى ترتكز عليها فلسفة وحدة الوجود فى حل المعضلات الوجودية. 
هذه الاراء المعبر عنها فى هذا المقال لا تُعبر بالضرورة عن رأى المؤلف ولا تعبر بالضرورة عن رأى ابن عربى الحقيقى بل هى تعبر فقط عن فهم المؤلف الشخصى جدا لكتابات الشيخ الاكبر ابن عربى. 
اذن فى هذا المقال نتناول بالنقاش مفهوم (الاعيان الثابتة) عند الفيلسوف الاسلامى الصوفى ابن عربى و الى اى مدى نجح ابن عربى باستعمال هذا المفهوم فى حل المعضلات الوجودية و اهمها معضلة قدم أو حدوث العالم, معضلة وجود الشر,معضلة حرية الارادة و الجبر, و معضلة البدء و المعاد. 
سنقوم ايضا فى طيات هذا النقاش باجراء عدة مقارنات بين ميتافيزيقا الوجود عند ابن عربى من جهة و ميتافيزيقا الميكانيك الكمومى و الوعى من جهة اخرى أهمها الثنائية بين العين الثابتة و الموجود العينى التى تلعب نفس الدور الذى تلعبه الثنائية بين دالة الموجة و الجسيم النقطى فى الميكانيك الكمومى و ايضا الثنائية بين الاعيان الثابتة و الذات الالهية التى تلعب نفس الدور الذى تلعبه الثنائية بين تعدد الافكار فى الذهن و وحدة الأنا فى فلسفة و علوم الوعى. 
هذه النظرية تؤدى الى حرية مطلقة للموجود العينى من وجهة نظر العين الثابتة و الى جبر ذاتى من وجهة نظر الذات الالهية. 
لكن فى المحصلة هى تؤدى الى ثنائية تجمع الجبر الانسانى (الناجم عن كون الاعيان الثابتة ذات طبيعة قديمة) مع الجبر الالهى (الناجم عن كون الاعيان الثابتة هى الافكار الالهية القديمة). بالاضافة الى هذه النتائج فان هذه النظرية تؤدى بشكل حتمى الى نسبية الحساب و العقاب و العذاب عند ابن عربى.
انظر المقالات: 
-بين (نظرية كل شيء) الفيزيائية و (نظرية كل عين) الميتافيزيقية  
-العالم فى العلم  
-الاعيان الثابتة هى افكار الله و مخلوقاته هى كلماته 


الحب الفكرى الاول: الغزالى و المنقذ من الضلال

 و المنقذ من الضلال لحجة الاسلام الغزالى هو اعظم كتب التراث الاسلامى قاطبة و اصدقها و اكثرها موضوعية علمية وهى تبقى عندى افضل كتاب كُتب فى الحضارة الاسلامية الى غاية يومنا هذا. 
وهو يعتمد على ثلاث محاور اساسية. 
اولا الشك و انطلاقة الشك كما يذكر الغزالى هو انحلال عقدة التقليد او ما افضل ان اسميها دائما الايمان الوراثى. و الشك يقصد به الشك الفلسفى الذى يعانيه (انغست فكرى و وجودى معا اذا صح التعبير) يتهدد ايمان فطرى عميق يجده الغزالى فى صدره و يريد تقويضه. 
اذن شك الغزالى هو صراع وجودى بين العقل و الايمان. صراع بين موضوعية العقل و ارادة الايمان (على مصطلح وليام جايمس). 
 و قد حسمه الغزالى شخصيا بالايمان الروحى الذى وجده عند المتصوفة و لم يجده عند غيرهم. 
 و لهذا السبب انتشر و اشتهر التصوف بعد الغزالى لقوة تأثير الغزالى و هيمنته الفكرية المطلقة على الاسلام السنى لقرون طويلة جدا الى غاية يومنا هذا فى قطاعات عريضة واسعة جدت و نحن نعد انفسنا منهم. 
ثانيا انتقاد جميع الفرق و المذاهب و بدون استثناء فليس لاحدهم افضلية على غيره بل كلهم واقعون تحت تأثير تدليس العقل و اغاليط المنطق (فهم لم يحترموا ابدا حد البرهان فى الالهيات و هذه من اصدق النتائج قاطبة و لم يعترف بها الا الغزالى) و الايمان التقليدى بما وجدوه عندهم فى موروثهم الفكرى. 
ثالثا ظاهرة النبوة فقد ادرك الغزالى بعمق نظرته و صفاء فطرته ان كل الفكر الدينى (او العلم الشرعى كما هو متعارف عليه) يعتمد على مقام النبى المعصوم الموحى اليه. 
اما الله فليس بمعضلة عند الغزالى و لا عندنا و لا عند اغلبية من يناقش القضايا الدينية من وجهة نظر العلاقة الجدلية بين الايمان و العلم و اما الايمان بالبعث فموقوف على الايمان بالنبى. 
اذن لم يبقى الا هذا الرابط بين الايمان بالله و الايمان بالبعث و هو الايمان بالنبى. والايمان بالنبى هو ايضا الرابط بين الايمان بالعلم و الايمان بالايمان (اذا صح التعبير). اذن علينا بناء نظرية للنبوة تجيب على التساؤلات و الاعتراضات و الشبهات و هذا ما حاوله الغزالى بابداعه و هذا اعتمادا ايضا على آراء ابن سينا و هذا ما حاوله ابن عربى بعدهما بنجاج اكبر و عمق اجدر عبر فكرة الانسان الكامل. 
لكن النبوة عند الغزالى هى ايضا مرحلة فى تطور الانسان وراء طور العقل اذن فهمها فهما طبيعيا هو اكبر تحدى فلسفى لمن يريد التصدى للتشكيك و التشكيك المضاد. 
اذن الشك و النقد و النبى هى المحاور الثلاث لكتاب الغزالى (المنقذ من الضلال) وهى كلها كما ترون تدور جول محاولة بناء نظرية معرفة وجودية تربط بين مختلف انواع الايمان (الله و النبى و اليوم الآخر) و بين مختلف انواع الوجود (الوجود الانى لله سبحانه و تعالى و الوجود العيثى الخيالى للانسان) و بين مختلف انواع المعرفة (العلم و الدين). 
وهذه ايضا محاور نقاشنا للفكر الدينى فى هذه الصفحة كانت و مازالت: الشك و النقد و النبى. 

 
 ابراهيم عليه السلام و الطريقة العلمية 

و ابراهيم هو اب الانبياء وهو نبى من اولى العزم و ابراهيم هو اول المسلمين بل هو أب الاسلام.
و جميع الاديان و بخاصة اليهودية تتمسح به عليه الصلاة و السلام و تنسبه اليها لكن هيهات هيهات فاننى لم اعد مقتنعا من المقتنعين و قد بدأت تتبلور عندى وجهة نظر خاصة جدا بخصوص هذا الموضوع. 
ابراهيم نبى فذ بجميع المقاييس. 
اننى اقول ان ابراهيم عليه السلام هو ليس فقط اب الدين الابراهيمى بل هو ايضا أب الفلسفة الكلامية و لكنه ايضا أب الطريقة العلمية. 
ابراهيم لم يكفه يقين الكشف النبوى وهو الوحى (الذى لا يمكن الا ان يحلم به المتصوفة من امثال ابن عربى الذين لن يبلغوا ابدا درجة الوحى الابراهيمى او الموسوى او المحمدى) بل طلب يقين العلم. 
اذن ابراهيم عليه السلام لم يكتفى بيقين الوحى بل طلب يقين العلم. 
ويقين الوحى لا يدانيه الا يقين الموت و نحن نعرف يقين الموت لكن لن نعرف ابدا يقين الوحى بل لن نعرف ابدا يقين الكشف فى ادنى درجاته. 
و ابراهيم رغم يقين الوحى الذى يتحلى به الا انه طلب ايضا يقين العلم وهذا يقين نعرفه جيدا لان يقين العلم هو يقين الحس و الحواس وهذا هو مجال الحيوان و الانسان البدائى و الانسان العاقل و الانسان المتقدم. 
فابراهيم قال (رب أرنى كيف تحى الموتى). 
اذن ابراهيم لم يكتفى بما عنده من الوحى المباشر من الله سبحانه و تعالى بل اراد ان يرى ميكانيزم الاحياء الذى هو فرع على ميكانيزم الخلق الذى يستبد به الله سبحانه و تعالى فهو مجاله وحده. 
اذن قال ابراهيم (رب أرنى كيف تحى الموتى) قال الله سبحانه و تعالى (أولم تؤمن) قال ابراهيم عليه السلام (بلى و لكن ليطمئن قلبى). 
اذن الايمان شيء و الاطمئنان شيء آخر. 
و ابراهيم يقينا يتحلى بالايمان و يقينه لكنه يريد ان يضيف اليه ايمان العلم الحسى فهو يريد ان يرى رأى العين و ليس رأى الخبر. 
ثم يأتى بعضهم اليوم و يقول لك (الايمان يقين جازم) وهم يستحيل ان يكون ايمانهم اليقينى الجازم فى مرتبة ايمان ابراهيم عليه السلام النبوى الكشفى ومع هذا فان ابراهيم طلب العلم الحسى ليظمئن قلبه و هم يحاربون العلم الحسى الذى به تطمئن قلوبنا. 
الآن سيقوم ابراهيم عليه السلام بالتجربة الحسية. 
قال الله سبحانه و تعالى (خذ اربعة من الطير) وهذه هى العينة التى سيجرى عليها ابراهيم التجربة فهى تتشكل من اربعة من الطير و ليس واحدا. 
ثم يقول الله سبحانه و تعالى (فصرهن اليك) وهذا هو تحضير العينة و صرهن يعنى قطعهن. ثم يقول الله سبحانه و تعالى (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) وهذا يمثل عامل الطبيعة فى تفريق المخلوق الى اجزاء بعيدة عن بعضها البعض فهذا سيحاكيه ابراهيم عليه السلام بعملية جعل كل جزء من تلك الطيور الاربعة على جبل مختلف. ثم يقول الله سبحانه و تعالى (ثم ادعوهن يأتينك سعيا).
 اذن هنا سيقوم ابراهيم عليه السلام بآخر جزء من التجربة وهو دعوة تلك الطيور اليه و عملية دعوة تلك الطيور تمثل عملية احياء هذه الطيور و غيرها يوم القيامة من قبل الله سبحانه و تعالى عبر اعادة خلقها هى نفسها (ليست غيرها) من جديد. 
هنا من الواضح ان تلك الطيور كان قد علَمها ابراهيم عليه السلام بشكل معين حتى يعرف انها هى نفسها التى جاءته سعيا ليست غيرها. 
وكل هذا (حتى يطمئن قلبى) كما ذكر ابراهيم عليه السلام باجراء التجربة الحسية و اضافة يقين العلم الى يقين الايمان النبوى (ثم يقول لك بعضهم يقين ايمان العجائز و يصر على ذلك و يريدنا ان نكتفى به). 
ثم يقول الله سبحانه و تعالى (واعلم ان الله عزيز حيكم) فهنا العلم الذى اكتسبه ابراهيم عليه السلام هو ليس علم الايمان فقط عبر الوحى (وهو فى غاية القوة فى حد ذاته) لكنه علم التجربة العلمية و الحواس نفسها. 
اذن ابراهيم عليه السلام هو ليس فقط أب الاديان الابراهيمية بل هو هو ايضا أب الطريقة العلمية فهو لم يكتفى بالقفزة الايمانية (لانه نبى يستطيع ان يدعوا الله سبحانه و تعالى و يطلب اى شيء فدعاه افضل دعوة على الاطلاق وهو تحقيق رؤية العين و عدم الاكتفاء باليقين الكشفى النبوى). 
وابراهيم عليه السلام هو ايضا أب الفلسفة الكلامية أليس هو من بحث عن الله بحثا دليليا عن طريق الانطلاق من الشمس (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربى هذا اكبر) وهذا بعد ان فشلت انطلاقته الاستدلالية من القمر. 
وهذا هو دليل الحدوث الذى لا يقنع به بعض المؤمنين السلفيين و هو اقوى دليل عقلانى (قديم قدم الفلسفة) على وجود الله قبل ان نكتشف فى هذا العصر الدليل الوجودى الاحتمالى. 
فابراهيم عليه السلام يعرف تماما انهما -اى الشمس و القمر- ليسا الله و يعرف تماما ماهو الله لكنه هنا استخدم (فهو فى مقام نظر) ما يسمى البرهان بالتناقض وهو الانطلاق من قضية ثم الوصول الى تناقض مما يؤدى الى الاستنتاج بان القضية التى انطلقنا منها يجب ان تكون خاطئة. 
 اذن ابراهيم ليس انه لم يكن غير مؤمن ثم اصبح مؤمنا بالدليل بل هو اقام الدليل  على عقلانية الايمان الذى يجده فى صدره. و لهذا فانه يقول (لئن لم يهدنى ربى) اى لئن لم يهدنى ربى الى رؤية الدليل فاننى لن اؤمن بشكل عقلانى. اذن هذا  نوع  من القفزة الايمانية التى لم يرتضيها فى قضية البعث. 
والسبب بسيط جدا. فانه فى قضية (وجود الله و معرفته) هو متيقن يقينا تاما (أليس يأتيه الوحى من عند الله مباشرة). هو يحتاج فقط الى اقامة الدليل العقلى الذى يرتضية كدليل موضوعى يقدمه للمعارضين. 
اما فى قضية البعث فهى اخطر فى البرهان لهذا دعى الله ان يهديه الدليل العلمى عليها (ولو تذكرتم فان قريش كانت تؤمن بالله رغم اشراكها لكنها لم تكن تؤمن بالبعث فهو اصعب على العقل). 
علينا ان نذكر فى الاخير ان ابراهيم عليه السلام هو سومرى و سومر هى اقدم الحضارات الكتابية قاطبة و السومرية هى لغة معزولة ليست بذات علاقة باللغات السامية الاخرى ولهذا فان العلاقة المفترضة بين ابراهيم عليه السلام و اسرائيل و حتى العرب يجب اعادة النظر فيها على اقل شيء. لكن هذا موضوع آخر نرجع اليه فى فرصة اخرى بعد التفكير فيه اكثر ان شاء الله. 

 من الاقوى الايمان أم الحقيقة 

 جبريل: لا يوجد شيء اقوى من الحقيقة. 
راسل: بلى يوجد. فالايمان اقوى من الحقيقة. 
جبريل يمثل ربما جبريل الوحى وهو لا يموت لكنه يريد ان يموت لان الحياة حسبه ليس لها معنى بدون الموت حتى لو كانت فى الجنة. 
اما راسل فهو ربما يمثل راسل الفلسفة و هو ايضا لا يموت لكنه يريد ان يضمن خلوده الابدى فى الجنة. 
وهذا اول التناقض فى هذه القطعة من الخيال العلمى . 
أى ان ممثل الدين يدعى الحقيقة اما ممثل العلم فيدعى الايمان. 
ومن تابع مسلسل (المائة) فانه سيرى ان كلاهما اشترك فى اكتشاف هذه الجنة و كلاهما اشترك فى اكتشاف الخلود و كلاهما اشترك فى القتل من اجل فكرته.
وهنا يتصدع التعالى الاخلاقى لكل من العلم و الدين. 
فالاتباع بله الزعماء من الفريقين شاركوا فى القتل باسم العلم و باسم الدين و لدينا التاريخ شاهد على هذا الامر. 
ومحاولة قهر الموت بالقتل هو اول النهاية لكل فكرة دينية و علمية. 
وقد مارسه الانسان الخير الطيب المؤمن العقلانى عبر التاريخ. 
والقتل اول الشر وهو اول شر ارتكب فى الارض. 
لكن المفيد فى القصة اعتقاد البعض ان الحقيقة اقوى من الايمان و اعتقاد البعض الآخر ان الايمان أقوى من الحقيقة. 
لكن ماذا عن امكانية (حقيقة الايمان) و (الحقيقة الايمانية) و كذا امكانية (الايمان بالحقيقة) و (الايمان الحقيقى). 
لكننى شخصيا اتفق مع راسل فى كون الايمان اقوى من الحقيقة (واقعيا و فعليا اذا كان الايمان حقيقة) لكن ارجع و اميل الى جبريل فى كون الحقيقة اقوى من الايمان من باب كونها حقيقة.
لكن المؤكد ان كل من الحقيقة و الايمان يريدان قهر الموت. و المؤكد اكثر ان القدر fate اقوى من كل من الايمان faith و الحقيقة truth من ادون ادنى شك. 
وهذا فهمى الشخصى جدا لهذه القطعة الجميلة من الخيال العلمى من المسلسل الشبابى (المائة The 100) الذى تم فيه وضع معضلات الايمان و الحقيقة و القدر و الشر فى جملتين دراميتين قصيرتين او هكذا فهمت هذه اللقطة. 

 طريق (غشيهم موج كالظلل) نحو الايمان 

 وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (لقمان 32) 
اذن حتى الكافر سوف يلتجأ الى الله عندما يتغشاه الموت لكنه يعود و يرجع الى غيه بعد ان ينجيه الله سبحانه و تعالى. 
وهذا هو تعريف الكافر المخلد فى النار. 
اما المؤمن فهو سيرجع الى الله يقينا عندما يتغشاه الموت. بل هذا هو الطريق الكشفى الوحيد المفتوح امامه. و المؤمن قد ينسى بعد ذلك لكنه دائما سيرجع الى الله كلما شعر بالخطر على حياته. وهذه هى الدلالة الحقيقية للايمان المغروس فى قلبه مهما كانت درجة الايمان ضعيفة فيه. و هى دلالة غير عقلانية بالمرة بل هى وعى داخلى قوى يشترك فيه المسلم مع الكافر. 
لكن هناك (ربما) نوع آخر من الانسان هو الكافر الذى لا يرجع الى الله اذا تغشاه الموت. هل هذا النوع فعلا موجود. 
و السؤال الثانى ماذا يشعر به هذا النوع الثالث (اذا كان موجودا) عندما يتهدد حياتهم الموت او المرض او يتغشاهم موج البحر كالظلل كما عبر عنه القرآن ببلاغته العجيبة. هذا الكافر (الدهرى الحقيقى الصادق) اذا كان موجود عندما يشرف على الهلاك هل سيستسلم تماما (وهى جبرية متناقضة مع الدهرية) ام انه سيشعر بكائن آخر اعلى منه يمكنه ان ينجيه (وهذا يناقض دهريته) ام انه سيستقبل النهاية بعقلانية طبيعية حقيقية كما تقبلها المؤمن بعقلانية ميتافيزيقية متسامية. 
اذن الايمان له طريق آخر سادس ليس فقط طريق - العقل الكلامى او الفلسفى -و لا هو طريق الكشف الصوفى -و لا هو طريق ايمان العجائز التقليدى -و لا هو طريق التسليم السلفى او الشيعى -و لا هى القفزة الايمانية الوجودية. 
هذا الطريق السادس هو طريق (غشيهم موج كالظلل) الذى ذكرته الآية. وهذا الطريق بكل بساطة سيؤدى بالمرء الى الايمان التقليدى على طريق السلف (وليس الى الايمان السلفى او الشيعى رغم اشتراكهما فى الاصول). 
وهو كما ترون طريق غير عقلى و لا هو طريق نصى و لا هو طريق كشفى من النوع الذى يتحدث عنه الصوفية بل هو طريق وجودى او بالاحرى هو طريق ضد-وجودى لانه لا يتأتى الا عبر تهديد الحياة و الوجود. 
اما طريق الصوفية فاننى اعتقد فعلا ان هناك علم دفين عميق فى فكر ابن عربى مثلا لكنه مخلوط بشطحات خطيرة جدا و يعتمد اساسا على الترميز و الغموض لا يمكن ان يصبر عليها الا المختص (او بالاحرى المختصين) الذين يجب ان يقرأوا لابن عربى و ليس عن ابن عربى عبر اجيال كثيرة. 
اما الطريق الكلامى والفلسفى فهو يتأكد مرة اخرى انه طريق عقيم كما بين الغزالى منذ قرون طويلة. 

 واين هم انبياء الامازيغ و اين هو ابراهيم عليه السلام فى الآثار و التاريخ و الجغرافيا 

و أين هم انبياء الامازيغ? 
واذا كان العرب خرج منهم النبى الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم -الذى كان خلقه القرآن- و الذى كان لوحده -خير امة اخرجت للناس- فآمن من آمن به صدقا و تصديقا او كرها و غصبا او نفاقا و مواراة قديما و حديثا. 
واذا كان بنو اسرائيل خرج منهم عدد لانهائى من الانبياء لكن لم يؤمنوا الا ببعض الكتاب و كفروا بأغلبه. و أكبر انبيائهم موسى عليه السلام فقالوا له اذهب انت و ربك فقاتلا اننا هاهنا قاعدون. و آخر انبيائهم عيسى عليه السلام كذبوا به تكذيبا مبينا لم يكذبه نبى لا قبله و لا بعده و اتهموا أمه بالزنا و هو قد كلمهم فى المهد. فقالوا عنه صلى الله عليه و سلم انه ابن زنا و قالوا عن امه انها امرأة سوء. يقولون كل هذه الشناعات و الرضيع يكلمهم فى مهده. 
واذا كان الفراعنة خرج منهم هرمس المثلث الذى هو ادريس عليه السلام الذى ابتدأ به العلم و الفلسفة. 
واذا كانت بابل و اشور خرج منها ابراهيم عليه السلام الذى تنسبه اسرائيل لنفسها جورا و عدوانا و لا احد يعترض عليها لا فى الغرب و لا فى الشرق. ابراهيم عليه السلام الذى هو ابو الانبياء و اب الاسلام الذى قال (حتى يطمئن قلبى) وهو بينه و بين الله حبل الوحى المباشر الذى هو اعلى درجات الكشف. 
ثم يأتينا البعض و يقول لك الايمان هو اليقين الذى لا يتزعزع وهم و غيرهم يقفون بين الخلق و خالقهم يحجبون الحقيقة عنهم بغلوهم المعرفى و عليائهم العرفانى. 
لكن هيهات هيهات ان يكون عندهم يقين ابراهيم عليه السلام الذى دعى ربه حتى يطمئن قلبى. 
واذا كان الفرس خرج منهم مانى و زرادشت وهم عليهم شبهة الانبياء وهى شبهة قوية جدا مع القرائن الاخرى. و مانى هو نبى الوجودية الاول الذى دعى اتباعه الى عدم التكاثر لتسريع انقراض الجنس البشرى و تخليص بنى آدم من عبثية الحياة (وقد كان القديس اوغستين مانوى قبل ان يتنصر ذلك التنصر العميق). 
واذا كان الاوروبيون خرج منهم انبياء العقل و العلم فآمنوا بهم زرافات و ركبانا. و ربما كان افلاطون و ارسطو اول انبياء العقل و العلم و اكثر الانبياء نجاحا فى انجاح الانسانية فى انسانيتها قبل الهيتها. 
واذا كان الهند و الصين خرج منهم بوذا و كونفوشيوس. ثم جاء الطالبان و دمروا اكبر تمثال لبوذا فى التاريخ و الجغرافيا منحوت فى الجبال باسم محمد ومحمد صلى الله عليه و سلم برئ من هؤلاء الساديين و المازوخيين العقائديين. 
لكن السؤال الذى ابتدأت به الموضوع. 
أين هم انبياء الامازيغ و البربر. 
و اين هم انبياء الترك و الكرد ومن جرى مجراهم من شعوب الشرق. 
لكن فى المغرب نجد الامازيغ اكبر الشعوب قاطبة فأين هم انبيائهم. 
و لاننا لا نعرف اى نبى خرج من بلاد المغرب العربى فانه يحق لنا ان نتسائل لماذا و ماذا يعنى غيابهم. 
ونفس السؤال بحق افريقيا اين هم انبيائهم. 
ويُحكى ان عبد السلام بن مشيش و هو اكبر المتصوفة (استاذ ابو مدين و الشاذلى و ابى العباس المرسى و غيرهم) قد قام باغتياله رجل مبتعث من مدعى للنبوة بين قبائل الامازيغ فى جبال المغرب الاقصى و هذه هى الحادثة الوحيدة التى اعرفها شخصيا بخصوص ادعاء احدهم حقا او باطلا النبوة بين الامازيغ. 
لكن علينا ان لا نجزع كثيرا بخصوص غياب الانبياء فى شعوب كثيرة و على رأسها الامازيغ. 
بل علينا ان نجزع اكثر. 
لان الامر اسوء بكثير من هذا مع وقوف العلم (الذى هو المسيح الدجال) للدين بالمرصاد. 
لان اغلب الانبياء اعظمهم يرجعون بنسبهم الى ابراهيم عليه السلام و العلم يؤكد و يصر على التأكيد ان نبى الله ابراهيم عليه السلام بالمواصفات التى تذكرها الاسرائيليات و السلفيات غير موجود البتة لا فى التاريخ و لا فى الجغرافيا. 
ومن لم يجزع من هذا من المؤمنين فقلبه ميت و عقله أميت. 
فهذا هو الخطر الحقيقى على الايمان من العلم و هو خطر وجودى مثل ذلك الخطر الذى يمثله المسيح الدجال الذى جاءت به الروايات النبوية. 
ولهذا اصر و اقول ان العلم هو المسيح الدجال لان العلم موضوعى و محايد و لا يهمه الايمان او الالحاد لكن العلم على الاقل فى هذه المرحلة يصر على ان اساس الايمان -الذى هو ابراهيم عليه السلام- غير موجود فى الأثار و فى التاريخ و لا حتى فى الجينوم البشرى. 
كيف اذن هى الاجابة عن هذا السؤال العلمى. 
و ماهى الاجابة عن السؤال الاصلى الذى طرحته (اين هم انبياء الامازيغ). 
 فعلى ما يبدو جميع الانبياء -وليس فقط انبياء الامازيغ و باستثناء انبياء العلم- غير موجودين بالاصل و من الاساس. 
 وهذا احد التحديات التى لا احير عليها جوابا و تجعلنى مهتما بهذه المعضلة بالطريقة و الصياغة التى اواصل على طرح المعضلة بهما. 

 

 الروحانية غريزة بيولوجية اما التدين فثقافة اجتماعية 

 و قد كنت منعت نفسى عن القراءة منذ اكثر من 6 اشهر لكن لم استطع منع نفسى هذه المرة فتركت كل شيء و قرأت الفصل الاول من هذا الكتاب عندما وقع البارحة بين يدى وهذه خلاصة لما قرأت. 
هذا الكتاب عنوانه (الجينة الاله The God Gene). و (الجينة) هى (المورثة). 
 ومؤلفه هو عالم المورثات (دين هامر Dean Hamer). 
علم المورثات هو علم بيولوجى فيه فوائد عظيمة لكل شيء وقد كنت قدمت فيما سبق كتاب رائع لعالم المورثات الكبير (براين سايكس Bryan Sykes) بخصوص تأثير علم المورثات فى علم التاريخ و كنت ساقدم فى الصيف الماضى كتاب آخر له عن تأثير علم المورثات فى علم المستقبل فقرأت ثلاثة فصول ثم امتنعت عن اكمال الكتاب. 
فى كتاب اليوم (الجينة او المورثة الاله) يناقش المؤلف العلاقة بين علم المورثات (و علوم الوعى و النفس و الطب) و الروحانية. 
 بل هو يسأل السؤال الذى سألته منذ سنوات على هذه الصفحة (هل الايمان وراثى ام ثقافى) او (هل الايمان بيولوجى ام اجتماعى). 
اذن الجواب هو فعلا (نعم) و هو يتلخص فى (الجينة الاله). 
و تذكروا من الفيزياء النظرية فكرة (الجسيم الاله). 
اما (الجسيم الاله) فهى فكرة عقيمة ليس لها اى تأثير على اى شيء مهم فهى فقط تهريج اعلامى. 
اما فكرة (الجينة الاله) فهى فكرة بيولوجية ذات تأثير عميق فى الوعى و فى التدين و فى الايمان و فى الروحانية. 
اولا المؤلف يفصل تماما بين (الروحانية) و (التدين) فهو مهتم بالروحانية التى هى فكرة تنبع من داخل الوعى اما التدين فهى فكرة تنبع من خارج الوعى. 
وهذا ايضا امر كنت قد صرحت به منذ سنوات على هذه الصفحة. 
المؤلف يذهب ابعد من هذا بكثير و يقول ان (الروحانية) مسؤول عنها مورثة او جينة فى الجينوم البشري مثل الجينة المسؤولة عن الجنس و الجينة المسؤولة عن اللغة و الجينة المسؤولة عن لون العينين أو عن الطول و هكذا حتى يصل الامر عند بعضهم (و المؤلف منهم) الى جينة مسؤولة عن التوجه الجنسى. 
 هذه المنهجية هى منهجية (الاختزالة العلمية scientific reductionism) وهى ليست بالضرورة صحيحة لكنها صحيحة فى عدد هائل من الحالات و اكبر العلوم الاختزالية هى فى الحقيقة الفيزياء (وبشراسة شديدة) و ليست علوم المورثات. 
اذن الروحانية هى (احساس الوعى الداخلى ذو اساس بيولوجى اى غريزى) و هو (الايمان). و لا يهمنا هنا طبيعة الايمان و هل هو ايمان بالله كما نعرفه من الديانات الابراهيمة ام هو ايمان تسامى بوذى او هندوسى.
اما التدين فهو (احساس الوعى الجمعى ذو اساس ثقافى اى انه يُتعلم). بعبارة اخرى الروحانية اصلها الاكبر فى الطبيعة nature اما التدين فاصله الاكبر فى التربية nurture. لهذا فان كثير من الروحانيين ليسوا متدينين و كثير من المتدينين ليسوا روحانيين. لكن الاساس (اساس الدين) هو الروحانية و لس التدين و افضل من فهم هذا عندنا فى الاسلام هم الصوفية. 
المؤلف يتبع 5 محاور اساسية فى الكتاب لاثبات هذا الامر يلخصها فى الفصل الاول. المحور الاول (القياس measurement). الطريقة العلمية scientific method تحتاج الى القياس اذن يجب علينا قياس (الروحانية) فى الافراد بشكل معين و الا فكيف يمكننا القيام بالتجربة. المؤلف يعترف ان هذا الامر صعب جدا جدا لكنه ليس ميؤوسا منه. اذن هو يستعين بمقياس يسمى (التسامى-الذاتى self-transcendence) طوره عالم الاجتماع النفسى روبرت كلونينغر Robert Cloninger الذى يبحث فى الاصول البيولوجية و الاجتماعية للشخصية personality. 
هذا المقياس يعطى قيمة عددية لروحانية الفرد فالروحانى تجده يرى العالم وحدة واحدة تربط افراده قواسم مشتركة عكس المتدين الذى تجده يركز على الفروق و الاختلافات و الخلافات بين بنى البشر. 
اذن نعم الروحانية قابلة للقياس. 
المحور الثانى (التوريث Heritability). يجب تحديد هل (المورثة او الجينة الاله) المسؤولة عن (الروحانية) فى الفرد هى قابلة للتوريث اى تورث عبر الاجيال و هذا عبر دراسة التواؤم و الاشقاء التى تسمح لنا بسبر العلاقة بين الروحانية و البيولوجيا. 
 و النتيجة التى توصل اليها العلماء و يلخصها المؤلف فى هذا الكتاب ان (الروحانية) كما يقيسها مقياس (التسامى-الذاتى) هى نعم ميزة او خاصية تورث وهى نتيجة احصائية (اى علمية). 
دراسة التواؤم تسمح ايضا يسبر غور العلاقة بين (الروحانية) و (البيئة) و النتيجة ان اهم عنصر فى البيئة مؤثر فى الروحانية هى التجربة الشخصية لكل فرد و ليست الكنائس و المساجد و القواسم المجتمعية المشتركة بين الافراد التى تؤثر اكثر فى التدين. 
اذن (الروحانية) تؤثر فيها البيولوجيا (الجينة الاله) و علم النفس (التجربة الذاتية) اما التدين فتؤثر فيه الثقافة و المجتمع. 
المحور الثالث (تحديد جينة معينة Identifying a Specific Gene) ز هنا تدخل البيولوجيا الجزيئية molecular biology. هنا يقترح المؤلف ان التسامى-الذاتى الذى يعكس الروحانية فى الفرد مرتبطة بنوع من البروتينات تسمى الامينية-الاحادية الناقلة monoamine transporter وهو بروتين يتحكم فى كمية الكيميائيات التى يستعملها الدماغ فى ارسال اشاراته و اوامره. 
 هذا البروتين هو نفسه البروتين الذى يتم اطلاقه عند استهلاك بعض المخدرات المعروف عنها انها تستحث فى الدماغ او بالاحرى فى العقل تجارب وعى شبه-صوفية. 
المحور الرابع (ميكانيزم الدماغ Brain Mechanism). اذن الكيميائيات التى تتحكم فيها الجينة الاله هى هذه البروتينات الامينية-الاحادية. فهى تؤثر على الروحانية عبر تغيير الوعى. اذن التسامى-الذاتى هو عبارة عن العلاقة بين الوعى و الروحانية فهو عبارة عن عملية تغيير الوعى عبر رأب الصدع بين النفس او الأنا و العالم الخارجى. ولهذا فان الروحانية تؤدى الى نوع من الطمأنينة الوجودية تتغير درجاتها بقدر ما ورثه الفرد من تلك الجينة او المورثة الاله. 
ايضا هنا كما يذكر المؤلف صراحة فان التسامى-الذاتى هو نوع من التجربة الصوفية المبسطة موجودة فى الافراد العاديين. 
لكن هذه الكيميائيات (البروتينات الامينية-الاحادية) هى تلعب ادوارا اخرى فى الوعى. فهناك مثلا السيروتونين serotonin و الدوبامين dopamine وهما من البروتينات الامينية-الاحادية التى تلعب دورا اساسيا فى الوعى فهى التى تسمح للدماغ بالربط بين الاشياء الخارجية و التجارب الذاتية من جهة و العواطف و القيم من جهة اخرى. المحور الخامس (الانتقاء الطبيعى natural selection) هنا يؤكد المؤلف ان (الروحانية) هى كغيرها من مميزات الفرد المورفولوجية و النفسية هى نتيجة حتمية للتطور الداروينى و نظرية الانتقاء الطبيعى. 
ف (الروحانية) تسمح للانسان بالتمتع بنوع من من الشعور الغريزى بالتفاؤل يسمح له بمواجهة هذا العالم العبثى الذى سينتهى بالموت. و لهذا يواصل الانسان الحياة و التكاثر و انجاب اولاد يحبهم حبا جما رغم انه يعرف انه سينتهى بهم الحال هم الآخرين الى الموت. اذن يفعل الانسان كل هذا بسبب ذلك التفاؤل الغريزى النابع او الناجم عن (الروحانية) التى طورها الانسان عبر مئات الالاف من السنوات. وهذه خلاصة هذا الكتاب او بالاحرى خلاصة الفصل الاول من الكتاب كتبتها بسرعة مباشرة بعد ان بدأت فى قراءة هذا الكتاب رغم اننى كنت صائما عن القراءة. 

 بين الماضى (الذاكرة) و المستقبل (الحرية) 

 الميتافيزيقا تؤكد ان (الصانع) يجب ان يكون خارج الزمن (ابن تيمية) او بالاصح لا داخل و لا خارج الزمن (الغزالى). 
 اذن الماضى و المستقبل هما مخلوقان على نفس المرتبة بازاء الله سبحانه و تعالى و اصفى كلام فى الاسلام فى هذا المضمار هو كلام حجة الاسلام الغزالى فى التهافت و الاقتصاد و غيرهما. 
اما الفيزياء (حسب الفهم المعاضر للفيزياء النظرية) فتؤكد ان الكون يجب ان يكون متناظرا بالنسبة الى العكس فى الزمن. اذن هذا الذى نراه من ماضى و حاضر و مستقبل هو راجع بالاساس الى توسع الكون و هذا الاخير  هو نفسه راجع بالاساس الى الشروط الابتدائية المتميزة جدا التى ابتدأ بها الكون. 
اذن السر ليس فى (ان الزمن ليس متناظرا بين الماضى و المستقبل) لان هذا مسلم به و ليس السر ايضا (ان الانطروبى هو فى حالة تزايد) لان هذا ايضا نتيجة و ليس سبب للسر الحقيقى الذى هو (لماذا ابتدأ الكون من تلك الشروط الابتدائية و ليس من غيرها). 
اذن الفيزياء و الميتافيزيقا متفقان على ان معضلات (السهم فى الزمن) و (ماهية الحاضر) و (التناظر بين الماضى و المستقبل) هى كلها مشكلات سرابية ليست حقيقية. 
اما (علوم الوعى) فهى لا تحار جوابا امام ثقة الفيزياء و الميتافيزقيا. فهى لم تصل بعد الى هذه المشكلات. 
هذه مشكلة مهمة جدا لان معضلات الزمن هى اساس معضلات السببية و القدر. فالوعى او الانسان يرى الزمن بطريقة مغايرة تماما. 
فالماضى رغم انه غير موجود الا ان وجوده فى الذهن يقينى و المستقبل غير موجود يعتقد الذهن انه غير حتمى. 
اما الوعى فهو الحاضر الموجود. 
وان الحرية تتعلق بالمستقبل مثلما تتعلق الذاكرة بالماضى. 
نأخذ مثال. الانسان سيقوم بالفعل أ (خير) او بالفعل ب (شر) فى المستقبل. 
ولان المستقبل لم يأتى بعد فان الانسان يعتقد انه حر فى اختيار اما الفعل أ او الفعل ب. 
لكن الله خارج الزمن يعلم اختيار الانسان فهو يعلم ان الانسان سيقوم بالفعل أ مثلا. و أكثر من هذا فان الانسان يعتقد ان الله يمكنه التأثير على المستقبل (ومن هنا جاءت فكرة الدعاء). 
لنأخذ نفس المثال لكن فى الماضى. 
الانسان قام بالفعل أ (خير) و لم يقم بالفعل ب (شر). ولان الماضى انقضى فان الانسان يعتقد انه لا حرية فى تغيير الاختيار الذى اختاره الانسان. بل يعتقد الانسان ان الله نفسه لا يمكنه تغيير الماضى. 
لكن الله خارج الزمن الماضى منه و المستقبل فالماضى و المستقبل موجودان معا بالنسبة لله (مثلما ان الحاضر موجود تماما) و مع هذا فان الانسان يعتقد ان الله يمكنه التأثير على المستقبل و الحاضر لكنه لا يستطيع تغيير الماضى. 
و من هنا فانه تم كسر التناظر الزمنى بالنسبة لله سبحانه و تعالى. 
فالماضى اصبح غير مساوى للمستقبل بالنسبة لله تعالى. 
اذن لأن هذا التناظر الزمنى مكسور (او هكذا يعتقد الانسان) فى الوعى فان الانسان يعتقد ان هذا التناظر يجب ان يكون مكسورا فى الطبيعة (و الفيزياء قد خطأت هذا الاعتقاد) ثم اكثر من هذا فان هذا الانسان يعتقد ان هذا التناظر يجب ان يكون مكسورا بالنسبة لله سبحانه و تعالى (وهذا من اكبر اخطاء الوعى و هو خطأ ارتكبه علم الكلام بالخصوص متابعا فى ذلك لخطأ الوعى). 
الصحيح ان الله يقف خارج الزمن اذن هو يؤثر على المستقبل مثلما انه يمكنه تغيير الماضى. المستقبل مخلوق موجود بالنسبة لله رغم انه غير موجود بعد بالنسبة لنا و الماضى بنفس الطريقة هو مخلوق موجود بالنسبة لله رغم انه اصبح غير موجود بالنسبة لنا. 
والله خلق السببية (ارادة الكون) و خلق الاختيار (ارادة الانسان) و هما اللذان يربطان بين الوعى و الماضى و المستقبل. و الوعى مرتبط بالماضى عبر الذاكرة و هو مرتبط بالمستقبل عبر الحرية. 
اذن المستقبل مخلوق مكتمل منتهى بالنسبة لله تعالى -لان الله يرى كل الازمان دفعة واحدة- و رغم هذا نحن نسعى نحوه يملؤنا الامل وندعو الله سبحانه و تعالى ان يوفقنا في سعينا نحوه. 
والفيزياء عبر السببية (الميكانيك الكمومى) تؤكد ان المستقبل فعلا احتمالى اما هذا او هذا. 
لكن الميكانيك الكمومى يؤكد ان الماضى هو ايضا احتمالى اى ان التاريخ و الذاكرة غير يقينيان. 
اذن اعتقاد الوعى ان الماضى و التاريخ -عكس المستقبل- هما مخلوقان مكتملان منتهيان بالنسبة للانسان هو اعتقاد ليس له اى تدليل لا فيزيائى و لا ميتافيزيقى. الشيء الوحيد المؤكد ان الماضى و التاريخ -مثل المستقبل- هى مخلوقات مكتملة منتهية بالنسبة لله سبحانه و تعالى لكنها بالنسبة للانسان تبقى مخلوقات محتملة يمكن ان يؤثر و يغير فيها الله و يمكن للانسان ان يسعى نحوها بارادته و حريته و ذاكرته. 
اذن الوعى متميز جدا (ولهذا يقرن الله الارض بالسماوات فى القرآن الكريم رغم عظمة خلق الكون).
فخلق الوعى ليس اقل عظمة من خلق الكون رغم هول الكون (اقرأوا النسبية العامة و الثقوب السوداء و الكسومولوجيا تجدون شيء عظيم فعلا يعجز عن وصفه اللسان). 
اذن الوعى -لانه مخلوق فى الزمن- فانه سوف يسعى نحو المستقبل بحريته (و ارادته و اختياره) لكنه سيسعى ايضا نحو الماضى بذاكرته. الاختلاف بين الذاكرة و الحرية مثل الاختلاف بين الماضى و المستقبل. 
اذن هو خلاف منظوريانى (من وجهة نظر الوعى) ليس جوهرى. 
اذن الذاكرة هى مناظرة (وليس نظير) الارادة مثلما ان الماضى هو مناظر المستقبل. و لان الله خارج الزمن (او بالاحرى لا خارج و لا داخل الزمن) فان الله يمكنه ان يؤثر على الجميع ليس عبر السببية بل عبر التزامن (وهذا موضوع آخر قد تكلمنا عنه باستفاضة منذ سنة). 
ولان الجميع يعترف (ان حرية الانسان ازاء المستقبل هى نسبية مقيدة) فانه يجب التسليم بان (ذاكرة الانسان ازاء الماضى هى ايضا نسبية مقيدة) و اذا كان الله يمكنه التأثير على المستقبل (ليس واضحا كيف) فهو يجب ان يكون له ايضا القدرة على تغيير الماضى. 
وهذه النتيجة هى عكس كل نتائج (علم الكلام) بجميع مدارسه. 

 قط شرودينغر و الثالث المرفوع: المنطق الكمومى 

لو كان القط جملة كلاسيكية فهو سيكون اما حيا او ميتا لا يوجد شيء آخر. 
اذن القضية (قط شرودينغر حى) يُعبر عنها فى المنطق الكلاسيكى يُعبر عنها بمجموعة فى فضاء الطور الكلاسيكى تمثل كل نقطة من هذه المجموعة حالة يكون فيها القط حيا.
(و المنطق الكلاسيكى هو منطق ارسطو الى غاية المنطق الرياضى الحديث وهو مبنى جميعه على الميكانيك الكلاسيكى و ليس العكس اى ان المنطق مبنى على الميكانيك و ليس ان الميكانيك هو المبنى على المنطق).
 اذن هذه القضية (قط شرودينغر حى) يُعبر عنها بمجموعة فى فضاء الطور الكلاسيكى تمثل كل نقطة من هذه المجموعة حالة يكون فيها القط حيا.
 بالمثل (قط شرودينغر ميت) يُعبر عنها بمجموعة فى فضاء الطور تمثل كل نقطة من هذه المجموعة حالة يكون فيها القط ميتا.
 الميكانيك الكلاسيكى يسمى ميكانيك عقلانى لانه بكل بساطة المجموعة (قط شرودينغر حى) هى مجموعة متممة او مكملة للمجموعة (قط شرودينغر ميت) و العكس بداهة ايضا صحيح. 
ومفهوم (المجموعة المتممة) يعنى بكل بساطة ان اتحاد المجموعتان (قط شرودينغر حى) و (قط شرودينغر ميت) يعطى فضاء الطور باكمله دون ان تنقص منه نقطة واحدة. 
اذن هذا هو مبدأ (الثالث المرفوع) او مبدأ عدم التناقض (اما هذا او هذا) لا يوجد شيء آخر. 
رياضيا نكتب هذه النتيجة كما فى الصورة. 







اذا كانت x قضية معينة مثلا (قط شرودينغر حى) و كان y هو نفى NOT هذه القضية اى (قط شرودينغر ميت) فان القضية (x أو y) تساوى واحد اى تقابل فضاء الطور باكمله وهذا هو مبدأ الثالث المرفوع. 
تذكروا ان ان الرابط المنطقى (أو) الذى هو (OR) هو الاتحاد بين المجوعات (مجموعات فضاء الطور) فى المنطق و الميكانيك الكلاسيكى. 
بالمثل فان القضية (x و y) تساوى صفر اى دائما خاطئة وهذا هو مبدأ عدم اجتماع النقيضين. تذكروا هنا ايضا ان الرابط المنطقى (و) الذى هو (AND) هو التقاطع بين المجموعات فى الميكانيك و المنطق الكلاسيكيان. 
شرودنيغر و غيره من آباء الميكانيك الكمومى (وبخاصة فون نيومان فلا يوجد من فهم الامر مثله حتى جاء بال)  فهموا الامر جيدا فالقط ليس كلاسيكيا بل هو جملة كمومية. اذن حالة الجملة (هى هنا القط) تصبح نقطة فى فضاء هيلبرت و ليست نقطة فى فضاء الطور. 
هذا يعنى ان القضية (قط شرودينغر حى) يعبر عنها حقيقة بفضاء هيلبرت جزئى و القضية (قط شرزدينغر ميت) يعبر عنها هى الاخرى بفضاء هيلبرت جزئى آخر لكن هناك عدد لانهائى آخر من الفضاءات الجزئية لهيلبرت. 
القضية (قط شرودينغر حى) هى نفى القضية (قط شرودينغر ميت) لكن هناك اشياء اخرى كثيرة بينهما (ليس مثل الميكانيك الكلاسيكى حيث يعطى النفى بالمجموعة المتممة هنا فى الميكانيك الكمومى فان النفى يعطى بفضاء هيلبرت الجزئى العمودى). 
هذا يعنى ان هناك عدد لانهائى من الحالات (حالات القط) التى يكون فيها القط لا هو حى و لا هو ميت. هل هذا يعنى سقوط (مبدأ الثالث المرفوع) و (مبدأ عدم التناقض)? هذا ليس صحيحا. 
فهذا امر تتبعه فون نيومان و اكتشف ان الذى يسقط هو خاصية التوزيع بين الروابط المنطقة (أو OR) و (و AND) حيث تحافظ ال (AND) فى الميكانيك الكمومى على معناها اى التقاطع اما (OR) فهى تصبح تعطى بالجمع المباشر بين فضاءات هيلربت الجزئية (وليس الاتحاد كما فى الميكانيك االكلاسيكى لان اتحاد فضائين لهيلبرت جزئيين يلا يعطى فضاء هيلربت جزئى اما الجمع المباشر فيعطى). 
اذن انطلاقا من هذه الروابط المنطقية و انطلاقا من طبيعة القضايا الكمومية التى هى نقاط فى فضاءات هيلبرت الجزئية و ليس فى مجموعات جزئية من فضاء الطور فانه يمكن بناء منطق جديد (يسمى المنطقى الكمومى) لا تكون فيه خاصية عدم التوزيع خاصية اوتوماتيكية وتعوضها خاصية ليست فى نفس القوة لكن قوية جدا تعرف باسم القانون المودولار. 
اما بخصوص (مبدأ الثالث المرفوع) و (مبدأ عدم التناقض) فهما يبقيان صحيحان (لكن فى اطار و نسق هذا المنطق الكمومى بكل السينتاكس و السيمانتيكس الخاصة به) وهذا كما هو مبين فى المعادلة فى الصورة. 
لا يوجد شيء غير عقلى هنا بل هذا امر عقلى بامتياز بعد ان نكتب قواعد هذا المنطق الكمومى صراحة. 
ف (القط حى) و (القط ميت) هى حالات كلاسيكية غير موجودة بالاساس قبل القياس و فعل الرصد (وهذه هى مبرهنة بال) فاذن وجود هذه الحالات (او غيرها من الحالات) هو وجود كمونى حتى نقوم بالقياس و كأن هذه الحالات تعيش فى (برزخ) بين الوجود و العدم وهى ستبقى فى ذلك البرزخ مادامت الجملة تخضغ للتطور الاحادى فى الزمن المعطى بمعادلة شرودينغر لكن عندما يتدخل الراصد بفعل القياس فان بعض هذه الحالات تنحرف نحو العدم ويعضها ينحرف نحو الوجود (وهذا ما نسميه انهيار دالة الموجة. 
فالانهيار هو انهيار لهذا البرزخ فعلا). 
وهذه هى القصة. 
فالميكانيك الكمومى عقلانى 100 بالمائة عليك ان تعرف فقط ماهو العقل الذى يستخدمه. 
فهو لا يستخدم عقل ارسطو و الفلاسفة الكلاسيكيين بل هو يستخدم عقل الطبيعة و المثير جدا للاعجاب (بالاضافة الى اعجابنا العميق بالميكانيك الكمومى) هو ان بعض الفلاسفة استشفوا هذا العقل الطبيعى بحسهم الاستعرافى المرهف و مثالهم صاحب فكرة (البرزخ) نفسها التى تعنى بكل بساطة ان فى كل (ثنائية) هناك مجال وجودى ضخم بين عنصرى الثنائية المتناقضين كلاسيكيا وذلك المجال هو ما يهمله الفلاسفة و الفيزيائيون النظريون فى اغلبيتهم الساحقة. 

 زينون مرة اخرى 

 زينون قال ان اخيل عليه ان يقطع عدد مالانهائى من الامكنة قبل ان يلحق بالسلحفاة وهذا يستحيل فى زمن منتهى. 
ارسطو قال ان خطأ زينون الاساسى هو افتراضه ان اخيل يجب عليه ان يقطع عدد مالانهائى مكتمل او متحقق من الامكنة وهذا غير صحيح بل الصحيح ان اخيل ليس أمامه الا عدد مالانهائى كامن من الامكنة التى يجب عليه ان يقطعها فى زمن منتهى حتى يلتحق بالسلحفاة وهذا ممكن جدا. 
الفلاسفة قبلوا حل ارسطو و رفضوا تناقض زينون لأكثر من 2000 عام حتى جاءت الرياضيات الحديثة. 
الحل المعيارى الآن هو الادعاء بأن كل من زينون و ارسطو كانا مخطئين و ان الحل هو ما يعطيه التحليل الرياضى مع الميكانيك الكلاسيكى. 
شخصيا اقول ان زينون محق اذا كانت المالانهاية المتحققة موجودة و ان الحل هو ما اعطاه ارسطو فعلا اما التحليل و الميكانيك فهى مجموعة من العمليات الرياضية الجامدة التى تحتاج الى تفسير ميتافيزيقى و ليست هى ابدا حل فى نفسها. 
فكأن زينون نظر الي المعضلة و كأنها سلسلة (وهى فعلا سلسلة او متتالية هندسية) و ظن ان المتتالية يجب ان تتباعد (فهى تحتوى على عدد مالانهائى مكتمل من الحدود). اما ارسطو فهو نظر الى الفيزياء التى تنحى بيقين عكس هذه النتيجة و رأى اذن ان هذه المتتالية يجب ان تقترب قطعا بشكل او بآخر (وهى فعلا تقترب). 
 اذن نحن لا نحتاج الى الوصول الى المالانهاية المتحققة او المكتملة حنى نرى ان اخيل سيسبق السلحفاة فى وقت منتهى بل يجب فقط ان نقارب (اى نقترب دون ان نلمس مثلما نقترب من الافق فلا نجده شيئا) من هذه المالانهاية و هذه هى المالانهاية الكامنة. 




 قصة كانتور مع المالانهاية

 "المجموعة هى متعددة Many تسمح لنفسها بأن نفكر فيها و كأنها واحدة One". جورج كانتور 
و جورج كانتور Georg Cantor هو رياضى المانى (لماذا أغلبهم ألمان يا ترى?) وهو الأب الحقيقى (قبل حتى فرجى Frege و راسل Russell لكن بعد ديديكند Dedekind) لنظرية المجموعات set theory الحديثة التى هى اساس المنطق الرياضى و المنطق الفلسفى و الرياضيات الاساسية وبالتالى اساس الفيزياء و العلوم. 
و كانتور هو أب المالانهاية المتحققة التى تعترف بها الرياضيات الحديثة (عكس أرسطو و من تابعه) و المالانهاية المتحققة هى اساس المالانهاية الكامنة. 
والمالانهاية المتحققة actual او المكتملة completed هى المالانهاية الموجودة خارج الزمن. 
مثلا مجموعة الاعداد الطبيعية و عدد النقاط على الخط و مجموعة الاعداد الحقيقية فهذه مجموعات مالانهائية بغض النظر عن عملية العد (عد عناصر هذه المجموعات) الذى هو عملية فيزيائية فى الزمن. 
اما المالانهاية الكامنة potential فهى التى نضطر فيها الى العد فى الزمن. مثلا السلسة الحسابية او الهندسية او اى سلسلة هى مالانهاية كامنة لاننا كل ما نحتاج اليه هو العد الى حد معين و اذا احتجنا الى حدود اضافية نقوم بالعد الاضافى و هكذا فى الزمن. 
هناك ايضا المالانهاية المتسامية transcendental وهذه خارج مجال الفيزياء و الرياضيات و داخل مجال الميتافيزيقا و الفلسفة.
 و كانتور هو أب الاعداد العابرة-للمالانهاية transfinite numbers وهى أصلية cardinal الاعداد الطبيعية ألف-0 و اصلية الاعداد الحقيقية ألف-1 و هكذا الى مالانهاية. 
و حسب كوين Quine (وهو من دعاة الحدسية فى الرياضيات) نحن لن نحتاج الا ألف-0 و ألف-1 و بقية المالانهايات كلها غير ضرورية و عددها هى الاخرى مالانهائى. 
 لكن هذا رأى الاقلية اما الاغلبية فهى تحتاج الى كل المالانهايات. 
و كما قال هيلبرت (لن يردعنا احد عن دخول هذه الجنة). 
ومما برهن عليه كانتور ان كل أصلية لديها اصلية أكبر منها اى ان كل عدد مالانهائى لديه عدد ما لانهائى اكبر منه (مثلا ألف-1 اكبر من ألف-0 حيث يعتقد انه لا يوجد اى مالانهاية بينهما و هذا يعرف بتخمينية الاستمرار continuum conjecture) و رغم هذا فانه لا يوجد لمجموعة كل الاصليات أصلية (وهذا يُعرف بمتناقضة كانتور). 
اى ان مجموعة الاصليات ليس لها مقياس وهذا غير مقبول البتة و لهذا فهى متناقضة خطيرة جدا قضت مضاجع كانتور. 
ومتناقضة كانتور (والتى اخطر منها فيما بعد متناقضة راسل التى عندما اكتشفها راسل قال "انتهى شهر عسلى مع المنطق المبنى على المجموعات!!") هى التى ادت الى نظام زيرميلو Zermelo و فراينكل Fraenkel للمجموعات الذى يعتبره الرياضيون أنه قد حل بالكامل معضلة الرياضيات الاساسية و نظرية المجموعات القائمة عليها (مع بعض التحفظات مثل بديهية الاختيار axiom of choice ). 
 و قد دخل كانتور مستشفى الامراض العقلية مرات عديدة فى حياته و توفى فى الاخير فى احدها فقيرا معدما يتوسل زوجته ان تتركه يرجع الى المنزل لكن لم تفعل و مات بسكتة قلبية عام 1917 عن عمر يناهز ال 72 عاما. 
و كان سبب امراضه النفسية قد انجر بشكل جزئى من عمله على اسس الرياضيات و على المالانهاية و هجوم الجميع من الزملاء و رجال الدين عليه على السواء و ايضا الى سوء الحظ الشخصى فقد توفى ولده الصغير قبله بسنوات قليلة كل ذلك جعله يتشكك فى المالانهاية المتسامية (اى الله) رغم انه اثبت المالانهاية المتحققة فى العالم الافلاطونى للمثل الرياضية ان لم يكن فى العالم المادى الفيزيائى. 
 اذن العلم جميل جدا (خاصة الفيزياء و الرياضيات) لكن بعضه قد يكون خطير جدا على النفس و الايمان. فاحذروا اين و كيف تضعوا اقدامكم لئلا تزلوا و تزهق امالكم و احلامكم. 

 ليبنيز و ابن عربى فى منشور واحد مع المالانهاية و الجبر 

 لو كان لدينا عدد معين من السلات و فى كل سلة على الاقل كرة واحد و طُلب منا ان نختار من كل سلة على الاقل كرة واحدة فاننا سنقوم بذلك بدون ادنى صعوبة. هذه الملاحظة من ابده البديهيات (اذا صح التعبير) و لا احد ابدا ينازع فى ذلك. 
رياضيا نقول انه اذا كان لدينا مجموعة M مشكلة من عدد منتهى من المجموعات غير-الفارغة A فاننا يمكن ان نختار من كل مجموعة A عنصر f(A) هو نفسه فى A. الدالة f (وهى دالة) تسمى دالة الاختيار و هى دالة من M فى UM التى هى مجموعة الجداء الديكارتى لكل المجموعات الجزئية المشكلة ل M. 
 الدالة f تعرف ما يسمى تغطية covering للمجموعة M و عدد هذه التغطيات يساوى جداء اصليات cardinals المجموعات الجزئية المشكلة ل M. 
اذن هذه البديهية بديهية جدا (يمكننا ا نختار من كل سلة على الاقل عنصر واحد اذا كان هناك عدد محدود من السلات و كل السلات غير-فارغة). 
لكن هذه البداهة تنهار تماما اذا كانت عدد السلات (اى المجموعة M) لا نهائية. 
فى هذه الحالة فان التعريف الرياضى الذى ذكرناه آنفا يصبح فرضية فقط تسمى بديهية الاختيار axiom of choice (لكنها حقيقة ليست بديهية بل هى فرضية) واول من أعلن صراحة عن هذه البديهية فى البراهين الرياضية زيرميلو Zermelo عام 1904. انظروا النص الذى هو تعريف زيرميلو الشخصى فى الصورة. 



قبل ذلك كانت هذه البديهية تستعمل ضمنا فى البراهين الرياضية و هى ليست بديهية على الاطلاق فلا احد يعرف لحد اليوم البرهان على هذه الفرضية انطلاقا من باقى البديهيات (التى هى بديهيات فعلا) لنظام زيرميلو و فراينكل Fraenkel. 
اذن اذا كان هناك عدد لانهائى من السلات غير-الفارغة فانه لا يمكن ان تختار من كل سلة كرة واحدة لانه لا توجد تغطية او بالاحرى لا توجد دالة f من المجموعة M الى الجداء الديكارتى UM. 
لكن الذى يحدث اننا نفترض هذا الامر صحيح و نعمل وهذا ما يفعله الرياضيون. وقديما الفيلسوف الوحيد الذى انتبه الى علاقة المالانهاية بحرية الاختيار هو ليبنيز الذى بنى كل نظريته التواؤمية compatibilism فى الجبر و الاخيتار على وجود المالانهاية (انظروا منشورات قديمة لى حول الموضوع). 
والتواؤمية هو تواؤم بين الجبر (علم اللله الازلى او حتمية الطبيعة) و بين المسؤولية (المسؤولية الاخلاقية للانسان التى يجدها فى فطرته قبل المسؤولية الطبيعية و الدينية و القانونية). 
فالعبقرى ليبنيز قال ان فعل الانسان هو مثل السلسلة الرياضية (مثل المتتالية الحسابية او الهندسية مثلا لكن سلسلة معقدة جدا غير معروفة الحدود قبل الحساب). فالانسان هو مجموعة من الحدود المنتهية فى هذه السلسلة و كل فعل هو حد اضافى لا يعلمه الانسان قبل فعله الا بعد ان يختار و يعمل الفعل (اى يحسب الحد الموالى من السلسلة). 
لكن هناك استثناءان. احدهما ذكره ليبنيز وهو ان الله يرى حدود السلسة جميعها مرة واحدة و لهذا فهو يعلم فعل الانسان دون ان يجبره (فالانسان حر فى الحدود التى يحسبها لكنها مجبور من ناحية انه لا يعلم المالانهاية اى لا يرى السلسة كما يراها الله مباشرة). 
الاستثناء الثانى اضيفه بناءا على افكار ابن عربى. فالانسان الكامل هو ايضا حر ليس لانه يرى المالانهاية (فهذا مجال الله) بل لانه لا يحتاج الى حساب الحدود الموالية لانه يعرف القانون الذى يعطى جميع الحدود الموالية مهما كانت تلك الحدود بعيدة عن نهايته و قريبة من لانهاية الله سبحانه و تعالى. 
وهذا فهمى شخصى للعبقريان ليبنيز و ابن عربى و للمالانهاية و حرية الارادة فى منشور واحد. 

 علاقة فلسفة الفيزياء بانطومينيات كانط

قرر كانط ان اربعة قضايا (يسميها انطومينيات مفرد انطومينية) لا تقبل اى حل لا بالايجاب و لا السلب فى اطار الفلسفة (اى فلسفة) وهى: 
-حقيقة الذرة. 
-حقيقة الفضاء-زمن. 
-حقيقة الارادة الحرة. 
-حقيقة الصانع. 
وحتى لا يستعجل علينا البعض فان كانط يعتبر ان هذه القضايا الاربعة هى اساس كل الفلسفة قديما و حديثا. 
اذن هى ليست قضايا اختيارية بل هى قضايا اختزالية. 
لكن كانط ايضا يفرق تماما بين الظواهر و بين البواطن. وهو ينفى امكانية حل القضايا اعلاه من ناحية البواطن اى انه يقرر بشكل غير مباشر ضرورة فصل الميتافيزيقا و علم الكلام عن العلم و الفيزياء. 
وهذا الفشل او الافشال الكلامى الفظيع قد وصل اليه فى الاسلام الغزالى بصوفيته و ابن تيمية بسلفيته. 
لكن كانط حجة عليهما و على جميع الفلاسفة باستثناء ارسطو و هيوم وهو يؤكد ان البواطن او النومينا nomena (الذرة, الفضاء-زمن, حرية الارادة و الصانع) لا يمكن ابدا ان تكون موضوعا للمعرفة لانه لا يمكن ابدا تحقيق المعرفة الصحيحة المبررة فى اى منها. 
اذن علينا ان نقبل هذه النتيجة الفلسفية التى تقبل بها الفلسفة التحليلية بطرق مختلفة بدرجات مختلفة باشكال مختلفة وتحويل النقاش الميتافيزيقى نحو الفيزياء و تقييده بنتائج العلم فقط. 
لكن كانط حجة فعلا فهو يميز بين البواطن او الاشياء-فى-ذاتها و بين الظواهر. والظواهر او الفينومينا هى مجال الفيزياء. 
 وكل فلسفة كانط هى محاولة الدفاع عن الميكانيك الكلاسيكى ضد تشكيك هيوم و حماية الميكانيك الكلاسيكى من الميتافيزيقا الكلامية التى لا يمكن ان تكون موضوعا للمعرفة. 
وطريقة كانط الاساسية فى الحجاج و التحليل هى ليست طريقة عقلية و لا هى طريقة حسية بل هى توليف بينهما فيما يسمى الطريقة المتسامية transcendental التى تتمحور حول محاولة الفصل المثالى بين الموضوع object (الجملة الفيزيائية مثلا) و الدارس subject (الراصد مثلا). 
اذن كانط يرى ان النومينا ليست موضوعا للمعرفة لكنه يقرر (عكس تشكيك هيوم) ان الفينومينا هى موضوعا للمعرفة بل هى الموضوع الحقيقى الوحيد للمعرفة. 
اذن انطومينيات كانط الاساسية الاربعة التى تريد اخضاع النومينا او البواطن للاستعراف يجب ان تعوض بمحاور فلسفة الفيزياء الاساسية الاربعة التى لا تريد الا اخضاع الظواهر للاستعراف اخضاعا فيزيائيا و ميتافيزيقيا وهنا الميتافيزيقا هى ميتافيزيقا الظواهر وهى ميتافيزيقا تجريبية و رياضية مقيدة بالرياضيات و التجربة. هذه الميتافيزيقا الظواهرية للفيزياء (عكس الميتافيزيقا البواطنية للكلام) تلعب بالنسبة اليها الرياضيات و التجربة دور النص الذى نريد تفسيره و تأويله. 
اذن انطومينيات البواطن لكانط يتم تعويضها بفلسفات الفيزياء الاربعة:
 -انطومينية الذرة تعوض بفلسفة الكمومى. 
-انطومنية الفضاء-زمن تعوض بفلسفة الزمن. 
-انطومينية حرية الارادة تعوض بفسلفة الوعى. 
-انطومينية الصانع تعوض بفلسفة الكون. 
وهذه الفلسفات الفيزيائية الاربعة ستتعامل مع ميتافيزيقا الظواهر المقيدة بالرياضيات و التجربة و كل ما ستقدمه هى تفسير عبارة عن استنباط لماهية الواقع (اذن محاولة الوصول الى البواطن) حسب ما نجده فى الظواهر و الرياضيات و التجربة. 
المؤكد اننا لن نصل ابدا الى البواطن حسب التحليل النقدى العقلى المحض الذى قدمه كانط و ان طريقته المتسامية هى افضل فى محاولة استعراف الاشياء-فى-ذاتها انطلاقا من الظواهر. 
 لكن اؤكد هنا ان طريقة فلسفة الفيزياء هى افضل من طريقة كانط نفسه لانها تعتمد على الرياضيات و التجربة للانطلاق من الظواهر للوصول الى بواطن الظواهر (وهذا مؤكد انها ستنجح فيه) لكن ايضا محاولة الوصول الى ظواهر البواطن (وهذا يحتمل ان تنجح فيه فلسفة لفيزياء افضل من طريقة كانط) لكن ايضا فان فلسفة الفيزياء تريد ان تصل الى بواطن البواطن (ولها الحق فى المحاولة فمن هم اقل منها قوة و ذكاءا بكثير -مثلا الكلام- قد حاول فلم لا تحاول فلسفة الفيزياء). 
واذا كانت كل فلسفة كانط هى محاولة الدفاع عن الميكانيك الكلاسيكى ضد التشكيك الهيومى و ضد الميتافيزقيا غير الصحيحة و غير المبررة فان كل فلسفة الفيزياء يجب النظر اليها على انها محاولة دفاع الفلسفة الحديثة عن الفيزياء ضد التشكيك الهيومى الذى مازال لم يتم الرد عليه و ضد التلويث الميتافيزيقى الذى مازال هو الآخر قائما. وهذا فهم آخر شخصى جدا جدا لفسلفة الفيزياء اعرضه هنا حتى اشجع الناس على محاولة الصبر على صعوبتى الفيزياء النظرية و الفلسفة التحليلية اللذين اجتمعا فى فلسفة الفيزياء. 

 بين العلم و الفيزياء و فلسفة الفيزياء و الفلسفة 

اذن هناك الظواهر و هناك البواطن.
 أحقق الأمر اكثر و اقول: 
-هناك (ظواهر الظواهر) وهو مجال (العلم) و موضوعه (الطبيعة). 
-هناك (بواطن الظواهر) و هو مجال (الفيزياء) وموضوعه (نظرية كل شيء).
-هناك (ظواهر البواطن) وهو مجال (فلسفة الفيزياء) وموضوعه (نظرية كل عين). -هناك (بواطن البواطن) وهو مجال (الفلسفة) وموضوعه (الواقع). 
وخير الامور اوسطها. 
لهذا فان العلم سطحى فى التفسير اما الفلسفة فطموحها اكبر منها و لا تصل الى اى نتائج حاسمة وهذا ما يعرف بفضيحة الفلسفة كما سماها هيوم (وهو اعظم فيلسوف بعد ارسطو). 
أما (الدين) فهو نوع من الفلسفة او هى معرفة منافسة للفلسفة لأن مجاله هو ايضا (بواطن البواطن) و موضوعه (الواقع). 
لكننا ملتزمون بعدم التعليق على اى من القضايا الدينية هنا. 
نأخذ مثال على شكل سؤال (هل الوعى-وعى الراصد- هو الذى يتسبب فى انهيار دالة موجة العالم?) 
أما العلم الذى يعنى بظواهر الظواهر اى بالطبيعة فيقول لا وجود للوعى اصلا (وهذا يقوله صراحة دانيال دنات Daniel Dennette اعظم علماء الاستعراف و الوعى الوظائفيين الحاسوبيين فى هذا العصر). 
 وكما ترون فهذا جواب سطحى. 
اما الفيزياء التى تعنى ببواطن الظواهر اى بنظرية كل شيء فتقول لا يمكن للوعى ان يؤدى الى انهيار دالة الموجة. بل الذى يؤدى الى انهيار دالة الموجة هو الديكوهيرانس decoherence. 
وهذا جواب (الجزء الثانى الخاص بالديكوهيرانس اما الجزء الاول فجواب مقبول) افضل لكنه غير صحيح و هو احد خرافات الفيزياء المنتشرة بين علماء الفيزياء انفسهم. 
الديكوهيرانس -او فقدان التلاؤم- هو ظاهرة طبيعية لا خلاف فيها نجحت فى تفسير كيفية انبعاث العالم الكلاسيكى من الفيزياء الكمومية للجسيمات الاولية. اى لماذا نرى كل شيء حولنا كلاسيكى رغم ان العالم كمومى اساس. 
اما انهيار دالة الموجة بسبب فعل الرصد الذى يقوم به الملاحظ فهذا شيء يبقى مجهول. 
لكن المؤكد ان الفيزياء بالاجماع تقريبا تقول ان الوعى لا يتسبب فى الانهيار و اذهبوا ابحثوا عن سبب آخر. وهذا معقول جدا لانه اذا كان الوعى هو الذى يتسبب يالانهيار فكأن الراصد اصبح سوبرمان او باتمان او أكسمان وهذا لا يقول به و لا يقبله احد. 
اما فلسفة الفيزياء التى تبحث فى ظواهر البواطن و فى نظرية كل عين فهى تحاول ان تقدم تفسيرا فيزيائيا (كلاسيكى او كمومى) للوعى منه تنطلق لتفسير عملية الرصد. 
المؤكد ان الوعى هو جملة فيزيائية وانه اذا كان فعلا كذلك فهو يتفاعل بشكل ما مع العالم الذى هو الآخر جملة فيزيائية و اذا لم نعرف بالضبط ماهية الوعى كجملة فيزيائية و ماهية تفاعله مع العالم الفيزيائى كيف يمكننا ان نجيب عن دور الوعى فى عملية الرصد. 
اذن فلسفة الفيزياء تبقى جميع الابواب مفتوحة لكن بطريقة علمية و فلسفية متزنة و متوازنة وهى تقر انها لا تعرف الاجابة. 
اما الفلسفة التى تبحث فى بواطن البواطن و فى الواقع فانها تعتقد انها تفهم الوعى فهو اما مادى (وهذا هو الرأى السائد اليوم فى الفلسفة و العلم و الفيزياء) او انه سبينوزى مونيزم محايد او انه ديكارتى ثنائى او او مع خلافات شديدة بين الآراء تجعلنا متشككين جدا من فهمهم فعلا للوعى. 
واذا كانت الفلسفة خلافية فى الوعى فهى خلافية اكثر فى العالم نفسه فهم لا يعرفون حتى اليوم كيف يبرهنون على وجود العالم ضد تشكيك هيوم و اذا كانوا لا يعرفون البرهان على وجود العالم كيف يمكنهم ان يقفزوا الى الكلام على صانع العالم (وهو يفعلون) فهذا اغرب الغريب. 
فلسفة الفيزياء احكم و اسلم فهى لم تقع فى تسطيحات العلم و لا فى غرور الفلسفة وهى تعلم ان العالم موجود لان الفيزياء تعتمد على الرصد و نحن نرصده و هى فى نفس الوقت لا تهتم بما وراء العالم و صانع العالم و ماذا كان قبل العالم لان كل هذه الاسئلة هى من صميم الفلسفة و من صميم بواطن البواطن و هذا لا تهتم به فلسفة الفيزياء.
 اذن حتى ارجع الى السؤال (هل الوعى يتسبب فى انهيار دالة الموجة) فان الجواب الذى تعطيه الفيزياء (لا) لأن الوعى مادى متأثرة فى ذلك بالتيار الفلسفى العام اما الجواب الذى تعطيه فلسفة الفيزياء فهو (لا ندرى) لاننا لا نعرف ماهية الوعى و ربما معضلة الرصد ستكون هى المدخل الى فهم جديد للوعى. 
اما ان الوعى يتسبب فى انهيار دالة الموجة (دون اى تنظير رياضى و فيزيائى و عصبونى و فلسفى) و كأننا فى فيلم من افلام الأكسمان او الافنجارز فهذا من الترهات الشعبية -التى تعجب العوام- التى لا اساس لها من الصحة. 

 الانسان عمره 14 مليار سنة 

 قبل ان تهيمن نظرية الانفجار الاكبر على الكوسمولوجيا و الفيزياء النظرية فان النظرية المسماة (كون الحالة المستقرة) كانت هى النظرية الطاغية بين علماء الفيزياء و الفيزياء النظرية و الكوسمولوجيا.
 بكل بساطة السبب يرجع الى ان نظرية (كون الحالة المستقرة steady state universe) تنص مما تنص عليه على ان الكون قديم و العلماء يميلون ميتافيزيقيا فى مجملهم الى القدم.
 اما (نظرية الانفجار الاكبر big bang theory التى تسمى رسميا النموذج القياسى للكوسمولوجيا standard model of cosmology) فهى تنص على ان الكون عمره محدود يساوى 14 مليار سنة وهذا يفهم حرفيا على ان الكون حادث.
 لكن العلماء لا تحكمهم فى المحصلة الميتافيزيقا بل التجربة و المشاهدة (وهذا افضل شيء فى العلم بالمقارنة مع الفلسفة و الكلام) و التجربة حكمت و بشكل حاسم لصالح الانفجار الاكبر ضد الحالة المستقرة. 
هناك نماذج اخرى ذكية جدا للعالم القديم مثلا نموذج الكون الدورى الكونفورمالى conformal cyclic universe لبنروز Penrose الذى حصل على نوبل فى الفيزياء هذا العام وهو بعمرال 89 سنة وكثير منا بعمر 49 سنة و يشعر ان علاقته بالفيزياء و الرياضيات قد بلغت الى نهايتها. 
شخصيا اننى مع العالم الحادث ميتافيزيقيا (الفهم الحرفى لنص الطحاوي الذى هو خلاصة وجودية السلف) لكننى متقيد بالتجربة و المشاهدة ايضا و التجربة و المشاهدة لحسن حظنا فى هذه الحالة تذهب باتجاه الحدوث لكننى ايضا لا استبعد الامكانية الاخرى خاصة ان نموذج الانفجار الاكبر يتميز بالمفردة singularity التى هى نقطة رياضية ينتهى فيها الفضاء-زمن اذن وضوحا هى معضلة فى الفيزياء (الفيزياء لا تحب المالانهاية) ربما فهمها فى الاخير قد يؤدى الى تغيير المفاهيم بشكل جذرى. 
بكل صراحة فان الصراع بين الحدوث و القدم الواقع فى الكلام هو مضيعة للوقت لان هذا الصراع فى العلم محسوم بالتجربة و المشاهدة الذى يلتزم به الجميع وفى نفس الوقت دون اى تقييد مطلق للفكر. 
الانفجار الاكبر محسوم طرفه بالمقارنة مع كون الحالة المستقرة بكثير من الظواهر الفيزيائية اولها كان تصرف الكوازارات quasars و ثانيها كان اشعاع الخلفية الميكروى الكونى cosmic microwave background radiation اللذان يؤكدان (التأكيد العلمى) نظرية الانفجار الاكبر و يكذبان (التكذيب العلمى) نظرية الحالة المستقرة. اليوم لا يهمنى كثيرا قدم او حدوث العالم.
 لكن يهمنى قدم او حدوث الانسان وهى ملاحظة جديدة. 
اهم النتائج الاخرى لنموذج (كون الحالة المستقرة) ان المادة يجب ان تتخلق فيه بشكل مستمر حتى يحافظ الكون على شكله (وهذا هو الاستقرار) ضد عملية التوسع المستمر. 
اما (نظرية الانفجار الاكبر) فهى تنص على ان جميع المادة الموجودة فى الكون تخلقت مرة واحدة فى البداية عند الانفجار الاكبر. 
مرة اخرى التجربة و المشاهدة تؤكدان على الدقة المذهلة لتوقعات كون الانفجار الاكبر و تكذبان بشكل اكثر اذهالا توقعات كون الحالة المستمرة. 
اذن جميع الجسيمات الاولية المشكلة للكون تخلقت عند الانفجار الاكبر. اى ان جميع الذرات المشكلة للمجرات و النجوم و الانسان تشكلت عند الانفجار الاكبر. اذن اجسامنا تتشكل من ذرات و جسيمات اولية تخلقت عند الانفجار الاكبر ثم سافرت فى هذا الكون و شاركت فى تشكل مجرة درب التبانة ثم شاركت فى تشكل الشمس ثم شاركت فى تشكل الارض ثم شاركت فى ظهور الحياة ثم تطور الانسان و مرت تلك الذرات عبر الاصلاب و الارحام حتى خرجنا نحن الى هذه الدنيا. 
اذن اجسامنا تتشكل من جسيمات اولية عمرها 14 مليار سنة و نحن فقط محطة من محطات سفر تلك الجسيمات. 
والعلم ينص ايضا ان الوعى كما الحياة انبعث هو الآخر من المادة و ان العقل و حرية الارادة هى الاخرى انبعث جميعها من المادة الكونية. اذن اجسامنا تتشكل من جسيمات اولية عمرها 14 مليار سنة. ووعينا و عقلنا و حريتنا انبعثت من تلك الجسيمات الاولية عبر قوى كونية حكمت الكون منذ عهد الانفجار الاكبر. 
اذن نظرية الانفجار الاكبر تنص على حدوث العالم اى نعم لكنها تنص ايضا و بشكل مباشر على ان عمر الانسان هو من عمر الكون و بقاءه من بقاء الكون. 
فنحن سنموت و ترجع ذراتنا الى الارض و بعد موت الشمس فان تلك الجسيمات الاولية قد تشارك مرة اخرى فى تشكل نجم جديد ثم ظهور حياة جديدة يتلوها انبعاث وعى جديد و ربما انسان جديد قد يكون مختلف و قد يكون هو نفسه و سيتواصل هذا التفاعل مرات عديدة اخرى حتى يموت الكون نفسه لو مات. 
اذن نموذج كون الحالة المستقرة ينص على ان الكون قديم بعمر لانهائى و المادة تتخلق فيه باستمرار (حتى نحافظ على الاستقرار ضد التوسع) اى ان الانسان فعلا حادث فيه. 
اما نموذج الانفجار الاكبر فهو ينص على ان الكون حادث متغير بعمر محدود يساوى 14 مليار سنة والمادة تخلقت مرة واحدة عند الانفجار الاكبر اى ان الانسان فيه قديم و باق قدم و بقاء هذا الكون نفسه. 
وهذه هى المفارقة الجديدة التى اضعها بين ايديكم. 

 فرضية المحاكاة فى فيلم (الطابق الثالث عشر) 

 فرضية المحاكاة simulation hypothesis للفيلسوف السويدى-الانجليزى بوستروم Bostrom هى واحدة من اعظم النتائج الفلسفية فى كل التاريخ الانسانى (وهذا رأيى). وهى تنص بكل بساطة ( وهذا بعد التسليم بأشياء معقولة جدا من وجهة نظر الفيزياء الحديثة) على ان احتمال اننا نعيش بداخل محاكاة عددية -اى بداخل عالم افتراضى- هو اعلى بكثير من احتمال ان نكون نحن الكائنات التى تُجرى هذه المحاكايات العددية (اذا كانت موجودة اى هذه المحاكيات و هى موجودة باحتمال عال جدا هى الاخرى). اذن هذه فرضية احتمالية منظوريانية بامتياز وهذا ما يجعلنى اثق فيها و اتحمس لها. هذه المحاكيات تُجريها كائنات عاقلة يجب النظر اليها على انها هى الكائنات الحقيقية و غيرها اى نحن مثلا وهمى افتراضى.
 اذن احتمال ان نكون كائنات افتراضية داخل محاكاة عددية او ما شابهها على حاسوب الكترونى او ما شابهه هو اعلى بكثير من احتمال ان نكون كائنات حقيقية تقوم بهذه المحاكايات على اجهزة حاسوبية من شكل او آخر. هذا هو نص هذه الفرضية باقتضاب. 
لن ادخل الآن فى المسلمات المؤسسة لهذه الفرضية و لا الحسابات المؤدية لهذه النتيجة المذهلة فاننى كنت لخصت كل هذه الامور فى الصائفة الماضية فى عدة منشورات. 
علينا ان ننبه ان فرضية المحاكاة تتضمن من بين ما تتضمنه -من مسلمات- على مسلمة امكانية بناء ذكاء اصطناعى بوعى كامل وهذا ينطوى على مسلمة ان الوعى مادى و ليس مستقل عن المادة لا فى ثنائية (ديكارت و الغزالى) و لا فى احادية (ابن عربى و سبينوزا). 
وهى نقطة الضعف الوحيدة فى فرضية المحاكاة فى رأيى الشخصى. النقطة الاخرى التى اود ان انبه عليها ان فرضية المحاكاة لبوستروم ليست جديدة ابدا فى الفلسفة. فقد سبقها زوانغى الصينى بفرضية الفراشة و افلاطون بفرضية الكهف و الغزالى بجدلية النبى-العقل-الحلم و جدلية الموت-اليقظة-النوم (اذن الموت عند الغزالى اعلى من اليقظة و ليس اسفل من النوم كما يعتقد الجميع). 
وفى العصر الحديث فان الفيلسوف الامريكى الفذ بوتنام Putnam سبق بعشرات السنوات بوستروم فى صياغة فرضية المحاكاة (قبل ان تكون فرضية المحاكاة) فيما يسمى تجربة الدماغ-فى-وعاء brain in a vat التى سنشرحها فى فرصة اخرى ان شاء الله. 
الذى سبق اليه فعلا بوستروم فى فرضية المحاكاة التى نعرفها اليوم هو صياغتها الصياغة المنطقية-الاحتمالية المضبوطة التى تجعلنا نثق فيها كدليل وجودى على ميتافيزيقية الواقع الخيالية التى نص عليها ابن عربى قبل قرون طويلة باتباع طرق ليست (ولن تكون ابدا) متوفرة لدينا (طرق الكشف و غيره). 
فرضية المحاكاة هى ليست نظرية تشكيكية كما يبدو لأول وهلة بل هى نظرية ميتافيزيقية (كما نص على ذلك شالمرز Chalmers الذى ساحاول ان اترجم ان شاء الله فى المستقبل القريب مقاله الرائع ميتافيزيقا المصفوفة Metaphysics of the Matrix). 
و هذه الفرضية هى نظرية ميتافيزقية تحل كثير من المعضلات الوجودية و منها انطومينيات antonomies كانط بالكامل (قبل من قبل و عاند من عاند). 
اليوم سأقوم باعادة شرح هذه الفرضية العميقة فى اطار فيلم خيال علمى. 
أشهر افلام الخيال العلمى التى تستخدم فكرة فرضية المحاكاة هو بلا نزاع فيلم المايتريكس Matrix او المصفوفة (الجزء الاول اما الاجزاء الثانية و الثالثة فهى اجزاء ليست بنفس القوة و لا الجودة). 
المايتريكس هو فيلم خيال علمى ممتاز لكنه ايضا فيلم أكشن ممتاز ستضيع نقطة (فرضية المحاكاة) فى طيات الاكشن الهائل و المبدَع الذى يحتويه. لهذا فاننا لن تناوله هنا كمثال تطبيقى على فرضية المحاكاة. 
هناك فيلم آخر لا يعرفه الكثير رغم انه جيد جدا خرج فى نفس العام (عام 1999) و ترشح ضد المايتريكس فى جوائز الساتورن Saturn Awards لكن خسر وهذا متوقع اذا تذكرنا الشهرة الطاغية التى كانت و لا زالت للمايتريكس. 
لكن هذا الفيلم هو فيلم ادق بكثير بخصوص فرضية المحاكاة و بالتالى فهو افضل بكثير من فيلم المايتريكس بخصوص هذه النقطة رغم انه لا يحتوى على اى اكشن مطلقا. 
هذا الفيلم هو الفيلم الالمانى-الامريكى "الطابق الثالث عشر" The 13th Floor من بطولة ممثلين متوسطى الشهرة لكن أدائهم فى الفيلم كان ممتازا و مُخرجه هو الالمانى جوزف روسناك Joesf Rusnak و مُنتجه هو الالمانى المخرج الهوليودى الشهير رولاند امريخ Roland Emmerich. 
قصة الفيلم مستوحاة من رواية الخيال العلمى "العالم المزيف" Counterfeit World المعروفة ايضا باسم Simulacron-3 لروائى الخيال العلمى الامريكى دانيال غالوى Daniel Galouye التى نُشرت عام 1964. 
فى قصة هذا الفيلم يخترع عالم الذكاء الاصطناعى و العصبونات الامريكى هانون فولر Hannon Fuller واقعا افتراضيا عبارة عن محاكاة عددية لمدينة لوس انجلس عام 1937. 
هذه المحاكاة تُجرى على خوادم servers لحواسيب الكترونية عادية لكنها حواسيب ممتازة supercomputers قوية جدا موجودة فى الطابق الثالث عشر من مبنى الشركة -شركة تكنولوجيا الحواسيب التى يمتلكها هانون فولر- ومن هنا جاء عنوان الفيلم. هذه المحاكاة التى اخترعها هانون فولر تحتوى على ذكاء اصطناعى بوعى كامل و حرية ارادة مكتملة. بمعنى ان جميع الافراد الذين يعيشون بداخل المحاكاة العددية هم افراد لا يتفرقون و لا يفترقون عن الانسان الواعى العادى فى اى شيء.
اذن هذه الكائنات تعى و تفكر و تحب و تأكل و تفرح و تحزن و تموت كأنها الكائنات الحقيقية التى تعيش فى العالم الاعلى التى برمجتها. 
ثم ان البرنامج الذى يتحكم بهذه المحاكاة هو بحيث انه لا يُمكن لأى شخص مُحاكى يعيش بداخل هذه المحاكاة العددية لمدينة لوس انجلس ان يكتشف انه كائن واع محاكى عدديا و ليس كائنا بيولوجيا حقيقيا. 
وهذا البرنامج او الشفرة هو ايضا مكتوب او مُصاغ بحيث ان هناك اسئلة لا يمكن ابدا ان تسألها هذه الكائنات التى تعيش فى المحاكاة.
فى الفيلم هذه الاسئلة التى لا تُسأل ابدا تم تصويرها على عدم رغبة الافراد الافتراضيون فى المحاكاة فى مغادرة لوس انجلس أبدا و الذهاب نحو توسون فى اريزونا مثلا التى تمثل بالنسبة للمحاكاة نهاية العالم. 
 هذه الكائنات غير-البيولوجية التى تملأ هذه المحاكاة هى ايضا كائنات مُبرجمة على ان تكون حرة. اذن لدينا سبعة نتائج اساسية: 
-اولا الكائن الخيالى -اى الذى يعيش داخل المحاكاة- هو مُبرمج على صورة الكائن الحقيقى -الذى برمجه-. كل خالق (مُخترع او مُبرمج) فانه سيخلق (سيخترع او سيبرمج) على صورته. 
-ثانيا اكثر من هذا فان الكائن الخيالى الافتراضى -اى الذى يعيش داخل المحاكاة- هو مُبرمج على صورة كائن حقيقى معين يعيش فعلا فى الواقع . اذن كل كائن افتراضى موجود فى المحاكاة (ويسميه الفيلم الوحدة unit او البرنامج program) هو مبرمج على شكل كائن حقيقى موجود فى الواقع (ويسميه الفيلم المستعمِل user). الكائن الحقيقى البيولوجى بالنسبة للكائن الافتراضى العددى هو مثل العين الثابتة بالنسبة للموجود العينى (فى مصطلحات ابن عربى القوية جدا التى سبر بها ماهية الواقع بالضبط على انها جدلية dichotomy بين الخيال و الوجود). 
- ثالثا الكائن الخيالى هو ذو وعى و وجود مستقلين (من وجهة نظر الصانع) حقيقيين (من وجهة نظره). اذن (انا افكر اذن انا موجود) لديكارت هى الشيء الوحيد المؤكد عند هذا الكائن الافتراضى العددى مثلما انه الشيء الوحيد المؤكد عند الكائن الحقيقى البيولوجى. فما هو اذن الفرق بين الكائن الافتراضى و الكائن الحقيقى و هذه هى نقطة فرضية المحاكاة الاساسية وهى ايضن نقطة الكوجيتو cogito الديكارتى وهى ايضا نقطة الفيلم (الطابق ال 13) التى سيأخذها الى منتهاها كما سترون. 
-رابعا الكائن الخيالى لا يمكن ابدا ان يكتشف انه كائن عددى افتراضى. اذن هو جزء من البرنامج (الطبيعى او الحاسوبى) ان الخيال من منظوريانية العاقل (اصطناعى او بيولوجى) هو الحقيقة. 
 - خامسا الكائن الواعى داخل المحاكاة هو مُبرمج على ان يكون مختارا. وهذا اعمق تعبير على تواؤمية الغزالى و غيره التى عبر عنها ابن عربى بالقول (ان الانسان مجبر على الاختيار). فالانسان الافتراضى هو حر لانه مبرمج على ذلك. لكنه مبرمج اذن هو مجبر!!.
-سادسا الكائن الافتراضى العددى الخيالى لا يمكنه ان يسأل او يتسائل عن اشياء معينة فى عالمه وهذه قاعدة اخرى مبنية فى الشفرة. مثلا فى الفيلم فان الافراد الذين يعيشون فى المحاكاة لا يمكنهم ابدا مغادرة لوس انجلس و اكتشاف العالم الخارجى وهذا لانهم لا يرغبون ابدا فى ذلك (الصرفة) و ليس لانهم عاجزون عن ذلك. حدود او نهاية العالم المُحاكى تقع بالضبط خارج مدينة لوس انجلس. و كل تلك المعرفة التى يمتلكها الانسان داخل المحاكاة عن العالم هى وهم و سراب. 
-سابعا اكثر من هذا فان هناك علاقة مباشرة بين العالم الحقيقى و العالم الافتراضى حيث يمكن تحميل وعى الكائن الحقيقى على جسم الكائن الخيالى مع تعطيل وعى هذا الاخير فى جسم الكائن الحقيقى خلال فترة التحميل او الاستعمال (ولهذا يُسمى الفيلم الكائن الحقيقى بالمستعمِل و الكائن الخيالى بالبرنامج). اذن التحميل هو مثل البرزخ بين العالمين. فترة استعمال جسم الكائن الافتراضى من قبل وعى الكائن الحقيقى تظهر اعراضها لاحقا كفقدان مؤقت للذاكرة خلال ذلك الوقت عند الكائن الافتراضى.
 اذن عملية تحميل الوعى الحقيقى فى المحاكاة العددية على الاجسام الافتراضية هى ما قد يُفسر ماهية النبوة ( لكن علينا ان نفكر اكثر فى هذه النقطة الاخيرة). ولهذا يقول مثلا الغزالى ان عقل النبى خلال لحظة الوحى (وهو الذى يلعب دور الوعى الحقيقى) اعلى من العقل العادى (وهو الذى يلعب دور الوعى الافتراضى). 
وحتى نرجع الى قصة الفيلم (التى هى قطعة من الخيال العلمى تنطوى على حرية فنية و ادبية اكثر) فان العالم هانون فولر لم يكتشف فقط الوعى الاصطناعى الذى ادى به الى اعادة بناء لوس انجلس فى العام 1937 (ولو افتراضيا) ايام كان صبيا يافعا بل هو اكتشف ايضا ان وعيه هو شخصيا و وعى كل شخص آخر على ظهر الارض هو ايضا وعى اصطناعى. 
 اى ان القاعدة الرابعة اعلاه (فى ان لا احد يعيش فى المحاكاة يمكنه ان يكتشف حقيقة الواقع الحقيقية التى هى محاكاة) قد انكسرت او ان فولر قد تمكن من تجاوزها (وهذا لم يُوضح فى الفيلم كيف وقع هذا الامر بالضبط لكنه وقع -و لان هذا خرق لعادة المحاكاة فهذا الاكتشاف من فولر يمكن اعتباره معجزة- وهذا هو المهم وهى نقطة الانطلاق لاحداث الفيلم). 
هذا الاكتشاف من فولر لحقيقة الواقع الذى يعيش فيه سيؤدى به الى التعرض للقتل من قبل من يقوم بالمحاكاة فى العالم الاعلى. 
كل هذا سيتوضح لبطل الفيلم الاساسى دوغلاس هال Douglas Hall -زميل فولر و شريكه فى اختراع اول عالم افتراضى- الذى سيبحث فى سبب قتل صديقه و استاذه و يكتشف هو الآخر ان هذا العالم الذى يعيشان فيه هو ايضا محاكاة مثل العالم الذى اخترعاه بل اكثر من هذا فانه سيتوضح له فى الاخير ان هذا العالم الذي يعيشان فيه هو عالم افتراضى عددى خيالى واحد فقط من بين آلاف العوالم الافتراضية الخيالية الاخرى التى يقوم الانسان البيولوجى الحقيقى فى العالم الاعلى باجراء محاكاتها على حواسيبهم العملاقة. 
الفرق الوحيد ان هذا العالم الافتراضى الذى يعيش فيه هال و فولر هو العالم الوحيد الذى تم فيه اختراع -من قبلهما- عالم افتراضى خاص به و ايضا تم فيه اكتشاف -من قبلهما ايضا- ان العالم الذى يعيشان فيه هو ايضا عالم افتراضى. 
فى الاخير فان البطل دوغلاس هال حتى يتأكد من حقيقة الواقع الذى يعيش فيه فانه سيغادر لوس انجلس باتجاه مدينة توسون (وهذا شيء لم يكن يرغب فيه ابدا من قبل ان تساوره الشكوك لانه ليس مُبرمجا على ذلك كما تنص عليه القاعدة السادسة اعلاه) ليكتشف حدود او نهاية العالم التى هى ليست الا اطار-سلكى wire-frame مثل ذلك الذى يُستعمل فى الغرافيك الحاسوبى computer graphics الذى لا يحتوى على اى شيء الا البنية الهندسية للفضاء الاقليدى ثلاثى الابعاد. 
 ثم تتواصل الاحداث سريعا و عندما يتم تحميل وعى المستعمِل البيولوجى من العالم الحقيقى على جسم دوغلاس هال و تعطيل وعى هذا الاخير فى جسم هذا المستعمِل و بعد ان يُقتل هذا الاخير فان وعيه يموت معه فى عالم المحاكاة الخيالى و يستفيق دوغلاس هال فى جسم مستعمِله فى العالم الحقيقى الذى هو بالنسبة اليه الجنة التى لم يكن يعرف بوجودها و لما عرف بوجودها لم يكن يحلم بالوصول اليها ابدا. 
اذن العالم الحقيقى هى الجنة بالنسبة لافراد العالم الافتراضى اما العالم الافتراضى فهو النار بالنسبة لمن يعرف يقينا انه يعيش فى محاكاة اما الاغلبية من الافراد المحاكين فهم الاغلبية التى ستبقى فى المحاكاة تتعذب دون ان تعى ذلك العذاب (وهذا هو البقاء فى النار و تحول العذاب الى عذوبة على مصطلحات ابن عربى). 
اذن افتراض القدرة على تصنيع ذكاء اصطناعى و بناء محاكاة للواقع يكون فيها الوعى حقيقى لا يمكن ان يتميز عن الوعى البيولوجى سيؤدى بنا الى اكتشاف ان واقعنا نفسه هو محاكاة عددية لآخرين اعلى وجودا منا على حواسيبهم الممتازة. هذه هى فكرة الفيلم (الطابق الثالث عشر). اذن من المحتمل جدا اننا لسنا الا مجموعة من الاصفار و الواحد فى برنامج مُعقد جدا لكائنات اعلى منا حسب نظرية (فرضية المحاكاة) و حسب فيلم (الطابق الثالث عشر). 

 الظُلمة توليفة عجيبة غريبة لنسبية اينشتاين و وجودية نيتشة 

انعدام الوجدان هو الجنة و انعدام الوجود هو الفردوس الاعلى و الظُلمة الابدية هى المقام المحمود والاله هو الدهر و تجلياته هى الأزمان و النار هى التكرار الابدى للجياة وآدم يعتقد ان الذنب ذنبه و حواء لا ترى عيبا فى كل هذ الوجود و ابليس والحرية وهمان فى ذهن الانسان لا وجود لهما فى اى مكان او زمان او عالم. 
هذه هى خلاصة مسلسل الخيال العلمى الالمانى-الامريكى (دارك Dark) اى (ظلمة) الذى انهيت مشاهدته البارحة وهذا حسب فهمى الشخصى جدا المتأثر بأشياء اخرى (دينية و ميتافيزيقية و فيزيائية) ليست فقط ما عُرض فى المسلسل. 
و كما ترون فهى نتيجة مذهلة ترجع بالاساس الى نيتشة الذى يستشهد به المسلسل مرارا و تكرارا. 
الافكار العلمية فى المسلسل كثيرة جدا تتناول بالخصوص فيزياء و فلسفة الزمن و بالخصوص السفر فى الزمن و فلسفة السببية و اسس الميكانيك الكمومى فمثلا تجدون شرح ممتاز لتجربة (قط شرودينغر Schrodinger's cat) فى بداية آخر حلقة لكن تجدون ايضا مسألة الثقوب الدودية wormhole لاينشتاين Einstein و روزن Rosen التى هى الوسيلة الوحيدة المعروفة للسفر فى الزمن (وهذا ممكن فيزيائيا فعلا لكن بقيود شديدة مثلا حدسية التناغم الذاتى لنوفيكوف Novikov self-consistency condition) و تجدون ايضا فى هذا المسلسل من اسس الميكانيك الكمومى مسألة التشابك الكمومى quantum entanglement حيث هى الوسيلة المفترضة (لكن هذا غير ممكن فيزيائيا) للسفر بين العوالم مثلما ان الثقب الدودى هى الوسيلة الوحيدة للسفر فى الزمن. 
و السفر بين العوالم (فى عديد-العوالم many-worlds) و بين الاكوان (فى متعدد-الاكوان multiverse) أصعب من السفر فى الزمن لان كل عالم له زمن يستقل به عن ازمان العوالم الاخرى. 
ايضا نجد فى هذا المسلسل دور محورى لجسيم الهيغز Higgs الذى يرتأى المسلس ان يسميه الجسيم الاله god particle لانه اساس او منه تنبع كل الكتلة فى هذا الكون. اذن القصة ان خطأ تجريبى فى مفاعل نووى هو الذى تسبب فى كل هذا التلاعب بالسفر فى الزمن و السببية و التشابك الكمومى و الحرية الذى نراه فى احداث المسلسل. 
اذن هذه قصة متميزة بأتم معنى الكلمة تعتمد على افكار نيتشة من جهة و على الفيزياء الاساسية و بالخصوص اينشتاين من جهة اخرى. 
وبطلا القصة هما آدم و حواء اللذان سيكتشفان فى الاخير ان عالميهما (فآدم من عالم و حواء من عالم موازى مختلف!) هما فى الحقيقة (خطأ فى المصفوفة glitch in the matrix) وهى عبارة شهيرة وردت اول ما وردت فى فيلم (المصفوفة the matrix) اواخر التسعينات الذى هو فيلم فرضية المحاكاة simulation hypothesis الاول. 
اذن عالمى آدم و حواء هو تجلى فقط (خاضع للتكرار الابدى لنيتشة الذى يتكرر فيه الزمن بجبرية مطلقة) لعالم آخر ليس له علاقة بهما من الاساس الا انه فنى او انشطر (كما يحدث للجسيمات الاولية) الى عالمين مختلفين هما هذين العالمين عالمى آدم و حواء. 
وكل الصراع فى هذه القصة هو محاولة آدم ايجاد نقطة البدء و المعاد (بدء هذين العالمين المتشابكين كموميا هو نفسه المعاد او النهاية لان الزمن دائرى) و محاولة حواء منعه من ذلك لاسباب غامضة وفى الاخير سيكتشفان ان نقطة البدء تقع فى الحقيقة خارج هذين العالمين بالكلية فى زمن اصلى لعالم آخر لم يكونا على علم به. تغيير نقطة البدء فى العالم الاصلى هو الشيء الوحيد الذى يمكنه ان يتجاوز جبرية الزمن و السببية و تغيير الاحداث فى عالميهما وهذا ما سيحدث فى الاخير لان آدم صادق فى رغبته فى الوصول الى الجنة التى هى العدم المحض. 
وكما يقول آدم مرارا و تكرارا فى القصة (نحن نعرف قطرة لكن ما لا نعرفه فهو محيط) و لهذا فهو يرى ان العدم المحض و الظلمة الابدية و انعدام الوجدان هى الفردوس الاعلى الذى يجب ان يسعى اليه كل انسان. 
الافضل مشاهدة المسلسل بالالمانية و هو الاصل مع الدبلجة المكتوبة بالانجيلزية فهذا افضل شيء لتحقيق المتعة و الفهم و التلقائية خاصة ان المسلسل فعلا ألمانى و المنتج فعلا امريكى (مثلا تجنبوا مشاهدة الدبلجة المسموعة بالانجليزية فهى سيئة و لن تشعروا بتلقائية الأداء). 

 التكرار الابدى لنيشتة و عقيدة البدء و المعاد لابراهيم عليه السلام و نسبية أنيتشاين

 والانسان فى الجنة حر حرية حقيقية. 
 فمثلا آدم خُلق و عاش فى الجنة حرا لكنه بسبب هذه الحرية الحقيقية فانه عصى ربه سبحانه و تعالى مثلما عصى ابليس امر ربه لكن الفرق الوجودى بينهما هو ان آدم اعلن التوبة لربه نائبا نادما هذه التوبة التى تكبر و عاند فيها ابليس فحقت المغفرة الدائمة لآدم و حق العذاب الابدى على ابليس. 
اذن الحرية الحقيقة مكلفة و جدا و ليست تعمة محضة كما يعتقد الجميع, فهى اخرجت أول نبى و ملاك مقرب من الجنة. 
وعندما نقرأ هذه القصة فاننا نتصور ان هذه هى بداية الجنس البشرى و ان هذه هى نقطة انطلاق الزمن البشرى الذى هو زمن خطى. 
فالله يجب ان يكون خارج الزمن و الزمن يجب ان يكون جزءا من بنية الانسان العقلية كما قال كانط و هذا لا يستقيم ابدا اذا كان الزمن خطى. 
فتقع شبهة ان الله ينتطر مرور الزمن حتى يحاسب و يعاقب و يدخل الجنة و يدخل النار. فكل هذا فيه فرضية ان الزمن يمر على الله باتجاه معين (السهم فى الزمن نحو الجنة) تعالى الله عما يقولون و يتصورون علوا كبيرا. 
اذن هذا قد يكون هو سبب كثير من المشاكل الشائكة فى فهم الميتافيزيقا الدينية. لكن ماذا لو كان الزمن ليس خطيا بل هو دائرى و ماذا لو كانت قصة آدم ليس هى البداية فقط بل هى البداية و النهاية. 
فآدم البداية هو اول النبى. وآدم النهاية هو الانسان الكامل لابن عربى. 
اذن ماذا لو كان آدم الذى هو فى الجنة هو الانسان البشرى بأكمله بكل افراده فى الحنة. فى هذه الحالة فان الامر الالهى لآدم بعدم الاكل فى الجنة كان للجميع و ليس لآدم فقط و الجميع عصى ليس آدم فقط و الجميع تاب الى الله سبحانه و تعالى ليس آدم فقط و الله قبل من الجميع ليس من آدم فقط. 
وقبول الله سبحانه و تعالى لتوبة الانسان الحر فى الجنة كان فى اعطاءه فرصة ثانية بالنزول الى الارض و اعادة المحاولة من جديد لكن بحرية مقيدة (بالقوانين الكونية و النفسية و المجتمعية) و ليست حرية مطلقة كما فى الجنة فتم انزال الانسان الى الارض من جديد ليس انزال آدم فقط. 
لكن تم انزال كل واحد فى وقته فنزل آدم و حواء اولا ثم تم انزال كل واحد من بعدهما عبر الولادة من الأباء و الامهات حينما يحين وقت انزاله. 
والانسان لا يتذكر وقت انزاله و ووقته فى الجنة لان الله انساه كل ذلك حتى يبدأ فعلا من جديد. 
فالذاكرة هى الشخصية و تطابق الشخصية فى الزمن هو تطابق الذاكرة و اذا لم تتطابق الذاكرة فان الشخص فى المستقبل ليس هو الشخص فى الماضى او الحاضر (وهذا موضوع شائك آخر كنت سأكتب فيه لكن قررت التأجيل لصعوبة عناصره المؤسسة له). 
اذن بعد انزال الانسان الى الارض تعود صيرورة الارض من جديد و تتكرر الاحداث كما وقعت من قبل و يموت الناس واحدا بعد واحد ثم يبعثون ثم يحاسبون ثم يدخلون الجنة مرة اخرى او النار. 
هذه هى عقيدة التكرار الابدى لنيتشة مخلوطة بعقيدة البدء و المعاد لابراهيم عليه السلام وهى تعتمد على زمن دورى و ليس زمن خطى و تعتمد عى حرية حقيقية للانسان فى الجنة (نفس الشرط الابتدائى للجميع وهذا هو العدل) و تعتمد على حرية تواؤمية للانسان على الارض (القوانين الطبيعية و النفسية و المجتمعية التى تقيد من حرية الانسان). 
 وهى عقيدة تكرار ابدية لان كل شيء وقع سيقع من جديد عدد لانهائى من المرات فمثلا الناس سيدخلون الجنة و يتم انزالهم من الجنة عدد لانهائى من المرات وهذا لأن الزمن دورى, اذن هذا الفهم المتناسق جدا للمتأمل يحتاج الى زمن دورى و هنا تدخل النظرية النسبية العامة لاينتشاين و يدخل مفهوم الثقوب الدودية او وورم-هول wormehole التى تربط بين ثقبين اسودين و التى تسمح لنا بالسفر عبر الزمن مثلما تسمح لنا بالسفر عبر المكان. 
اذن نسبية اينشتاين بفكرة المسارات الزمنية المغلقة (وهى ممنوعة فيزيائيا بمبرهنات كثيرة و فلسفيا بفكرة السببية ) التى هى مسارات لا يوجد فيها نقطة بدء للزمن و لا نقطة انتهاء بل بالاحرى كل نقطة على هذا المسار يمكنها ان تلعب نقطة البدء و نقطة المنتهى فى نفس الوقت (وهذه هى ميزة الحاضر بالمقارنة مع الماضى و المستقبل). 
لكن هذه المسارات المغلقة يمكنها ايضا ان تجعل السببية منظوريانية persepctival و نتخلص بذلك من خطية السببية التى هى مشكلة فى حد ذاتها. كل هذا كان و مازال احد الاهداف الفلسفية لكثير من الفلاسفة (انظروا مثلا الفيلسوف الاسترالى برايس و هو مختص فى الزمن). 
اذن الارض يمكن تصورها على انها تقع فى مسار زمنى مغلق لثقب دودى بين ثقبين اسودين و بالتالى فان الزمن فيها و جميع الاحداث فيها تتكرر بشكل مستمر. 
وهذا مقترح ليس ببسيط ابدا لكيف يمكن ان تحل فلسفة نيشتة و نسبية اينتشاين معضلة البدء و المعاد الابراهيمية التى تعتمد على زمن خطى يؤدى الى تعلق الاحداث بالذات الالهية. الافكار المُعبر عنها هنا فى افكار شخصية جدا جزء منها مستوحى لكن لا يعبر عن الاحداث التى تقع فى مسلسل الخيال العلمى الالمانى الفذ (Dark) او (ظلام) الذى يعرض على النتفليكس.

 (البربر) لغويا و جينيا هم اصل (العرب) و ليس العكس و ابراهيم عليه السلام (الميتافيزقي) ليس هو ابراهيم الاسرائيليات

هذا الكتاب يبحث فى تاريخية historicity ابراهيم عليه السلام و اسرائيل وجميغ القصص التوراتى. 
و (التاريخية historicity) هى التحقق او الوجود التاريخى للشخصيات و الاحداث التاريخية. 
اذن قصة أبليس و آدم و حواء و جنة عدن و ايضا قصة نوح و الطوفان فهذه قصص مُجمع عليها بين العلماء بنسبة 100 بالمائة انها قصص غير تاريخية بمعنى لا يمكن لعلمى الآثار و التاريخ و غيرهما ان يتناولها بالدراسة  الايجابية. 
يبقى هناك امل فى قصة ابراهيم عليه السلام و القصص التوراتى بشكل عام. 
مؤلف هذا الكتاب هو مختص فى هذه الامور -بل هو المختص الاول فى هذه الامور- و هو توماس تومسون Thomas Thomson و قد كنت قد قدمت له كتابه الاشهر الآخر منذ سنوات هنا على هذه الصفحة. 
توماس تومسون هو عميد مدرسة كوبنهاغن Copenhagen school فى دراسات القصص التوراتى و التى تنص على عدم تاريخية القصص التوراتى جميعه. 
مدرسة كوبنهاغن هذه لا يجب خلطها بمدرسة كبونهاغن فى الفيزياء التى هى تفسير بوهر و مدرسة كوبنهاغن فى القصص التوراتى تسمى ايضا التوراتية الاصغرية biblical minimalism التى تنص على ان كتابة التاريخ انطلاقا من التوراة غير ممكن و تنص ايضا على ان (تفسير النص بالنص) لا يحقق اى من شروط التحليل التاريخى السليم. 
هذه النتيجة و لانها لم تكن مقبولة فى اوائل السبيعنات فانها قد كلفت المؤلف الكثير فمثلا لم يتمكن من الحصول على شهادة الدكتوراة الا بعد خمسة سنوات من كتابته للرسالة (التى هى الكتاب الآخر الذى وضعته هنا للتحميل منذ سنوات). 
 وقد اضطر المؤلف للعمل كصباغ حتى يرتزق و لم يتوظف فى الجامعة (جامعة كوبنهاغن) الا بعد 18 سنة من حصوله على الدكتوراة. 
المؤلف اليوم هو حجة هذا المجال و كان هو الرائد ضد التيار الامريكى الغالب فى وقته و اصبح رأيه مقبولا فى الاوساط التاريخية. 
اذن التوراة هى ليست كتاب تاريخ و اكثر من هذا لا يمكن اثبات اى من تاريخية القصص التوراتى. 
اذن هذه النتيجة لها بعد سياسى (ضد اسرائيل كدولة و ضد الصهيونية كفكرة) لكن هى فكرة ببعد ميتافيزيقى ايضا (ضد جميع الاسرائيليات فى الدين مهما كانت قوتها المفترضة و مهما كان اصلها). 
كوننا لا يمكننا البرهان تاريخيا على ابراهيم عليه السلام لا يعنى انه لم يكن شخصية تاريخية لكن هذه النتيجة قد تساعدنا على فك الارتباط بين ابراهيم عليه السلام الحقيقى من جهة (فعدم الوجود لا يعنى عدم الوجدان) و الاسرائيليات التى تدعى وصلا بابراهيم عليه السلام من جهة اخرى. 
اقول كمقترح انه كما ان آدم قد يكون أوادم فان ابراهيم هما على الاقل ابراهيمان. وهذا فقط مقترح فى هذه المرحلة. 
النتيجة التى استوقفتنى اليوم اكثر فى هذا الكتاب هو شيء آخر و هو بخصوص اصل اللغات السامية-الحامية semito-hamitic languages او ما يسمى ايضا باللغات الافريقية-اسيوية afro-asiatic languages و الشعوب المتكلمة بها. 
وهذا امر مهم جدا بالنسبة لاصل الاديان السامية و تاريخية ابراهيم عليه السلام و القصص التوراتى. 
فى الصفحة 129 يناقش المؤلف هذه النقطة فى فقرة تحت عنوان (عدن الافريقية). اذن هنا يؤكد المؤلف ان اصل جميع الشعوب السامية (شعوب بلاد الرافدين باسثناء سومر, و الفراعنة و الكنعنانيين و الاسرائيليين و العرب و الامازيغ و تشاد و السودان و غيرهم) كلهم يرجعون باصولهم الى سكان شمال افريقيا و بالضبط فى الصحراء الكبرى عندما كانت هذه الصحراء (صحراء خضراء) وهذا منذ حوالى 6000-9000 سنة قبل الميلاد.
وسكان شمال افريقيا و هم بالضبط البربر (ويشير المؤلف الى البربر و الى اللغة البربرية صراحة فى عدة مواضع) هم اجداد جميع الشعوب السامية و منهم العرب. من الناحية اللغوية المحضة لا شك فى هذه النتيجة. 
لكن النتجية مؤكدة ايضا اليوم الى حد كبير بالتاريخ و علم الآثار و القصص التوراتى. 
و لهذا فان المؤلف يسميها (عدن الافريقية) لان الصحراء عندما كانت خضراء كانت عدن بالنسبة لاهلها وهذه اشارة الى القصة الميتافيزيقية (قصة آدم و حواء فى جنة عدن). 
لكن ابتداءا من سنة 6000 سنة قبل الميلاد بدأت الصحراء تجف و تتحول رويدا رويدا الى الصحراء الكبرى التى نعرفها اليوم وسماها المؤلف فى الصفحة 133 (الجنة الضائعة) وهذه اشارة الى القصة الميتافيزقية لسقوط آدم الى الارض. 
هذا التصحر الذى تعرضت له (الصحراء الخضراء) و ادى بها الى التحول ببطء الى الصحراء الكبرى ادى الى امرين اثنين: 
اولا الى عزل سكان شمال افريقيا عن سكان مصر فى الشرق و عن سكان تشاد و السودان فى الجنوب و بذلك تشكلت هذه اللغات الاقدم اولا وهى (الامازيغية) فى شمال افريقيا (المغرب العربى) و الفرعونية (مصر) و لغات جنوب الصحراء مثل تشاد و النوبة و السواحلية و غيرها. 
و ثانيا فانه ادى انطلاقا من مصر الى هجرات اضافية عبر سيناء نحو فلسطين ثم الجزيرة العربية و سوريا ثم شمال العراق و منه نحو جنوب العراق بالموازاة مع نهرى دجلة و الفرات اين تشكلت نواة الحضارة الانسانية بعد تمازج تلك الشعوب مع حضارة سومر (التى هى لغة معزولة language isolate) التى كانت هناك. 
بهذا يشير المؤلف الى القصة الميتافيزيقية لابناء نوح عليه السلام و انقسامهم فى الارض وهم حام (الذى بقى فى المغرب و مصر و افريقيا) و سام (الذى وصل الى المشرق) و يافث (وهم غيرهم من البشر). 
الخلاصة هى نتيجة قد توصلت اليها شخصيا منذ سنوات انطلاقا من معطيات مختلفة ان (البربر) هم اصل (العرب) و ليس العكس. اما النتيجة الاخرى التى اريد ان اصل اليها منذ سنوات و مازلت لا استطيع هو ان (اليهود) ليس لهم اى علاقة ب (ابراهيم عليه السلام) الذى هو اول المسلمين. 

 ماهى الشخصية الفردية? 

ماهى نظريات الشخصية الفردية personal identity?
اولا نظرية نفس-الجسد same-body theory: الشخص x الذى عاش فى الماضى هو نفسه الشخص y الذى يعيش فى الحاضر اذا كان x و y لهما نفس الجسد. 
ومعنى أن لهما نفس الجسد أن هناك (استمرارية جسمانية physical continuity) و ليس انهما مشكلان من نفس المادة. 
تبقى هذه نظرية مرفوضة من الكثير من الفلاسفة فهناك كثير من المفارقات و الامثلة المضادة التى تعترضها. 
 ثانيا نظرية الذاكرة memory theory: الشخص x الذى عاش فى الماضى هو نفسه الشخص y الذى يعيش فى الحاضر اذا كان y يتذكر القيام بما قام به x و الشعور بما شعر به x و التفكير بما فكر به x. هذه نظرية تعترضها مفارقات اخرى كثيرة. واهم هذه الاعترضات تخص الفرق بين (الذكريات الحقيقية real memories) و (الذكريات المكذوبة false memories) هذه الاخيرة التى يتذكرها الشخص فعلا كأنها وقعت حقيقة لكنها لا تعكس الواقع بشكل صحيح. 
مجموع الذكريات الحقيقية و المكذوبة يسمى (الذكريات الظاهرية apparent memories) و اى فصل بينهما يؤدى الى انهيار نظرية نفس-الذاكرة. 
بل ان علم النفس و الفلسفة يؤكدان ان الشخصية الفردية تشكلها الذكريات الظاهرية لا الذكريات الحقيقية. 
اذن الذكريات المكذوبة التى لا تعكس الواقع فى الوعى بشكل صحيح تلعب دورا مهما فى تحديد الشخصية الفردية اى تحديد الأنا. 
اعبر عنها بطريقتى الشخصية و اقول ان (الماضى المكذوب) يحدد شخصية المرء. واذا كان هذا هو حال (الذاكرة و الماضى) التى كان يجب ان تكون يقينية فماهو اذن حال (الأمل و المستقبل) و كذا (الخيال و ماوراء-الزمن) التى هى امور ظنية بطبيعتها مهما تقول علينا اصحاب الكلام و الايمان. و مصطلح (ماوراء-الزمن) هو مصطلح جديد يعبر عن قدرة المخيال فى عبور الزمن (وهذا قريب من عالم الخيال لجونغ و ابن عربى). 
هنا نرجع الى فكرة قديمة فى ان (علم النفس) يحدد (الميتافيزيقا) و ليس العكس كما يعتقد الجميع. اذن نصل الى النظرية الاخيرة بخصوص الشخصية الفردية. 
ثالثا نظرية العقل-و-الجسم same body and mind theory: الشخص x الذى عاش فى الماضى هو نفسه الشخص y الذى يعيش فى الحاضر اذا و فقط اذا كان (تكافؤ و ليس فقط استلزام): اولا x و y لهما نفس الجسد (وهذه هى الاستمرارية الجسمانية) و ثانيا كان y يتمتع باغلب الذكريات الظاهرية ل x و كان y له اغلب شخصية x (وهذه هى الاستمرارية النفسية).
 
 

 يُحيرنى اصحاب الايمان 

(واننى مؤمن ان شاء الله) وهذا من الفريقين الكبيرين الكلامى و العجائزى: 
-من يؤمن عقليا و يقول لك لدى أدلة عقلية على وجود الله و على نبوة محمد و على اعجاز القرآن الكريم و على حقيقة البعث. 
-من يؤمن نقليا و يقول لك دليلى هو الله و النبى و القرآن و اليوم الآخر. 
و يُحيرنى القسم الاول من اصحاب الكلام و الفلسفة (الفريق الكلامى) اكثر من القسم الثانى من المقلدين و اصحاب التسلف (الفريق العجائزى). 
وهناك ايضا فريق ثالث ممن يؤمن شهوديا وهم فى رأيى من القسم الرابع الذى سأتكلم عنه هنا وهم من يؤمن عبر القفزة الايمانية الوجودية التى تجد مبرراتها فى ما يسمى (الجن الزمنى temporal djinn) وهى الحلقات الشبيهة-بالزمن المغلقة closed time-like loops التى تحقق شرط الانسجام-الذاتى لنوفيكوف Novikov self-consistency condition. 
لكن اولا لماذا يحيرنى اصحاب الفريق الاساسي الاول (اصحاب الكلام العتيد) من المؤمنين اكثر من اقرانهم اصحاب الفريق الاساسى الثانى (اصحاب التسلف المجيد). كيف يعقل ان اصحاب ايمان العقل (اكثر تحييرا للعقول) من اصحاب ايمان العجائز. اولا لان القسم الثانى دون ان يشعر هو قام بقفزة ايمانية نحو الايمان وهو لبساطة تفكيرهم و عدم معرفتهم بمعنى كلمات (دليل) و (عقل) و (برهان) و (منطق) يعتقدون ان الذى وجدوا عليه انفسهم هو دليل. هذا هو ايمان العجائز للفخر الرازى. وهو ايمان يقينى عبر قفزة ايمانية لا يعيها اصحابها. وهو ايمان لا يعتد به فى حد ذاته لانه لو قمنا بتغيير الشروط الابتدائية لحصلنا ايضا على اليقين. اذن لو ولد هؤلاء فى الهند او الصين او الغرب لكان ايمانهم ايمان عجائز الهند و الصين و الغرب دون ان ينقص ايمانهم من يقينه قدر ذرة. 
 اما القسم الاول فهم اكثر ازعاجا لانهم يعتقدون انهم قدموا البرهان العقلى و هم لو كانوا فعلا قد فعلوا ذلك لكان جميع العقلاء مؤمنين. فيردون ان العقلاء لم يؤمنوا لانهم كفار لا يريدون الايمان. وهنا لب ازعاج هذا القسم. فهم ضمنا قد وضعوا انفسهم فى مقام (النبى) صلى الله عليه وسلم و ضمنا وضعوا (العقلاء) فى مقام (قريش) ثم ضمنا وضعوا (دليلهم العقلى) فى مقام (دليل النبوة و دليل القرآن) الذى كان محمد صلى الله عليه و سلم بقرآنه الذى يوحى اليه يعرضه امام قريش فترفض رغم ان بعضها قبل من محمد و بعضها الآخر قال عنه انه -اى محمد صلى الله عليه و سلم- بقرآنه ساحر. فاعترفت اذن قريش ضمنا ان هناك شيء ميتافيزيقى ينبعث من محمد و قرآنه تشعر به فى وعيها لكن لا تستطيع ان تضع اصابعها و كلماتها عليه. 
 اذن هؤلاء المؤمنين العقلاء يعتقدون انهم قدموا للعلماء و العقلاء و الفلاسفة دليلا فى مثل دليل محمد لقريش ثم انهم ضمنا يعتقدون ان هؤلاء العلماء و العقلاء و الفلاسفة رفضوا الايمان لهم عنادا و جحودا و كفرا كما فعلت قريش مع محمد صلى الله عليه و سلم. وهذا من ابعد الاوصاف عن الحقيقة. ولهذا يزعجنى هؤلاء المؤمنين العقلاء المتفلسفين اكثر من ازعاج المؤمنين التقليديين المتسلفين. 
الايمان ليس فيه دليل عقلى قهرى مثل الادلة الهندسية القهرية التى تكلم عنها الغزالى فى (المنقذ من الضلال) و كل ما هنالك هو قفزة ايمانية اول من قررها على حقيقتها هو كيرغارد الفيلسوف الدنماركى الوجودى الذى نظر الى علم الكلام المسيحى و نظر الى علم التسلف المسيحى فوجدهما ليسا بدليل على اى شيء -وهذه نفس النتيجة التى وصل اليها الغزالى فى (الاقتصاد فى الاعتقاد)-. 
الكلام ليس دليلا على الايمان بل هو تدليل عليه ليس الا. ولهذا فانه عندما يسألنى كثير من الاصدقاء الدهريين عن منهجيتى فاننى ايضا احتار منهم لانهم مازالوا يعتقدون اننى عقلى-كلامى (ولهذا يعجزون عن فهمى) فهم لم يعوا ان المنهجية التى اتبعها ليست هى عقلية كلامية و لا هى نقلية تسلفية بل هى وجودية انسانية. 
وكل ايمان يبدأ من نقطة و تلك النقطة تحتاج الى قفزة ايمانية للايمان بها وهذه دائرة مغلقة فالسبب هو المسبب و المسبب هو السبب. 
اذن نقطة الانطلاق هى مسلمة ميتافيزيقية نتحقق من نتائجها وجوديا-نفسيا (كما نفعل مع مسلمات العلم التى نتحقق من نتائجها رياضيا-تجريبيا). لكنها ليست بالضرورة بدائرة متناقضة فكما نعرف الآن من النسبية العامة و فلسفة النسبية العامة فان الحلقات الزمنية موجودة و هى حلقات منسجمة رياضيا و فيزيائيا و فلسفيا و فيها السبب هو المسبب (انظروا ماذا كتبته عن الحلقات الزمنية التى تسمى -جن- و شروط الانسجام لنوفيكوف و السفر فى الزمن وكل ذلك الذى كتبت عليه هنا منذ سنة و نصف او اكثر).

دانيال دنات: لا يوجد وعى

من أكبر فلاسفة و علماء الوعى فى هذا العصر نجد دانيال دنات Daniel Dennett وهو من اكبر الكتاب انتاجا فى التاريخ -كم هائل من الكتب و الابحاث- و هو ايضا واحد من اكبر اربعة فرسان يمثلون الفلسفة الدهرية فى هذا العصر.

الذى يهمنى هنا هو نظريته الخاصة فى الوعى التى تتلخص بكل بساطة فى انكار الوعى برمته.
اذكر مرة احرى ان الهدف هنا هو عرض الفكرة بكل دقة بغض التظر عى رأينا الخاص فيها. اذن فرقوا بين موضوعية الرأى -رأى الكتاب و الفلاسفة- و الرأى الموضوعى -رأيى الخاص-.
دنات فيسلوف دقيق و معقد وهو لا يرفض الديكارتية فقط بل هو يرفض ما يسميها الديكارتية المادية Cartesian materialism.
ففعلا فان اغلب الفلسفة المادية الحديثة هى مادية ديكارتية و هذا امر لم ينتبه اليه الا مادى دقيق جدا مثل دنات.
المادية الديكارتية وهو اغلب الفلسفة الحديثة فى الوعى تنص على ثلاثة نقاط بخصوص الوعى.
- اولا هناك مسرح (او شاشة) فى الدماغ يتم عليه تقديم او عرض ما يسمى تيار الوعى stream of consciousness. هذا المسرح او هذه الشاشة هى اذن مكان مركزى فى الدماغ يمكن تصوره على انه عين العقل. هذا المسرح يسميه دنات المسرح الديكارتى Cartesian theater و جميع الفلسفة المادية بفروعها مثل الجسمانية physicalism و الوظائفية functionalism تفترضها ضمنا.
-ثانيا الوعى يحدث فى زمن. اى ان تيار الوعى عندما يتم عرضه فى المسرح الديكارتى فان تدفقه flow مرفق بتدفق الزمن flow of time. بل ان الوعى مثله مثل الزمن له سهم arrow.
-ثالثا هناك الأنا ego وهو المتفرج فى المسرح الديكارتى. وعلى هذا المتفرج الديكارتى الذى يعيش فى تيار الزمن يُعرض تيار الوعى.
هذه النقاط الثلاثة تشكل رؤية المسرح الديكارتى The Cartesian Theater View الذى يرفضه دنات رغم انها الرؤية الاساسية التى تعتمد عليها المادية و الجسمانية و الوظائفية.
دنات يقترح نظرية اخرى للوعى يسميها نموذج تعدد المسودات Multiple Drafts Model تتخلص بالكامل من المسرح و من المتفرج و من العرض نفسه.
بكل احتصار فى هذا النموذج فان الوعى هو عبارة عن آلة افتراضية virtual machine اى برنامج حاسوبى تطورى -اى ناجم عن نظرية التطور evolutionary theory- يعنمد بالاساس على الشرطين الآتيين:
- اولا التوازوية parallelism اى ان الوعى هو عمليات حاسوبية مكثفة massive computational operations فى الدماغ تعمل بشكل متوازى. اذن الوعى كبرنامج حاسوبى هو برنامج لا يعتمد التسلسل serial بل هو يعتمد التوازى parallel. وهذا التوازى يعنى مما يعنى انه ليس هناك حاجة الى مركز اى الى الأنا اى الى المتفرج الديكارتى وهذا هو اهم اهداف دنات من الحساب المتوازى.
-ثانيا الوظائفية الجاسوبية computational functionalism اى ان الوعى هو فى الاخير مجموعة من الوظائف functions لكنها وظائفية تعتمد على برامج خاسوبية توازوية معقدة complex و مكثفة massive. لكن هذه الوظائفية لا تعتمد مطلقا على التفكيك الوظائفى functional decomposition الذى يطغى على جميع الانواع الاخرى من الفلسفة الوظائفية . بكل بساطة فان اى تفكيك سوف يؤدى -حسب دنات- الى ضرورة ادخال الأنا او المتفرج الديكارتى غير-قابل للاختزال.
اذن الوعى حسب دنات هو ليس الا نظرية معلوم information theory من نوع ما و لهذا فهو متحمس لنظرية الوعى الاخرى المسماة نظرية فضاء-العمل الشامل Global Workspace Theory التى هى ايضا نظرية معلوم قام اصحابها بتفصيلها اكثر.
لكن ننوه ان هناك ايضا فروق معتبرة بين نظرية دنات (نموذج تعدد المسودات) و نظرية فضاء-العمل الشامل رغم انهما يعتمدان الوظائفية الحاسوبية و اهم هذه الفروق هو كون نظرية فضاء-العمل الشامل لا تعادى بنفس الحدة رؤية المتفرج الديكارتى الذى يقبع فى مزكز الأنا.
يقدم دنات الكثير من الحجج من اجل تدعيم نظريته لكن ابسطها يعتمد على ما يسمى ظاهرة الفاى phi phenomenon وهى موجودة فى الرابط.
الخلاصة ان دنات هو ضد كل شيء ديكارتى حتى لو كان مادى و لهذا فهو مثلا ضد المعضلة الصعبة للوعى hard problem of consciousness التى طرحها شالمرز Chalmers فى التسعينات و ضد الزومبى الفلسفى philosophical zombies و تجربة مارى Mary experiment و غيرها من التجارب الفكرية التى تؤكد كلها على اساسية الوعى و عدم اختزاليته للمادة اى على الثنائية الديكارتية.
كل هذه التجارب الفكرية كنت قد شرحتها من قبل.
هو بكل بساطة ينكر وجود الوعى برمته. وهذا اقوى طريق وجدته لمن ينكر الصانع. بل اننى اقول ان انكار الوعى هو الطريق الصعب لمن انكر الصانع.
ولهذا اعتقد ان دنات هو اذكى دهرى عرفه التاريح و لا نجد فى مصافه الا الطبيب ابيقور بمعضلة الشر التى هى الطريق السهل لمن انكر الصانع.

Comments

Popular posts from this blog

نظرات وجودية-ايمانية 3