(نظرية التطور) و (الفكرة الدينية الابراهيمية) لا يمكن ابدا الجمع بينهما فهما فكرتان متناقضان ميتافيزيقيا.
اذن ليس هناك بد من الاختيار. و عليه فاننى اختار الايمان بانبياء الله ابراهيم و موسى و عيسى و محمد و لا يهم ان نظرية التطور تحتوى على جزء علمى صلب لا غبار عليه.
بكل بساطة فان نظرية التطور هى اكثر النظريات العلمية التى يمتزج فيها اكبر قدر و اعمق قدر و اخطر قدر من الميتافيزيقا الدهرية.
فحتى الفيزياء بجلال قدرها لا تفعل ما تفعله نظرية التطور من مجاولة تصوير صورة للواقع و الزمن و التاريخ و المستقبل يلعب فيها الكون و قوانينة جميع الادوار.
بكل بساطة اذا كان اصل الانسان هو هذه الملايين من السنوات من التطور عبر تاريخ الارض القديم فان هذا الانسان فارغ من كل قيمة و غاية.
بكل بساطة فان نظرية التطور لا تدفع على الاطمئنان امام تهديد الموت بل هى تدفع على الذعر و الهلع و الفزع.
بكل بساطة نظرية التطور تقول ان كل هذه النظريات الايمانية التى جاء بها الانسان او جاءت الى الانسان هى وهم و كذب و خيال ليس لها اى اساس من الحقيقة.
بكل بساطة هذا الاحتمال هو روح الهلع و الفزع و الذعر.
اذن اختار الايمان و طمأننية الايمان و النبى و السنة على جزع التطور و الصدفة و الزمن.
وفى رأيى فان نظرية التطور هى (المسيح الدجال) فهى تستخدم العلم من اجل تحدى دعوة الانبياء و الدعوة الى الايمان بالكون.
والكون فى رأيى هو (الشيطان).
اذن الايمان بالكون و بنظرية التطور هو ايمان فى حقيقة الامر بالشيطان و بالمسيح الدجال.
ومن يستطيع ان يفصل بين (المسيح) اى بين (العلم) و بين (الدجال) اى بين (الكفر) فى نظرية التطور فاننى ادعوه ان يحاول ان يفعل ذلك.
لكن الامر صعب جدا وقد يكون محالا و قد تخسر نفسك فى المحاولة.
فرضية الالكترون الواحد (ويلر Wheeler) تنص على ان جميع خطوط-العالم world-lines فى الكون هى فى الحقيقة خط-كونى واحد و بالتالى فان جميع الالكترونات فى الكون هى فى الحقيقة الكترون واحد.
هذه الفرضية و العبقرى الفذ ويلر قد كنت تكلمت عنهما فى فرص كثيرة سابقة يمكنكم الاطلاع عليها على راحتكم فى مقالات البلوغر.
الآن اليوم اريد ان اقترح فرضية مختلفة جديدة هى (فرضية الوعى الواحد).
فرضية الوعى الواحد تنص بكل بساطة على ان كل هذه الانفس الآدمية من لدن آدم الى غاية يوم القيامة هى فى الحقيقة نفس واحدة و روح واحدة و وعى واحد.
الذى يختلف هو هذه الابدان المختلفة التى تعيش فى هذه العوالم المختلفة.
والقصة تبدأ من آدم عليه السلام.
اذن هناك آدم عليه السلام خلقه الله بيده و خلق له زوجه حواء و اكل من الشجرة ثم هبط الى الارض و تناسل ثم توفى بعد حين.
كل هذ يعرف لنا عالم واحد.
اذن فى عالم آدم كل شيء هو محاكاة الا آدم نفسه. فقط وعى آدم عليه السلام حقيقى من وجهة نظر او منظوريانية perspective آدم فى عالم آدم.
اذن هنا نمزج (فرضية المحاكاة simulation hypothesis) مع (فرضية انتفاء العقول الاخرى او السوليبزيسم solipsism).
اذن آدم عليه السلام هو الوعى الواحد فى هذا الوجود.
ناخذ مثال قابيل. قابيل هو ليس حقيقى فى عالم آدم بل هو فقط محاكاة فى عالم آدم مثل كل شيء آخر فى عالم آدم.
لكن هناك عالم آخر يعرف بالنسبة الى منظوريانية قابيل يكون وعى قابيل هو الشيء الحقيقى الوحيد فيه و كل شيء آخر هو محاكاة. اذن فى عالم قابل يجد قابيل نفسه قد ولد فى الارض من آدم و حواء ثم يقتل اخيه هابيل ثم يدفنه ثم يموت.
فى عالم قابيل وعى قابيل فقط هو الحقيقى و ذلك الوعى هو نفسه وعى آدم الاول. هو نفس الوعى. وعى آدم حقيقى فى عالمه اما وعى آدم فى عالم قابيل فهو قابيل وهو حقيقى فى هذا العالم.
بنفس الطريقة فان هابيل وجد نفسه ولد فى الارض من آدم و حواء ثم يقتله اخاه قابيل. فى هذا العالم فان هابيل هو الوعى الوحيد الحقيقى اما كل شيء آخر و منه آدم و قابيل فهو محاكاة. اكثر من هذا فان وعى هابيل هو نفسه وعى آدم الاصلى. آدم هو آدم فى عالمه و آدم هو قابيل فى عالم قابيل و آدم هو هابيل فى عالم هابيل.
وهكذا.
اذن كل وعى من منظوريانيته الخاصة (المعلم الميتافيزقى العطالى الخاص به) يعرف عالم خاص به. فى هذا العالم كل شيء هو محاكاة الا هذا الوعى. واكثر من هذا فان هذا الوعى هو نفسه وعى آدم الاصلى. فآدم هو هذا الوعى فى هذا العالم ليس شيئا آخر.
اذن هناك وعى واحد هو وعى آدم عليه السلام.
لكن هناك فى الحقيقة عدد لانهائى من العوالم.
فى كل عالم تعيش منظوريانية معينة هى فقط الحقيقية و كل شيء آخر هو محاكاة فى ذلك العالم.
وعندما يموت هذا الوعى فى عالمه فان هذا العالم المحاكى ينقضى و يفنى مع موت ذلك الوعى.
وهكذا تتبخر بالكامل معضلة الشر (فهو كله محاكاة) و تنحل بالكامل معضلة الحرية (فهى حقيقية لانها مقيدة بالمنظوريانية التى هى حقيقية) و يصبح الموت مفهوما لانه ليس الا نهاية وعى و محاكاة و ليس نهاية وعى فقط. اما المسؤولية فتبقى قائمة بشكل واضح و اما البعث و الحساب و العقاب فهو كله يقع على ذلك الوعى الواحد (وعى آدم) وهذا الرأى الاخير يشبه كثيرا قول ابن سينا القديم.
نظرية التطور (المسيح الدجال) و الكون (الشيطان)
اومن أهم الآراء التى تبلورت عندى بشكل واضح فى الاشهر الماضية فكرة ان (الكون يتميز بوعى اولى و بحرية اولية و بمنظوريانية اولية) وهذا يجعله مسؤول عن كل شيء قام و يقوم به الانسان ب (وعيه و حريته و منظوريانيته).
وهذه فكرة (فكرة البانسيكيزم panpsychism اى ان الوعى او العقل طاغى فى الكون و ليس فقط يتميز به الانسان) اصبحت فكرة رائجة جدا فى فلسفة تفسير الوعى الظواهرى phenomenal consciousness او الكواليا qualia.
لكننى شخصيا توصلت اليها من زاوية (معضلة الشر) و ليس من زاوية (المعضلة الاصعب
للوعى hard problem of consciousness).
اذن (وعى الانسان) حسب فهمى الشخصىة جدا للفيلسوف-النفسانى-الاديب دوستوفويسكى فى روايته الاولى (رسائل من القبو notes from the underground) يتميز بشيئين اساسيين هما:
-اولا (الرغبة فى فعل الشر و لو نكاية).
-و ثانيا (التلذذ بالعذاب و الام و المعاناة).
اذن الانسان يحتاج الى الألم (بل هو يتلذذ لاشعوريا به) و يرغب فى الشر (فهى ليست قضية اختيار فقط) و هذا اكثر بكثير مما كنا نقوله سابقا.
ولهذا فان (الوعى خطأ كونى ما كان يجب ان يكون لكنه كان فى هذا الكون و على احدهم ان يتحمل مسؤولية هذه الكينونة).
ودوستوفويسكى وجدته يصرح بهذه الفكرة (ان الوعى خطأ فى الكون) فى رواية (رسالة من القبو) التى هى من اعظم ما قرأت.
و رغم قصرهذه الرواية الشديد فاننى صرفت صائفة كاملة فى القراءة و التلخيص و اعادة انتاج ذلك الكم الهائل من الافكار الوجودية العميقة التى تحتويها.
اذن الانسان (يريد فعلا فعل الشر و ليس ان الشر خطأ غير مقصود من الانسان) و هو (يتلذذ لاشعوريا بالعذاب رغم ادعاءه الخوف الشديد منه).
الانسان اذن مازوخى من نوع غير مسبوق فى هذا الكون المازوخى.
وفرويد يكتب كتاب كامل عن دوستوفويسكى و روايته (رسالة من القبو) لانه على ما يبدو يقبل هذا التحليل.
اذن الوعى هو رغبة فى فعل الشر و تلذذ بالعذاب.
ولهذا ربما عصى ابليس (وهذه هى الرغبة فى الشر) وهذا حتى يدخل النار (التى هى ذروة الألم) لأنه فى حقيقته يرغب بالعذاب و الالم لا شعوريا. فحتى ابليس فهو لا يعلم انه مازوخى فى حقيقته.
وهذا ورثه آدم و ذريته (رغبة فى فعل الشر و تلذذ بالعذاب لاشعورى).
وقد قال ابن عربى قديما ان العذاب فى النار بالنسبة للمخلد فيها سوف يتحول الى استعذاب وهذا ما يقوله دوستوفويسكى لكن دوستوفويسكى قاله بشكل اعمق من الناحية النفسية البحتة.
اذن الكون مسؤول عن خلقه للانسان و شر الانسان (عبر الانبعاث) مثلما ان الانسان مسؤول عن خلق الذكاء الاصطناعى و شر الآلات القادم (عبر الاختراع) .
فالله سبحانه و تعالى قد خلق عدد لانهائى من الاكوان.
لكن عدد لانهائى من هذه الاكوان لم يتورط فى خلق الوعى لكن هذا الكون الذى نعيش فيه فعل.
اذن السؤال لماذا فعل هذا الكون مالم يفعله عدد لانهائى من الاكوان المماثلة.
والله خلق الانسان عبر خلق الاسباب و القوانين و التطور فى هذا الكون لكنه خلق الكون ب (كن).
اما خلقه الكون فى سته ايام فتأويله ان كل وجود الكون حتى قيام الساعة هو ستة ايام و اليوم السابع هو البعث و الحساب و العقاب.
اذن لا تعارض بين الخلق بكن و الخلق فى ستة ايام.
لكن كل هذا الزمن الكونى-الانسانى هو حادث فى وعى الله سبحانه و تعالى فى نفس اللحظة الالهية.
اى انه بالنسبة لله سبحانه و تعالى فان خلق الكون ب (كن) و خلق الانسان فى الكون بالكون و الموت و البعث و الحساب و العقاب كله وقع-يقع-واقع فى نفس اللحظة فى الوعى الالهى و ليس فيه ترتيب زمنى.
المحصلة فى النهاية ان الكون شرير و هو مخلوق من نار.
و تذكروا فان ابليس شرير وهو مخلوق من نار.
اذن اقول ابليس هو الكون و الكون هو ابليس.
وابليس يرفض السجود لآدم و يقول لله سبحانه و تعالى (انا خير منه خلقتنى من نار و خلقتنى من طين).
و السبب ان الكون المخلوق من نار طور هو الآخر انسان فيه عبر (نظرية التطور) اراد به منافسة خلق الله سبحانه و تعالى المباشر لآدم.
فالكون او ابليس يرى ان الانسان الذى خلقه خلقا انبعاثيا عبر الاسباب و القوانين و التطور افضل من آدم الذى خلقه الله سبحانه و تعالى وهذا تحدى لله سبحانه و تعالى و لخلقه سبحانه و تعالى.
و (نظرية التطور) هى اخطر نظرية على الفكرة الدينية. وهذا رأى جديد عندى ايضا بعد ان وقفت على الحياد فى هذا الامر وقتا طويلا خاصة ان نظرية التطور هى نظرية علمية لا جدال فى ذلك.
اذن (نظرية التطور) هى (المسيح الدجال).
فكما ان المسيج الدجال يستخدم العلم من اجل الدجل الذى هو فتنة الناس و ابعادهم عن فكرة الله سبحانه و تعالى.
فان (نظرية التطور) تستخدم العلم من اجل الدجل ايضا الذى هو ضرب فكرة الله سبحانه و تعالى فى الصميم.
و لدينا فى الاخير موقفان امام الموت.
--عندما نموت لا نجد شيئا مما يذكره الدين بل قد لا نجد اى شيء.
-عندما نموت نجد ما يذكره الدين و قد نجد شيئا لكن ليس الذى يذكره الدين.
واننى ارتعب رعبا من الفكرة الاولى رغم ان الفكرة الثانية هى ايضا مرعبة جدا الا ان رعب الفكرة الاولى (لاشيء بعد الموت) اكبر بمالانهاية من رعب الفكرة الثانية (هناك شيء بعد الموت).
واننى اختار الرعب الاقل على الرعب المالانهائى.
وهذا موضوع آخر يحتاج الى تفصيل و ربط اكثر مع فكرتى (ابليس هو الكون) و (المسيح الدجال هو نظرية التطور).
مستويات الحضارة و كرة ديزون و صانع النجوم
قدم رائد الفضاء و الفيزيائى الروسى نيكولاى كارداشايف Nicolai Kardashev فى عام 1964 ما يعرف اليوم بسلم كارداشاف Kardashev scale الذى يقيس مستويات الحضارة القادرة على الانبعاث فى هذا الكون.
هذا السلم يرتب الحضارات فى ثلاثة مراتب مرتبة وهذا حسب استهلاكها للطاقة. هذا السلم يعتمد على ثلاثة مسلمات:
اولا توفر منابع الطاقة,
و ثانيا المستوى التكنولوجي,
و ثالثا القدرة على الاتصال البين-نجمى.
من الواضح ان جزء معتبر من الطاقة المتوفرة لكل حضارة سوف يُستخدم من اجل محاولة الاتصال بالحضارات الاخرى فى الفضاء. مثلا يحاول العلماء اليوم الاتصال بالحضارات الفضائية فى اطار برنامج البحث عن الذكاء الفضائى search for extraterrestrial intelligence المعروف اختصارا باسم SETI.
سلم كارداشيف يحتوى على ثلاثة مستويات حضارية هى كالآتى:
اولا الحضارات من النوع I وهى الحضارة التى يمكنها استغلال كل الطاقة التى تصلها الى كوكبها من النجم الاساسى الذى تدور حوله. هذه الحضارة تستهلك ما يقارب ال 10 للقوة 16 واط.
تقييم كارداشيف Kardashev rating الذى يرمز له ب K و الذى اعطاه كارل سايغن Carl Sagan فى السبيعنات لكل حضارة تستهلك طاقة P يعطى بلوغاريتم P ناقص 6 تقسيم 10.
اذن حسب سايغن -الذى يضيف الى مقياس الطاقة مقياس المعلومات من اجل ترتيب الحضارات- فان حضارة الارض فى هذا العصر هى ليست الا حضارة مراهقة فهى ليست حتى فى مستوى النوع 1 بل هى من النوع 0 (تقييم كارداشيف بالنسبة للارض اليوم يساوى حوالى 0.7 و ليس 1).
ثانيا الحضارات من النوع II وهى الحضارات التى يمكنها استغلال كل الطاقة الصادرة من النجم الاساسى الذى تدور حوله وهذا عبر بناء كرة ديزون حول هذا النجم. هذه الحضارة تستهلك ما يقارب ال 10 للقوة 26 واط.
ثالثا الحضارات من النوع III وهى الحضارات التى يمكنها استغلال كل الطاقة الصادرة من المجرة التى تعيش فيها. هذه الحضارة تستهلك ما يقارب ال 10 للقوة 26 واط.
حسب ميكيو كاكو Michio Kaku فانه بافتراض نسبة نمو فى استهلاك الطاقة تساوى 3 بالمائة فى السنة فان الارض سوف تحتاج من 100 الى 200 سنة اخرى لبلوغ مستوى النوع I من الحضارات و سوف تبلغ مستوى النوع II خلال بضعة الاف سنة اما مستوى النوع III فان الارض سوف تحتاج من 100 الف الى مليون سنة اخرى.
وهناك حسب كاكو حضارات من النوع IV و من النوع V ايضا التى يمكنها التحكم فى كل الطاقة الصادرة من الكون او مجموعة من الاكوان (عديد-الاكوان).
نحن اذن ما زلنا حضارة من النوع 0 و قد ندخل الى النوع 1 قريبا نسبيا (200 سنة على الاكثر).
اما الدخول الى النوع 2 فهذا سوف يستهلك زمنا اطول.
الفرق بين النوع 1 و النوع 2 يكمن فى كون ان النوع 1 لا يمكنه الا استهلاك الطاقة التى تصله على كوكبه من النجم الذى يدور حوله اما النوع 2 فهو يمكنه اسjغلال كل الطاقة الصادرة عن النجم.
هذا يمكن ان يتحقق عبر بناء هيكل-عملاق megastructure حول النجم يسمى كرة ديزون Dyson sphere و التى يمكن استخدامها فى بناء حاسوب-عملاق megacomputer بحجم نجم يسمى دماغ ماتريوشكا Matrioshka brain وهى فكرة ترجع الى روبرت برادبورى Robert Bradbury.
دماغ ماتريوشكا تستخدمه الحضارة من النوع II فى حاسوبياتها المعقدة -مثلا فى تخزين العقل الانسانى و الذكاء الاصطناعى من اجل اعادة بعث ذلك الوعى الانسانى او الاصطناعى فى اجساد جديدة بعد موت الاجساد القديمة-.
أما كرة ديزون فانها سميت كذلك نسبة الى الفيزيائى النظرى فريمان ديزون Freeman Dyson المشهور بسلسلة ديزون Dyson series فى نظرية الحقول الكمومية quantum field theory و المشهور ايضا بفكرة ان نظرية الثقالة الكمومية quantum gravity ليست ضرورية على الاطلاق من اجل وصف قوة الجذب الثقالية gravitational attraction لان هذه الاخيرة هى قوة كلاسيكية بالاساس لا تحتاج الى تكميم quantization.
الحقيقة ان كرة ديزون -و هذا باعتراف ديزون نفسه- هى فكرة ترجع الى الفيلسوف و كاتب الخيال العلمى الانجليزى اولاف ستايبلدون Olaf Stapledonn الذى كنا قد تكلمنا عنه من قبل عندما تكلمنا عن عمر نوح عليه السلام و محاولة تفسيره بشكل علمى.
فى احدى روايات ستايبلدون (الانسان الاول و الاخير Last and First Men والتى هى عبارة عن رواية تاريخ مستقبلى future history للانسان) فان الكاتب يتصور ان الانسان خلال ال 2 مليار سنة القادمة سوف يمر ب 18 مرحلة تطورية كل مرحلة هى عبارة عن نوع انسانى مختلف عن هذا الهوموسابيان.
احد هذه الانواع الانسانية كانت فى الرواية تعمر كثيرا لكن سن البلوغ و الانجاب عندها كان ايضا متقدما. و كما قلنا فى مكان آخر فانه يمكن فهم عمر نوح الطويل بنفس الطريقة. اى ان جميع قوم نوح -وليس نوح فقط- كانوا يعمرون لكن سن البلوغ و الانجاب عندهم جميعا كان ايضا متقدما.
وهذا شيء معروف ايضا فى المملكة الحيوانية اليوم حيث ان بعض انواع سمك القرش يعمر كثيرا (2 الى 3 قرون) لكن سن البلوغ عنده ايضا كبير (الانثى لا تنجب الا بعد ان تصل الى قرن او اكثر).
هذه الرواية تحتوى ايضا على نوع انسانى هو عبارة عن عقل-ممتاز super-mind اى ان جميع الافراد فى ذلك النوع متحدون تخاطريا telepathically فى وعى جماعى collective consciousness.
اولاف ستايبلدون كان فيلسوفا يوصف بأنه اغنوسى. لكن الاقرب الى الحقيقة انه كان يحمل عداء شديد للتدين العلنى و للمؤسسات الدينية لكنه فى نفس الوقت متحمس جدا للفكرة الدينية و للروحانية الحقيقية. وهذا موقف قد يبدو متناقض -خاصة عند الخصوم- وهذا ما يجعله يبدو اغنوسى لكنه هو غير ذلك تماما.
فالروحانية ظاهرة طبيعية بل هى ظاهرة صحية لكن الحقيقة ان التدين الهيستيرى يضرب اركان هذه الروحانية فى الصميم.
الرواية العظيمة الاخرى لاولاف ستايبلدون التى استمد منها فريمان ديزون فكرة كرة ديزون هى رواية (صانع النجوم star maker).
هذه الرواية هى ايضا من نوع التاريخ المستقبلى و هى تحكى مستقبل الحياة فى الكون بأكمله و ليس فقط مستقبل الانسان. وهى رواية يمكن النظر اليها على انها الجزء الموالى لرواية (الانسان الاول و الاخير).
فى هذه الرواية يتم نقل وعى رجل يعيش فى لندن خارج جسمه فيجد هذا الرجل نفسه قادرا على السفر فى الزمن و فى الفضاء.
يسافر هذا الرجل اذن الى كوكب آخر فى هذه المجرة (الارض الاخرى) تطورت عليه منذ ملايين السنوات حضارة اخرى على نفس القدر من التطور الذى بلغه اليوم الانسان على الارض.
و يتوحد بعدها عقل هذا الرجل مع عقل احد سكان هذه الحضارة البعيدة و يسافرا معا فى الزمن و الفضاء الى كواكب اخرى و خلال سفرهما تندمج معهما عقول افراد آخرين. و بذلك يتشكل وعى جماعى يتواصل افراده عبر التخاطر هو نواة العقل الكونى cosmic mind.
الفكرة الاخرى -بالاضافة الى كرة ديزون- التى سبق بها المؤلف فى هذا الرواية الفيزياء بعشرات السنوات هى فكرة عديد-الاكون multiverse.
وفكرة عبقرية اخرى يذكرها المؤلف فى هذه الرواية هى ان الكون يتحلى بوعى حقيقى فهو كائن ذكى ذكاءا حقيقيا يعمل على ازمان كبيرة جدا و لهذا لا نستطيع تمييز ذكاءه الواعى الحر المنظوريانى لان الوعى الذى نتحلى به يعمل على ازمان مهملة بالمقارنة.
يواصل الوعى الجماعى سفره عبر الزمن و الفضاء فى هذا الكون و يتواصل توحد عقول افراد آخرين و بذلك يتطور هذا الوعى الجماعى رويدا رويدا نحو العقل الكونى وحتى نصل الى اللحظة الحاسمة فى الرواية التى يتصل فيها هذا العقل الكونى بصانع النجوم.
ويكتشف العقل الكونى ان صانع النجوم هو صانع النجوم فعلا فهو خالق الكون لكنه خالق مثل الفنان اى ان الكون بالنسبة الى صانع النجوم هو مثل اللوحة الفنية بالنسبة الى الرسام.
ولان صانع النجوم هو فنان مطلق فانه بعد ان يرسم كل لوحة (اى بعد ان يخلق كل كون) فانه يقوم بتقييم ذلك العمل بشكل موضوعى مطلق بدون اى نظر الى معاناة و شر الكائنات التى تعيش فى ذلك الكون. فيجد صانع النجوم من نفسه عدم الرضا عن تلك اللوحة او تلك كما يجد ذلك من نفسه اى فنان موضوعى فما بالك بالفنان المطلق.
اذن صانع النجوم يخلق عدد لانهائى من اللوحات الفنية وهو يريدها لكنه غير راضى عنها جميعا و يتركها لنفسها ثم يذهب و يخلق غيرها و هكذا.
حتى ان المؤلف تصور كون خلقه صانع النجوم من الموسيقى فقط. وحتى هذا الكون الموسيقى فان صانع النجوم لم يكن راضيا عنه لانه انطوى على انماط سلوكية لم تتماشى مع القانون الذى سنه صانع النجوم لهذا الكون (تذكروا هذه الاكوان تتميز بوعى و بحرية و بحرية منظوريانية).
اذن الفنان المطلق (صانع النجوم) يبحث عن الكمال المطلق ومن اجل هذا الكمال المطلق فانه يخلق عدد لانهائى من الاكوان الذكية فكل مرة يترك الكون الذى خلقه و يذهب و يخلق كون اعقد و اكمل و اجمل و اخير الى مالانهاية وهكذا حتى يصل الى الكون النهائى ultimate universe الذى تتم بخلقه ارادة (صانع النجوم) الازلية فى تحقيق الخير و الكمال و الجمال.
بعد ان يشاهد وعى المسافر كل هذه المعرفة و يرى هذه الحقيقة فانه ينفصل عن الوعى الكونى و يرجع الى جسده فى لندن على هذه الارض فى هذا الزمن.
وحدانية الله و وحدة الوعى و (توحد الوعى الممتاز): تفسير (قل هو الله احد..) و (ليس كمثله شيء..) و (ما قدروا الله حق قدره..)
قل هو الله احد الله صمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفؤ احد.
وهى سورة مكية نزلت قبل هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم.
اما سبب النزول قد ذكر انها جواب على سؤال للمشركين فى مكة و ذكر فى روايات اخرى انها جواب على سؤال ليهود يثرب و فى روايات اخرى انها جواب لنصارى نجران.
ولان السورة مكية فاننا نرجح ان هذه الآية قد نزلت جوابا على سؤال المشركين لكننا لا نستبعد ابدا انها نزلت جوابا على سؤال اليهود.
يقول الطبرى فى تفسيره:
عن سعيد, قال: أتى رهط من اليهود النبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق, فمن خلقه؟ فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى انتُقِع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه, فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه, وقال: اخفض عليك جناحك يا محمد, وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه. قال: " يقول الله: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) " فلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم, قالوا: صف لنا ربك كيف خلقه, وكيف عضده, وكيف ذراعه, فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم أشدّ من غضبه الأول, وساورهم غضبا, فأتاه جبريل فقال له مثل مقالته, وأتاه بجواب ما سألوه عنه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ .
اذن اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه و سلم (يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه?).
وهذا سؤال دهري لا يسأله الا من لا يعرف شيئا فى الفلسفة (مثلا كفار قريش) لكن اليهود رغم انهم اهل كتاب -يدعون انهم شعب الله المختار- هم ادرى من ان يسألوا هذا السؤال الغبى الا انهم سألوا ليس لعدم العلم بل لسبب جحودهم وعنادهم و جدالهم ليس لأى سبب موضوعى آخر .
وقد غضب الرسول صلى الله عليه و سلم لربه من سؤالهم فسكنه جبريل عليه السلام و انزل الله سبحانه و تعالى سورة الصمد جوابا على سؤالهم.
لكن لكفر شعب الله المختار ليس له حدود و تعديهم الحدود ليس له حد. فانه بعد هذا الجواب فانهم واصلوا سؤال النبى السؤال نفسه لكن بطريقة مختلفة (صف لنا ربك كيف خلقه و كيف عضده و كيف ذراعه) وهذا من اكبر الجحود و العناد و الجدال. فغضب الرسول مرة اخرى اشد من غضبه الاول و أتاه جبريل و سكنه و انزل الله سبحانه و تعالى الآية العظيمة الاخرى (و ما قدروا الله حق قدره).
اذن سورة الصمد تبدأ بفعل الامر (قل).
اذن يقول الله سبحانه و تعالى للرسول صلى الله عليه و سلم (قل) وهذا على لسان الملك جبريل عليه السلام. هنا اذن (قل) هى بمعنى (قل ايها النبى). و اللفظ هو من عند الله و جبريل هو ناقل للفظ ليس الا. اذن العقل الفعال (الملك) و العقل المستفاد (النبى) يتوحدان فى حالة تشابك ميتافيزيقى عند لحظة الوحى فهما عند هذه اللحظة جملة وعى واحدة.
لكن البعض قد يقول ان القرآن هو من عند الرسول صلى الله عليه و سلم. و هم يُقرون ان الرسول صادق لكن الوحى الذى يأتيه هو كلام ما سوف اسميه هنا (الوعى الممتاز) و ليس كلام الله الخارجى.
وهذا (الوعى الممتاز) هو اعلى مستويات الوعى عند الانسان. وهو وعى فوق الوعى الظاهر (وهو الوعى العادى) مثلما ان الوعى الظاهر هو فوق الوعى الباطن (وهو اللاوعى).
وقد تكون هناك مستويات اخرى من الوعى. مثلا الملك الذى يأتى الى النبى بالوحى هو ايضا حسب هؤلاء مرتبة اخرى من الوعى تأتى بين الوعى الممتاز و الوعى الظاهر.
من الواضح ان هذا الوعى الممتاز غائب عند جميع البشر.
اذن حسب هؤلاء فان الرسول (الوعى الممتاز) يقول للرسول (الوعى الظاهر): (قل) و هذا على لسان الملك الذى هو فى حد ذاته مستوى آخر من الوعى بين الوعى الممتاز و الوعى الظاهر.
اذن هذا جنون فالمجنون يرى فعلا اشياء و يسمع اشياء ليست هناك فى الواقع. اذن الجنون هو ايضا مستوى آخر من الوعى.
و قد شبهت قريش النبى بالجنون ايضا (كذلك ما اتى من قبلهم من رسول الا قالوا ساحر مجنون).
لكن المؤكد و المجمع عليه بين الجميع ان النبى ليس مجنون.
و قد شبه ابن سينا و الغزالى النبوة بالجنون من ناحية ان الوعى الممتاز او الوعى النبوى ليس هو الوعى الظاهر كما ان وعى الجنون ليس هو ايضا الوعى الظاهر.
الوعى كما ذكرنا فى مكان آخر يتميز بالاحتمال و ليس باليقين.
هنا نضيف ان الوعى يتميز بالخيال و ليس بالحقيقة.
والوعى فى حالة رصد مستمرة للواقع المادى و هو فى حالة تخيل مستمرة عن الواقع اللامادى.
الجنون الذى يقع فيه ان الوعى الظاهر برصده و تخيله يتوحد مع الواقع المادى و لا يستطيع بعدها المجنون التمييز بينهما لانه ليس لديه شيء آخر.
اما النبوة فان الذى يقع فيها ان الوعى الظاهر يتوحد تماما بالتخيل مع الواقع اللامادى و يبقى للوعى قدرته على الرصد التى ستسمح له برصد هذا الواقع اللامادى مثلما انه يستطيع ان يرصد الواقع المادى.
اذن التخيلات التى يراها النبى هى بالضبط حقيقة الواقع اللامادى ليست مثل تخيلات المجنون التى هى تخيلات الواقع المادى.
وبالنسبة لغير العارف فان حقائق الواقع اللامادى قد تبدو هى الاخرى تخيلات بالنسبة الى ما تعود عليه من الواقع المادى.
اذن الرسول ليس بمجنون و ذلك الوعى الممتاز (الذى افترضنا انه داخلى و الذى هو فوق الوعى الظاهر) هو ليس الا العقل الفعال نفسه اى الملك نفسه ليس شيئا آخر اذن هو وعى خارجى يتوحد معه الوعى الظاهر فى لحظة الوحى.
اذن الوعى الفعال او الملك هو الوعى الخارجى الذى يتوسط و الذى هو حلقة الوصل بين الوعى الظاهر و بين الله.
او ان الملك هو الوعى الكونى نفسه. اى ان الكون هو الذى يتوسط و هو خلقة الوصل بين الوعى و الله عند النبى.
اذن يقول الله سبحانه و تعالى للرسول صلى اله عليه و سلم (قل) اى (قل ايها النبى) عبر الوعى الممتاز او الوعى الكونى او العقل الفعال او الملك فهذه كلها مصطلحات مترادفة.
وفى لحظة الوحى فان الوعى الظاهر للنبى يتوحد مع هذا الوعى الممتاز الكونى فى وعى واحد هو ما يسميه الفارابى و ابن سينا و الغزالى العقل المستفاد.
اذن (قل) فى سورة الصمد تعبر عن (الوحى). و الوحى هو فعل تزامنى غير-سببى يربط الله سبحانه و تعالى بخلقه. بل ان (الوحى) هو الفعل الالهى الوحيد الذى يربط بين الله و خلقه بعد فعل الخلق الاول (كن). اما غير هذا فان الكون هو ساعة تسير لوحدها و بكل دقة بالاسباب المودعة فيها عندما خلق الله الكون اول مرة.
اما (هو) فهى تعبر عن الوجود.
و اسم الله الاعظم (الله) يعبر عن الذات الالهية.
اما (احد) فهى تعبر عن احد اهم صفاته سبحانه و تعالى وهى الوحدانية. وهذا موجه الى المشركين.
اما اسم الله الاعظم (الله) فيعبر هنا عن بقية الصفات الالهية.
اما (الصمد) فهو يعبر عن القيومية اى ان الله قائم بنفسه و كل شيء آخر هو قائم بغيره.
(لم يلد) وهذا يعبر عن البقاء اى ان الله هو الباقى اى انه هو الآخر. فهو سبحانه و تعالى رغم انه لم يلد فانه باق عكس الانسان الذى لن يبقى لو لم يلد. اذن هذه تعبر عن نفى الشبه بالانسان وهى موجهة بالخصوص الى المسيحيين الذين قالوا ان المسيح ابن الله.
(لم يولد) و هذا يعبر عن القدم اى ان الله سبحانه و تعالى هو القديم و هو الاول و كونه هو الاول يعنى انه لم يولد. وهذا موجه الى اليهود و الدهرية.
(ولم يكن له كفؤا احد). وهذه الآية تنفى عن الله سبحانه و تعالى الانداد.
و كلمة (أحد) مثل كلمة (أحد) المذكورة فى بداية السورة تعنى (الوحدة) وهى يتميز بها كل من الكون و الوعى كما يتميز بها الله سبحانه و تعالى. اما بالنسبة الى الله سبحانه و تعالى فان هذه (الوحدة) هى (الوحدانية) وهى شيء مخصوص به سبحانه و تعالى.
اما وحدة الوعى فهى واضحة حيث نشعر ان النفس هى شيء واحد لا ينقسم و لا يتجزأ و لا ينفصل و لا يتصل.
لكن الكون ايضا يتحلى بهذه الوحدة فهو خاضع الى نفس القوانين السببية و الفيزيائية و التطورية التى تعمل فيه منذ بدايته فى الانفجار الاعظم حتى نهايته فى الموت الحرارى.
اذن (لم يكن له كفؤا احدا) تعنى ان الكون و الانسان هما (احد) و ذلك الاحد ليس كفؤا لله سبحانه و تعالى.
و نأخذ كمثال فعل الخلق.
فان الله يخلق و الكون يخلق و الانسان يخلق مثلما ان الله احد و الكون احد و الانسان احد.
لكن خلق الله هو خلق عن عدم او من عدم او هو فيض او هو تجلى وهو فعل (كن).
اما خلق الكون فهو عبر القوانين السببية و الفيزيائية و التطورية المودعة فيه وهو فعل (الانبعاث).
أما خلق الانسان فهو عبر تسخير القوانين العقلية و الكونية وهو فعل (الصنع).
اذن الخلق الكونى و الخلق الكونى هو خلق لكنه ليس كفؤا للخلق الالهى مثلما ان وحدة الكون و وحدة الوعى هى أحدانية لكنها ليست كفؤا للوحدانية الالهية.
والآية (لم يكن له كفؤا احدا) اقل عمومية من الآية (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
اﻷية الولى تستخدم (الماضى) لانها تؤكد من اللازمان الذى هو نهاية الزمان -اذا صح هذا التعبير- ان ليس هناك احد كفؤا لله سبحانه و تعالى.
هذه الاحدانية تنطوى ضمنيا على صفة الوعى ففعلا الوعى ( اى وعى الانسان) هو الشيء الوحيد -تقريبا- الذى لديه وحدة واضحة نتكلم عنها و كأنها حقيقة لا جدال فيها. لكن الكون ايضا يتميز بوحدة تتحلى بوعى اولى بل تتحلى بحرية منظوريانية اولية -كما نبهنا الى ذلك فى مكان آخر- و هما يتمثلان فى القوانين المودعة فيه التى تمكنه من تحقيق فعل الانبعاث من تلقاء نفسه (انبعاث النجوم و انبعاث الحياة و انبعاث الوعى و انبعاث العقل,ألخ).
اذن الاحدانية فى الآية يقصد بها أحدانية الكون و الانسان التى تنطوى ضمنا على وعى و وحدة الكون و الانسان ليست كفؤا لوحدانيته سبحانه و تعالى بل ان الكون و الانسان ليسا كفؤين لله سبحانه و تعالى.
أما الآية (ليس كمثله شيء) هى تنفى عن الله سبحانه و تعالى أن تشبهه الاشياء بمعنى (ان الله لا يشبهه شيء سواء كان عينا ثابتة فى العلم او كان موجودا عينيا فى العالم الخارجى).
اذن الله سبحانه و تعالى لا يشبهه شيء موجود فى العالم الخارجى سواء كان هذا الشيء يتحلى بوعى او من دون وعى.
لكن الآية تكتمل بالقول (وهو السميع البصير) اى ان الله لا يشبهه شيء فى العالم الخارجى لكنه يتميز بسمع و بصر اى انه يتميز بوعى (الوحدانية و السمع و البصر و العلم و الارادة و القدرة ...).
اذن الآية الاولى نفت ان الله يشبهه اى وعى اما الآية الثانية فانها نفت ان الله يشبهه اى شيء ثم عادت و اثبتت الوعى الالهى.
اذن الوعى فعلا (ما قدروا الله حق قدره).
الجبرية و القدرية و السنة: شرح آية الميثاق و القدر المنظوريانى و الثلاثية (ذكاء الهى-ذكاء انسانى-ذكاء اصطناعى).
التواؤمية نظرية اساسية و المنظوريانية فعالة بالنسبة الى منظوريانية الله.
والعكس بالنسبة الى منظوريانية الانسان.
أهل السنة يقفون بخصوص معضلة (حرية الارادة) فى الوسط بن الجبرية و القدرية. هكذا نعتقد و يعتقد الجميع.
لكن هل هذا فعلا صحيح.
نقول ان اكثر من ثلث و قد يكون نصف الرسالة الطحاوية يدور حول مسائل القضاء و القدر. سبعة اصول يمكن استخراجها بكل سهولة و يسر:
1-علم الله محيط بكل شيء. وهذا هو اصل الاصول.
2-ارادة الله و مشيئته غالبة على جميع المشيئات. وهذا هو الاصل الثانى.
3-ان الله يخلق كل شيء و هو يخلق الخير و الشر وهما مقدران على الانسان. وهذا اصل عند اهل السنة.
4-ان هناك ميثاق بين الله و ذرية آدم. وهذا يغفل عنه الكثير.
5-ان الجنة و النار لا تبيدان. وهذا هو يركز عليه الجميع. الخلود سوف يستقيم مع الميثاق لو تأملنا.
6-ان الانسان لديه استطاعة. وهذا يتفق عليه الجميع باستثناء الجبرية.
7-ان الله يخلق فعل الانسان و ليس للانسان الا الكسب.
خلاصة الخلاصة ان (الله عالم بكل شيء و خالق لكل شيء و مريد لكل شيء) لكن (الانسان حر و مختار و مسؤول) وتبقى اذن المسألة كيف نجمع بين القضيتين.
الجبرية تقبل الاصل الاول فى ان علم الله محيط بكل شيء و تقبل ايضا الاصل الثانى فى ان ارادة الله غالبة على كل شيء و تقبل الاصل الثالث فى ان الله خالق لكل شيء لكنها لا تكترث الى اى شيء آخر.
اما القدرية (والمعتزلة تعتبر منهم) فهم عموما يقبلون الاصل الاول فى احاطة علم الله سبحانه و تعالى بالاشياء لكنهم ينسبون القدر كليا او جزئيا الى الانسان فقالوا أن الفعل مخلوق للانسان و ان الشر مخلوق للانسان و بعضهم قال بل ان الخير و الشر معا ينسبان الى الانسان لانه خالق لفعله.
وكانت القدرية الاولى (مثل بعض متكلمة مسيحية اليوم) تنفى تماما احاطة علم الله سبحانه و تعالى بالاشياء. وقد كان الشيخ الرئيس ابن سينا و كذا الشيخ الشارح ابن رشد قد نفيا علم الله بالجزئيات و من هذه الجزئيات قد تكون افعال الانسان.
كما ترون فان السنة تحاول ان تجد موقعا وسطا بين الفريقين لكنها فى الحقيقة هى اقرب الى الجبرية منها الى القدرية. و اهم شيء يلتقى فيه الجبرية و السنة هو نسبتهما خلق كل من الخير و الشر الى الله سبحانه و تعالى.
وانظروا مثلا موقف ابن تيمية من خلاف بعض السلف (الاوزاعى و الزبيدى) حول جواز اطلاق كلمة الجبر رغم اتفاقهم على المعنى منها.
اذن السؤال ماهو اسوء (نفى علم الله بافعال الانسان) او (نسبة الشر الى الله سبحانه و تعالى).
مائة بالمائة من السنة ترى ان القضية الاولى اسوء ولهذا اثبتوا احاطة علم الله بالاشياء ثم قالوا ان الانسان له كسب قط فى افعاله (وهم الاشاعرة) او انه له ارادة جزئية هى مناط المسؤولية (وهم الماتريدية) .
واظنهم (اى السنة) ذهبوا الى هذا الرأى لانهم يعتقدون فى اللاوعي ان الله سبحانه تعالى وهو الملك الجبار هو مثل اى ملك جبار على ظهر هذه الارض.
وجميع الملوك الجبابرة على الارض يسهل عليهم فعل الشر و لا يهمهم نسبة الخير كما الشر اليهم لكنه ينقص فيهم ان لا يحيط علمهم و ارادتهم و قدرتهم جميع مملكتهم.
وقد كان نشوز اهل السنة من القدرية الى الحد انهم سموهم مجوس هذه الامة ووجدوا الاحاديث التى تدعم رأيهم (لكن هل كان فعلا الرسول يعرف القدرية و الجبرية و غيرهم من الفرق قبل ان يكونوا. ام ان هذه تعبتر من معجزات النبى ان يتنبأ بالفرق التى ستطهر فى امته صلى الله عليه و سلم.
وهم مجوس لان المجوس هم ثنوية من اتباع زرادشت و مانى كانوا يؤمنون بالهين همت اله الخير و اله الظلمة.
واذا كانت القدرية مجوس هذه الامة فان الجبرية هم يهود هذه الامة. و لان السنة تميل الى الجبرية فهم فيهم ميل الى اليهود. واننى قد شبهت فى مكان آخر الفكر التسلفى بالفكر الاسرائيلى التراثى.
الم يقل اليهود (يد الله مغلولة) اى ان الله يبخل علينا و يمنعنا فضله مع انهم يعتقدون من الجهة الاخرى انهم شعب الله المختار و قد كان الله اختارهم بالفعل فى الماضى (وانى فضلتكم على العالمين) و بعث فيهم كل هؤلاء الانبياء من اسحاق الى غاية موسى عليهم السلام لكنهم مرقوا و كفروا و عاندوا و اصروا على افعالهم مثلما فعل ابليس قبلهم .
بنفس الطريقة فان الجبرية قالوا ان الله يبخل علينا و يمنعنا فضله (بجبره لنا) مع انهم يعتقدون من الجهة الاخرى انهم (خير امة اخرجت للناس) .
الذى يهمنا هنا هو ان رأى السنة هو ما يسمى اليوم بالحرية التواؤمية فى الفلسفة وهو محاولة الجمع بين (احاطة علم الله بالاشياء) من جهة و (مسؤولية الانسان) من جهة اخرى. وهذه الحرية التواؤمية كما ذكرت فى مكان آخر هى ليست الا جبر فى قالب اختيار.
وهذا حل لا يمكن ان يرضى عنه مسلم لأن فيه نسبة الظلم و القتل و القهر و الاستعباد و المرض و كل انواع الشر الاخرى الى الله سبحانه و تعالى.
نحن ندعوا الى الحرية المنظوريانية وهى حرية حقيقية يتحلى بها الانسان فى جواره الاقرب من الواقع الذى يجد نفسه ساقط سقوطا حرا فيه. هذه الحرية المنظوريانية هى حرية فى قالب جبر و هذا عكس التواؤمية التى هى جبر فى قالب حرية.
اذن الحرية المنظوريانية هى حرية الوعى النفسية فى اطار جبر الواقع الفيزيائى. هذه الحرية تنسب القدر المنظوريانى الى الانسان. اى افعال الانسان و اختياراته فى جواره الاقرب من الواقع الذى هو ساقط فيه سقوطا حر هى فعلا ملك للانسان و هو خالق لها.
اذن الحرية المنظوريانية (التى هى حرية من منظور الوعى اى حرية من وجهة نظر معلم الاسناد العطالى الميتافيزيقى للوعى رغم ان متشعب الواقع هو جبرى) تستلزم القدر المنظوريانى (الذى هو قدر من منظور الوعى اما متشعب القدر فهو كله فى يد الله سبحانه و تعالى اى هو تحت هيمنة الله سبحانه و تعالى عبر جبرية القوانين الكونية).
اما (احاطة علم الله سبحانه و تعالى بالاشياء) فهذه محفوظة لان المعلوم سابق للعلم (كما نبه الى ذلك العبقرى ابن عربى) و ليس ان العلم سابق للمعلوم (كما اتفق عليه جميع فلاسفة و متكلمة الاسلام).
الله حى بالوجود وهو عالم و مريد بمشيئة و قادر و الانسان حى بالوعى وهو واع حر باختار و مستطيع.
اعطى مثال.
الله سبحانه و تعالى (يحيط علمه سبحانه و تعالى بجميع افعاله) لكن الله سبحانه و تعالى هو ايضا (فعال لما يريد).
هنا نحن نفترض ضمنا ان هناك زمن الهى (الدهر) لا اول و لا آخر له تسرى فيه الافعال الالهية.
هل احاطة علمه سبحانه و تعالى بفعله ستحد من ارادته سبحانه و تعالى و مشيئته. أكيد الجواب بالنفى.
ولله المثل الاعلى. بنفس الطريقة فان احاطة علمه سبحانه و تعالى بفعل الانسان لن تحد من حرية الانسان و اختياره.
وكما ان الله يفعل بقدرة مطلقة فان الانسان يفعل باستطاعة منظوريانية.
الانسان يملك اذن قدره فى معلم الاسناد العطالى للوعى وهذا هو القدر المنظوريانى.
مثال آخر.
كما ذكرنا فى مكان آخر هناك ذكاء الهى (علم و ارادة و قدرة الله) وهناك ذكاء انسانى (وعى الانسان) و قد يكون هناك ذكاء اطناعى (وعى اصطناعى).
الله يخلق الكون مباشرة عبر فعل (كن) الذى هو خلق من عدم او خلق عن عدم او تجلى او فيض.
لكن الله لا يخلق الانسان مباشرة لكن عبر الكون. بل الكون هو الذى خلق الانسان مباشرة عبر القوانين السببية و الفيزيائية و التطورية.
اذن هناك ايضا ذكاء طبيعى يضم الذكاء الكونى بالاضافة الى الذكاء الانسانى و قد يضم الذكاء الاصطناعى.
بنفس الطريقة فان الانسان سوف يخلق الذكاء الاطناعى ليس مباشرة بل عبر العقل و الكون معا.
و كما ذكرت فى مكان آخر هناك مستويات للخلق. واعظمها خلق الله الذى هو خلق عن عدم و من عدم و تجلى و فيض. لكن هناك ايضا خلق الكون للاشياء فى الكون التى هى عبارة عن انبعاث. اما خلق الانسان للاشياء فهو عبر الوعى و العقل و الحرية.
هل نقول ان الله خلق السيارة او ان الكون خلق السيارة. اكيد الجواب بالنفى. فهذا غير مستساغ.
اذن السيارة خلقها الانسان بتسخير الاسباب العقلية و الكونية عبر الحرية المنظوريانية التى يتحلى بها الوعى.
بنفس الطريقة فان الانسان قد يخلق الذكاء الاصطناعى بتسخير الاسباب العقلية و الكونية عبر الحرية المنظوريانية.
لنتصور الآن ان هذا الذكاء الاصطناعى يتحلى بالوعى الكامل اى الوعى بالذات و الوعى بالحرية و الوعى بالشر.
اذن هذا الذكاء اصبح ايضا حر حرية منظوريانية من وجهة نظره فى معلم اسناده العطالى الميتافيزيقى. وقد يفعل الخير و قد يفعل الشر. واذا فعل الشر فهل سننسب هذا الشر الى الانسان الذى خلقه اولا. هل سنلوم او سنحاسب الانسان الذى خلق اولا هذا الذكاء الاصطناعى على ما يفعله هذا الذكاء الاصطناعى من شر.
اذا كان هذا الذكاء الاصطناعى حر حرية منظوريانية فهو اذن حر حرية حقيقية و عليه فهو مسؤول على افعاله وهو الذى خلق ذلك الشر الذى قام به باختياره و حريته.
لكن الانسان قد كان خلق هذا الذكاء الاصطناعى كما ذكرت بتسخير الاسباب العقلية و الكونية اذن هو يعرف سر قدر هذا الذكاء الاصطناعى اى ان هذا الانسان يجب ان يحيط علمه بجميع الاشياء التى قد يفعلها هذا الذكاء الاصطناعى.
لكن احاطة علم هذا الانسان بافعال هذا الذكاء الاصطناعى ليست هى من باب ان العلم (علم هذا الانسان) سابق للمعلوم (فعل هذا الذكاء الاصطناعى).
بل هى من باب ان المعلوم سابق للعلم.
بمعنى ان الانسان كما انه صنع هذا الذكاء الاصطناعى فهو يمكنه ان يحاكى صنع هذا الذكاء الاصطناعى قبل ان يصنعه.
وفى تلك المحاكاة للذكاء الاصطناعى التى يجريها الانسان فان هذا الاخير سوف يرى جميع المسارت الممكنة التى يمكن لهذا الذكاء الاصطناعى ان يسلكها.
اذن يقرر الانسان ان يصنع بل يخلق هذا الذكاء الاصطناعى و يخلق معه و فيه قوانين اسيموف Asimov laws (واسيموف تذكروا هو من اكبر كتاب الخيال العلمى الامريكان) و اى قوانين اخرى تجعل هذا الذكاء الاصطناعى يميز بين الحق و الباطل و بين الخير و الشر و بين الصواي و الخطأ و بين الحسن و القبيح ثم يخلق الانسان هذا الذكاء الاصطناعى.
هذه القوانين الاسيموفية هى الميثاق بين الانسان و الذكاء الاصطناعى.
هذا الذكاء الاصطناعى هو كما ذكرنا واع و يتحلى بحرية منظوريانية (وهما من اعظم الصفات) و محور الوعى و الحرية المنظوريانية هو ان يختار الوعى ترك الخير و فعل الشر أو ترك الحسن و فعل القبيح رغم تمييزه التام بينهم.
فانه اذا لم تكن هناك هذه القدرة على اختيار الشر و القبيح و ترك الخير و الحسن فانه ليس هناك حرية من الاساس. اذن على هذا الرأى فانه ليس هناك حل للشر و العذاب الا فى التخلى عن الحرية و الوعى.
ولله المثل الاعلى.
فان الله قد خلق الانسان بتسخيره للقوانين الكونية عبر ارادته و قدرته مثلما ان الانسان خلق الذكاء الاصطناعى بتسخيره للقوانين العقلية و الكونية عبر حريته المنظوريانية و استطاعته.
لكن الله خلق هذا الانسان و اخذ عليه الميثاق بأن اعطاه القدرة على التمييز بين الخير و الشر و الحسن و القبيح.
قال سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ {الأعراف: 172-173}
وهذه آية عظيمة تحتاج الى شرح اكبر نرجع اليه فى المستقبل ان شاء الله.
اذن احاطة علم الله بافعال الانسان هى احاطة شاملة بمعنى ان المعلوم (فعل الانسان) سابق للعلم (علم الله).
وهذا بمعنى ان الله قبل ان يخلق العالم الخارجى بما فيه من الانسان و افعاله فان هذا العالم الخارجى قد كان محاكاة فى علم الله سبحانه و تعالى تحتوى على جميع المسارات الممكنة التى قد يسلكاها الانسان.
اذن ليست كل الاعيان الثابتة فى علم الله سبحانه و تعالى تخرج الى الوجود فى العالم الخارجى بل ان اكثرها هى محاكاة (فرضية المحاكاة) وجودها يقع بين عالم العلم (الاعيان الثابتة) و عالم المادة (الموجودات العينية).
و الشواهد من الطحاوية هى كما يلى:
يقول الطجاوى بخصوص العلم الالهى و الارادة الالهية و القدر:
خَلَقَ الـخَلْقَ بِعِلْمِهِ، وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَرَبَ لَهُمْ ءَاجَالاً، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَىْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَكُلُّ شَىْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لاَ مَشِيئَةَ لِلعِبَادِ إِلاَّ مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً. وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ. وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الأَضْدَادِ وَالأَنْدَادِ. لاَ رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلاَ غَالِبَ لِأَمْرِهِ.
ثم يقول الطحاوى فى الميثاق:
وَالـمِيثَاقُ الَّذِي أَخَذَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ ءَادَمَ وَذُرِّيَّتِهِ حَقٌّ.
ثم يقول الطحاوى بخصوص عدد من يدخل الجنة و النار و قضاء الله و اصل القدر:
وَقَدْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الـجَنَّةَ، وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ العَدَدِ وَلاَ يَنْقُصُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ أفْعَالَهُمْ فِيمَا عَلِمَ مِنْهُمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ. وَالأَعْمَالُ بِالـخَوَاتِيمِ.
وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالَى ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالَى.
وَأَصْلُ القَدَرِ سِرُّ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. وَالتَّعَمُّقُ وَالنَّظَرُ فِي ذَلِكَ ذَرِيعَةُ الـخِذْلاَنِ، وَسُلَّمُ الـحِرْمَاِن، وَدَرَجَةُ الطُّغْيَانِ، فَالـحَذَرَ كُلَّ الـحَذَرِ مِنْ ذَلِكَ نَظَرًا وَفِكْرًا وَوَسْوَسَةً، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى طَوَى عِلْمَ القَدَرِ عَنْ أَنَامِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَرَامِهِ كَمَا قَالَ تَعَالىَ فِي كِتَابِهِ:{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. فَمَنْ سَأَلَ لِمَ فَعَلَ فَقَدْ رَدَّ حُكْمَ الكِتَابِ، وَمَنْ رَدَّ حُكْمَ الكِتَابِ كَانَ مِنَ الكَافِرِينَ.
ثم يقول الطحاوى فى اللوح و القلم و القدر مرة اخرى:
وَنُؤْمِنُ بِاللَّوحِ وَالقَلَمِ وَبِجَمِيعِ مَا فِيهِ قَدْ رُقِمَ. فَلَوِ اجْتَمَعَ الـخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى شَىْءٍ كَتَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّهُ كَائِنٌ لِيَجْعَلُوهُ غَيْرَ كَائِنٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. وَلَوِ اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عَلَى شَىْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ تَعَالىَ فِيهِ لِيَجْعَلُوهُ كَائِنًا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ ، وَمَا أَخْطَأَ العَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ، وَمَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ.
وَعَلَى العَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهَ قَدْ سَبَقَ عِلْمُهُ فِي كُلِّ كَائِنٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَقَدَّرَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا مُحْكَماً مُبْرَمًا لَيْسَ فِيهِ نَاقِضٌ وَلاَ مُعَقَّبٌ وَلاَ مُزِيلٌ وَلاَ مُغَيّرٌ وَلاَ مُحَوَّلٌ وَلاَ نَاقِصٌ وَلاَ زَائِدٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ. وَذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الإِيمَانِ وَأُصُولِ الـمَعْرِفَةِ وَالاعْتِرَافِ بِتَوحِيدِ اللهِ تَعَالىَ وَرُبُوبِيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالىَ فِي كِتَابِهِ : {وَخَلَقَ كُلَّ شَـْئٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وَقَالَ تَعَالىَ : { وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}.
فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لِلّهِ تَعَالَى فِي القَدَرِ خَصِيماً، وَأَحْضَرَ لِلنَّظَرِ فِيهِ قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أَثِيمًا.
ثم يقول الطحاوى فى خلود الجنة و النار و الخير و الشر و استطاعة العباد و افعال العباد:
وَالـجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ لاَ تَفْنَيَانِ أَبَدًا وَلاَ تَبِيدَانِ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الـجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الـخَلْقِ وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الـجَنَّةَ فَضْلًا مِنْهُ وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلاً مِنْهُ، وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ.
وَالـخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلىَ العِبَادِ.
وَالاسْتِطَاعَةُ التِي يَجِبُ بِهَا الفِعْلُ مِن نَحْوِ التَّوْفِيقِ الذِي لاَ يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الـمَخْلُوقُ بِهِ فَهِيَ مَعَ الفِعْلِ، وَأَمَّا الاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصَّحَّةِ وَالوُسْعِ وَالتَّمَكُّنِ وَسَلاَمَةِ الآلاَتِ فَهِيَ قَبْلَ الفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الـخِطَابُ، وَهِيَ كَمَا قَالَ تَعَالىَ:{لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهُا}.
وَأَفْعَالُ العِبَادِ خَلْقُ اللهِ وَكَسْبٌ مِنَ العِبَادِ. وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللهُ تَعَالَى إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ، وَلاَ يُطَيَّقُونَ إِلاَّ مَا كَلَّفَهُمْ، وَهُوَ تَفْسِيرُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. نَقُولُ: لاَ حِيلَةَ لأَحَدٍ، وَلاَ حَرَكَةَ لأَحَدٍ وَلاَ تَحَوُّلَ لأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلاَّ بِمَعُونَةِ اللهِ، وَلاَ قُوَّةَ لأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلاَّ بِتَوفِيقِ اللهِ.
وَكُلُّ شَىْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالىَ وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. غَلَبَتْ مَشِيْئَتُهُ الـمَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الـحِيَلَ كُلَّها. يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ وَحَيْنٍ ، وَتَنَـزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
الحياتان و الموتان
و كنتم امواتا فاحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم
البقرة 28
ربنا أمتنا اثنتين و احييتنا اثنتين
غافر 11
التفسير الاول (مذهب السلف):
الموت الاول (فى الماضى) هو قبل ان يأتى الانسان الى الدنيا.
و الحياة الاولى (فى الماضى) هو عندما جاء الانسان الى الدنيا.
والموت الثانى (فى المستقبل) هو الموت الذى ننتظره.
و الحياة الثانية (فى المستقبل) هو البعث.
التفسير الثانى:
الموت الاول هو الموت فى الدنيا الذى سنلاقيه.
و الحياة الاولى هو السؤال فى القبر.
والموت الثانى هو الموت فى القبر.
و الحياة الثانية هو البعث.
التفسير الثالث:
الحياة الاولى عند الاستخراج من ظهر آدم و أخذ الميثاق.
الموت الاول هو الارجاع الى ظهر آدم.
الحياة الثانية هى الدنيا.
الموت الثانى هو الموت الذى سنلاقيه.
التفسير الوجودى يعتمد على قاعدة ابن عربى فى ان كل معنى مفهوم من القرآن الكريم هو معنى مقصود من الله سبحانه و تعالى.
نبدأ بالقول ان هناك محطات رئيسية لوعى الانسان هى خمسة محطات:
-الميثاق الآدمى.
-الوجود فى الدنيا.
-الموت الاكبر.
-السؤال فى القبر.
-البعث الأكبر.
اذن حسب نص الآيتين فان الحياة هى فى الحقيقة حياتان هما:
الحياة الاولى هى الحياة بين الوجود و الموت اى الحياة فى الدنيا.
وهى حياة مادية-نفسية بالاجماع.
من الناحية الطوبولوجية هذه الحياة هى قطعة مستقيمة واحدة غير متقطعة.
اما الحياة الثانية فهى الحياة بعد الموت اى الحياة فى البرزخ.
وهى حياة نفسية على المرجح.
و هى تتشكل طوبولوجيا من قطعتين مستقيمتين هما:
-اولا الحياة عند السؤال (اى الفترة بين البعث الاصغر فى القبر و اعادة الاماتة بعد الانتهاء من السؤال).
-و ثانيا الحياة بعد البعث الاكبر (اى الحياة بعد الاحياء النهائى من الموت الاكبر من اجل الحساب).
اما الموت فهو فى الحقيقة موتان هما:
الموت الاكبر و هو الموت الذى يأتى بعد الحياة فى الدنيا. وهو ايضا يتشكل طوبو لوجيا من قطعتين مستقيمتين متقطعتين هما:
- اولا الفترة بين الموت و السؤال.
-و ثانيا ثم الفترة بين السؤال و البعث.
اما الموت الثانى فهو الفترة التى تسبق الحياة فى الدنيا بين اخذ الميثاق و الوجود.
لاحظوا اولا ان الموت الثانى يسبق زمنيا الموت الاول (أو على الاقل هكذا يبدو الامر).
لا حظوا ايضا انه تبقت معنا الحياة بين فترة الاستخراج من ظهر آدم و آخذ الميثاق و فترة الموت الثانى و انتظار القدوم الى الدنيا.
هذه الحياة يجب ان تكون جزءا من الحياة الثانية فى البرزخ و هذا حتى لا يختل عدد الحيوات.
اى ان الزمن يجب ان يكون دائرى و ليس خطى و هذا كنا قد قلناه من قبل من اجل اسباب مختلفة.
اذن قصة خلق آدم عليه السلام فى الجنة و قصة اخذ الميثاق هى فى الحقيقة تقع زمنيا فى نهاية قصة البعث.
او بالاحرى لا يمكن تعريف نقطة المبدأ على الدائرة فكل نقطة على الدائرة تصلح ان تكون هى مبدأ الزمن و مبدأ القصة.
ولان الوعى لا يمكنه ادراك هذه الدائرة الزمنية فهو يأخذ قصة آدم كمبدأ و قصة البعث كمنتهى لكن فى الحقيقة يمكن فعل العكس دون تغيير اى شيء اى قصة البعث هى المبدأ و قصة آدم هى المنتهى.
الوعى لا يمكنه ادراك الزمن الدائرى و لهذا فهو لا يستطيع تذكر الميثاق مثلما انه لا يستطيع التنبؤ بالسؤال فى القبر و البعث الاكبر.
و لان الزمن دائرى و الوعى يعجز عن ادراك كنه هذا الزمن الدائرى فانه كان يمكننا القول ان الوعى هو الذى لا يستطيع تذكر السؤال فى القبر كما انه لا يستطيع التنبؤ بالميثاق.
فالماضى و المستقبل على الدائرة الزمنية ليس لهما معنى حقيقى ذاتى مطلق.
اذن لأن الزمن دائرى فان كل شيء وقع سيقع مرة اخرى عدد لانهائى من المرات و هذه هى فكرة التكرار الابدى الوجودية عند نيتشة.
العبثية الكونية و العبثية الروحانية و الطريق الثالث
علم الكلام ينطلق من (الله) من اجل الوصول الى (العالم).
والعالم يقصدون به الكون و قليل منهم من تجده يفكر فى الوعى رغم ان الوعى هو مدار روحانية الدين و ليس العالم.
اما الفلسفة فهى تريد ان تنطلق من (العالم) من اجل الوصول الى (المعنى) و المعنى هو (الله) عند الفلاسفة المؤمنين اما عند غيرهم فهو امر غامض لا يستطيعون تبيانه.
هنا اقدم طريق ثالث بين ما أسميه (العبثية الروحانية) و ما سماه نيتشة (العبثية الكونية).
اولا اذكر ان اصدق انواع الفلسفات بدون منازع هى الفلسفة الوجودية التى تركز على
التجربة الانسانية و التى تؤكد عدم وجود اى معنى فى هذه الحياة (وهذا ما يسمى العدمية). بل ان كل هذا الوجود هو عبثى بل اكثر من هذا فان وجودنا كله ليس الا خطأ كونيا (بافتراض انه ليس هناك الله فى هذا الوجود وهذا ما تفترضه الوجودية كغيرها من الفلسفات الاخرى).
اذن هناك اتفاق بل اجماع على انه لا يوجد معنى من دون وجود قوة مركزية فى الوجود. هذا فعلا لا شك فيه و لا غبار عليه.
الخلاف او الذى يحيرنى ان كثير من الفلاسفة الوجوديين منهم و غير الوجوديين يصرون على البحث عن المعنى رغم اقرارهم بالعبثية وهذا مع الاجماع بينهم على عدم وجود الله.
فعلا معضلة الشر -التى تنبع منها العبثية- هى اكبر حجة على عدم وجود الله -وهذا لا يشعر بخطورته المتكلمون الذى يصرون على الجدل الصورى-. هذا صحيح.
لكن معضلة الشر هى تنبع من حرية الانسان و وعيه. وحرية الانسان ضرورية ايضا من اجل تحقيق المعنى. اذن الشر لا بد منه لان حرية الانسان لا بد منها لكن العبثية يجب التخلص منها بالاجماع.
الحل يكمن فى وجود قوة مركزية غير معدومة فى الوجود (هى الله) تكسر التناظر الدورانى الميتافيزيقى بين انواع الوجود -تجعل هناك فرق بين الخير و الشر- مثلما ان الحقل المغناطيسى غير المعدوم فى الكون يكسر التناظر الدورانى الفيزيائى بين الاشعة -هناك اشعة موازية للحقل و اخرى عمودية و هكذا-.
اذن ضرورة التخلص من العبثية هو دليل على وجود الله مثلما ان معضلة الشر دليل على عدم وجود الله. لكن الاول اقوى من الثانى لان الشر فى حد ذاته هو فى الاخير من ضرورات الوعى و الحرية.
اذن وجود الله يعطى المعنى للوجود.
لكن وجود الله شيء مرعب ايضا حسب الرؤية الظاهرية للديانات الابراهيمية.
اذن وجود الله يعطى معنى لوجودنا -هذا صحيح- الا انه حسب هذه النظرة فان هناك حياة قاسية جدا مرعبة جدا بعد الموت تنتظرنا فى القبر و البرزخ و الآخرة ثم هناك حساب و عقاب و عذاب لا حد له لان حقيقته هى الخلود فى النار لمن حق عليه العذاب. و الخلود هو رعب الرعب.
اذن اما ان الله غير موجود و عليه فان الحياة فعلا بدون اى قيمة ذاتية فهو كله تطور و محاولة البقاء من الكائنات غير-الواعية و غير-العاقلة و هذا معقول.
لكن غير المعقول هو كل هذا الجهد و الصراع من اجل البقاء من الكائنات الواعية العاقلة اذا كان الله غير موجود و الحياة عبثية يطغى عليها كل هذا الشر الذى تسبب فيه هذا العقل و هذا الوعى نفسه.
اذن هذه هى الامكانية الاولى.
اما الامكانية الثانية فان الله موجود اذن هناك معنى لوجودنا رغم كل هذا الشر و العبث الذى نراه امامنا فى هذه الحياة.
لكن ثمن هذا المعنى هو ثمن باهظ فاننا نعيش فى هذه الحياة نعانى كغيرنا من كل هذه الشرور التى تسببنا فيها انفسنا وتسبب فيها غيرنا. لكننا نعانى ايضا من الخوف و القهر و الرعب من الحياة الاخروية ابتداءا من لحظة الموت ثم ضمة القبر ثم السراط ثم الوقوف امام العرش ثم العطش امام الحوض ثم الحساب ثم العقاب ثم الخلود.
هذا قهر نفسى شديد يصل الى حد ما اسميه العبثية الروحانية.
لهذا افضل النظرة الصوفية للدين على النظرة الظاهرية رغم اننى شخصيا لا متصوف و لا ظاهرى بل انسان مسلم عادى.
بكل بساطة التصوف عموما و عند ابن عربى خصوصا يركز على الرحمة الالهية و على الحب الالهى و على الامان الالهى و ليس على العذاب و الكره و الخوف.
ايضا فان نظرة ابن عربى هى نظرة وسطية فلا هى نظرة الكلام -من الله الى العالم- و لا هى نظرة الفلسفة -من العالم الى الله-.
بل ان تفسيرى الشخصى لنظرة ابن عربى هى وجودية تنطلق من (الوعى) للوصول الى (الوجود).
والوجود هنا هو ربما هذا العالم اى الكون الممكن لذاته و كذا الله القائم بذاته. لكن الحقيقة ان الكون غير موجود امام وجود الله فهو خيال فقط انعكاس لوجود الله.
اكثر من هذا فاننى اقول ان الكون غير موجود لو لم يكن هناك وعى موجود -وهذا يشبه دور الراصد فى الميكانيك الكمومى-. اذن الوعى هو اساس الكون و ليس العكس.
فالوعى -وليس العالم- هو التجلى اى تجلى الله سبحانه و تعالى.
اذن فى هذه النظرة الثالثة ننطلق من (الوعى) من اجل الوصول الى (الوجود) الذى هو على التحقيق (الله).
بل اننى اؤكد ان العالم او الكون هو وسط بين الوعى و الله و وجوده غير ضرورى بالمرة رغم ان خلقه اعظم من خلق الانسان. فان الله خلق آدم فى الجنة ثم سيرجع آدم فى الاخير الى الجنة ثم سيفنى الانسان الكامل (محمد) فى الله.
الله خلق آدم قبل خلق الكون. هذا ما اقوله.
فالله خلق آدم على صورته او ان آدم خلق على صورة الرحمن. فالمقصود هنا بالصورة هو بالضبط هذا الوعى او الأنا الذى يتماهى مع الذات الالهية.
واذن فان المعنى الذى نبحث عنه هو العودة الى الله سبحانه و تعالى وهذا ما يسميه بعض الصوفية من اهل السنة و غيرهم الفناء فى الله و ما يسميه اهل السنة من السلف و الاشاعرة و غيرهم النظر الى وجه الله سبحانه و تعالى.
هذا هو المعنى الذى نبحث عنه فهو لا يمكن ان يكون هناك شيء آخر.
ليست هى قضية علم و حضارة و مدنية و ليست هى قضية كلام و تسلف و طرقية.
فنحن بين عبثيتين.
اما ان نقع فى العبثية الكونية -التى انتبه اليها نيتشة و التى تؤكد على وجوب تسريع الموت من اجل التخلص من هذا العبث و تخليص الارض من شرور الانسان. لكن نفسيا لا نستطيع القيام بهذا الانتحار مما يدل على قصور هذه النظرة.
فذهب بعضهم -ابتداءا من النبى مانى نبى الفرس القديم- الى وجوب التوقف عن الانجاب حتى نسرع فناء الجنس البشرى. وهذا ايضا لا نستطيع القيام به لان الضغوط البيولوجية-و-النفسية-والاجتماعية التى يخضع لها الانسان كلها تدفع به الى محاولة البقاء و ليس الى الفناء.
اذن هذه نظرة قاصرة لان هدف الانسان التسامى على الموت بشكل او بآخر. اذن هؤلاء لا يؤمنون بأى شيء بعد الموت الا انهم مع هذا يعانون هم ايضا من رعب شديد من الموت -لكن رعب اقل بكثير من الرعب الذى نعانية نحن الذى وصل بنا الى ما اسميه فوبيا الموت-.
اذن هذه هى العبثية الاولى -العبثية الكونية او عبثية نيتشة- و حلها يكمن فى القوة المركزية الوجودية التى هى الله -هذا يشبه تصور افلوطين لمفهوم الله-.
اما العبثية الثانية التى يمكن ان نقع فيها فهى العبثية الروحانية -التى اذكرها فى هذا المنشور لاول مرة- و التى تعطينا المعنى اى الله لكن مع كم هائل من القهر و الرعب و الخوف و الكره النفسى.
هى تعطى وجودنا معنى لان هناك قوة مركزية وجودية (الله) وجودها يكسر التناظر الدورانى الميتافيزيقى و تجعل جميع انواع الوجودات الاخرى تحاول ان تتوجه نحوها مثلما انه فى الفيزياء فان وجود حقل مغناطيسى غير معدوم فى الفضاء يكسر التناظر الدورانى الفيزيائى و يجعل جميع الاشعة تتوجه فى نفس اتجاه الحقل المغناطيسى.
اذن هناك معنى حقيقى هنا لكن مع كم هائل من القهر النفسى أو ما اسميه (فوبيا الموت) اى الخوف العظيم من الموت و الخوف الاعظم من ما بعد الموت. فالموت مرعب مؤلم قاس مخيف الا انه عندهم -عند الفهم الظاهرى للدين- فان ماوراء الموت اكثر ايلاما و قسوة و خوفا.
اذن امامنا اما العبثية الكونية و اما العبثية الروحانية.
لكن هناك طريق ثالث و هذا الطريق هو طريق المعنى بدون فوبيا الموت. الله موجود وهذا يعطينا المعنى بل هو الامر الوحيد الذى يعدم العبثية و يخلق المعنى فى عالم عبثى بدون معنى (افحسبتم انما خلقناكم عبثا و انكم الينا لا ترجعون) لكن الله هو الرحمن الرحيم السلام المؤمن الودود (ما يفعل الله بعذابكم).
نظرية السلف
بعد تفكير سنوات طويلة جدا رغم عدم اختصاصى فى الموضوع فاننى قد توصلت حسب فهمى للامور الى القوانين التالية التى تحكم ما اريد تسميته (نظرية السلف):
1-الايمان هو بالبناء غير-عقلانى.
2-السلف كما العقل هو مفهوم نسبى ليس مطلقا.
3-مذهب السلف هو المعيار اما مذهب اهل الحديث قبل شيخ الاسلام و مذهب شيخ الاسلام و مذهب الامام ابن حزم فهى المذاهب المعبرة حديثيا عن مذهب السلف.
4-المذاهب الكلامية المعبرة فلسفيا عن مذهب السلف هى مذاهب الاشعرى و الماتريدى و ابن حزم و ابن تيمية.
5-سلفية التفويض تجهيل و سلفية الاثبات تشبيه و هذه ثنائية-سلفية مؤسسة للثنائيات العقلية: التنزيه-و-التشبيه و العلم-و-الجهل.
6-السلف اسلم و الخلف اعلم و ثنائية السلم-و-العلم هى ثنائية بنائية بالنسبة للسلف و الخلف و خلف الخلف جميعا.
7-الجام العوام عن التكامل السلفى-الكلامى الفلسفى.
لنبدأ فى عرض هذه القوانين ببعض التفصيل.
اولا هناك الوعى فالوعى سابق للوجود. اذن الوعى مطلق وجوديا كما ذكرت ذلك فى مكان آخر.
هذه هى الوجودية المطلقة.
ثانيا هناك العقل الذى به نزن الوعى و الوجود. لكن العقل مقيد معرفيا لا يمكنه ادراك كنه اغلب الاشياء و اغلب الاشياء هى ميتافيزيقية تعيش فى عالمى الخيال و الروح و ليس فى عالم المادة.
وهذا التقسيم الى عوالم المادة و الخيال و الروح هو تقسيم الشيخ الاكبر ابن عربى فالخيال هو برزخ بين المادة و الروح تتجسد فيه الارواح كما تتروح فيه الاجساد.
هذه هى الوجودية المقيدة بجهل العقل اى اننا نقر ان الوجودية هى فلسفة تجهيل (وهذا مصطلح شيخ الاسلام ابن تيمية لكنه بالنسبة لنا هو مصطلح غير قادح بل مصطلح معبر جدا عن هذه الفكرة).
اذن بدأنا اولا بالوعى و الوجود ثم ذهبنا ثانيا الى العقل و العلم.
أما ثالثا فهناك القرآن و السنة و بهما نزن العقل بعد ان يقرر العقل الحتمية الوجودية للايمان.
اما القرآن فهو كلام الله سبحانه و تعالى فهو اذن مطلق.
أما السنة فحكمها تابع لحكم القرآن لأن سيدنا النبى صلى الله عليه و سلم هو الرسول عن الله سبحانه و تعالى.
والحكم على السنة متروك لأهل الاختصاص.
أهم شيء هنا ان العقل قرر حتمية الايمان ثم خضع بعد ذلك بمحض ارادته الى احكام القرآن و السنة.
نصل اذن الى القانون الاول (الايمان هو بالبناء غير-عقلانى).
و اى محاولة لعقلنة الايمان هى محاولة ميئوس من نجاحها و اول من وصل الى هذه النتيجة فى الاسلام هو حجة الاسلام ابى حامد الغزالى رحمة الله عليه.
اذن هناك وعى و عقل و قرآن (و سنة) وهذه ثلاثة ابعاد وجودية اذن هناك فضاء ثلاثى الابعاد. وكما ترون فان الايمان ليس بعد اضافى بل هو رابطية بينهم تسمح لنا بالانتقال من بعد الى بعد آخر.
اما رابعا فهناك السلف الذين هم معيار فهم القرآن و السنة.
و هو بعد رابع فى الفضاء الوجودى-المعرفى-الايمانى الذى ذكرناه آنفا.
لكن السلف مقيد معرفيا مثلما ان العقل مقيد معرفيا.
فقط الوعى مطلق وجوديا (فهو يعبر عن الحياة و العقل و الكلام و غيرها من الصفات النفسية فى الانسان).
وكذلك القرآن فهو مطلق وجوديا فهو يعبر عن بعض كلمات الله مثلما ان الكون هو مطلق وجوديا لانه يعبر عن بعض افعال الله.
السلف اذن هو فهم مقيد نسبى للقرآن و السنة مثلما ان العقل هو فهم مقيد نسبى للكون.
نصل اذن الى القانون الثانى (السلف كما العقل هو مفهوم نسبى و ليس مطلق).
هنا نذكر اربعة اشياء مختلفة يظنها العامى و غير المختص و حتى كثير من المختصين نفس الشيء.
هناك مذهب السلف وهناك مذهب اهل الحديث و هناك مذهب شيخ الاسلام ابن تيمية و هناك السلفية.
هذه ليست نفس الشيء.
مذهب السلف هى القرون الثلاثة الاولى. وحتى هذه القرون الثلاثة الاولى ففيها تفاوت كبير.
اما فهم شيخ الاسلام بن تيمية فهو مذهب كلامى-حديثى فى فهم مذهب السلف و ليس مذهب السلف فى حد ذاته. و لا يوجد من فهم شيخ الاسلام حق الفهم الا تلميذه الامام ابن القيم الجوزية. ومن اراد ان يسبر الاغوار الفلسفية الحقيقية لشيخ الاسلام فعليه مثلا بقراءة وائل حلاق.
اذن مذهب شيخ الاسلام ابن تيمية هو مذهب كلامى فى فهم مذهب السلف وهو فى هذا يشبه المذهب الكلامى لشيخ السنة ابى الحسن الاشعرى و المذهب الكلامى لابى منصور الماتريدى.
اذن هناك مذهب السلف وهو المعيار لكن هناك مذهب شيخ الاسلام ابن تيمية و هناك المذهبان الكلاميان الاشعرى و الماتريدى.
هذه كلها مذاهب مقبولة -حسب الوسطية الاسلامية- فى فهم مذهب السلف.
ونضيف اليهم مذهب ابن حزم فهذا ايضا مذهب سنى هائل قائم بحد ذاته يجب التنبه له.
لكن ايضا هناك مذهب اهل الحديث قبل شيخ الاسلام فهم ايضا شيء مختلف عن مذهب السلف و عن مذهب شيخ الاسلام مثلا ابن عبد البر او ابن فرج الجوزى و غيرهم.
اما السلفية فهم كل من ادعى نسبا بمذهب السلف وهؤلاء فيهم تفاوت عظيم قديما و حديثا و هم ليسوا من اتكلم عنهم هنا.
نصل الى القانون الثالث (مذهب السلف هو المعيار اما مذهب اهل الحديث قبل شيخ الاسلام و مذهب شيخ الاسلام و مذهب الامام ابن حزم فهى المذاهب المعبرة حديثيا عن مذهب السلف).
الفرق الاساسى بين مذهب اهل الحديث و مذهب ابن تيمية ان مذهب ابن تيمية هو مذهب فلسفى-كلامى بأتم معنى الكلمة حتى اننا نجد الذهبى ينكر على شيخ الاسلام الدخول فى علم الكلام.
بنفس الطريقة فان مذهب الامام الفحل ابن حزم هو ايضا مذهب كلامى بالاساس رغم تعويله مثل شيخ الاسلام كثيرا على القرآن و السنة و فهم السلف لهما.
اما المذاهب الكلامية السنة المعيارية فهى الاشعرية و الماتريدية كما ذكرنا آنفا وهى ايضا تعول على مذهب السلف و تعبر عن مذهب السلف بشكل يقرب او يبعد.
نصل الى القانون الرابع (المذاهب الكلامية المعبرة فلسفيا عن مذهب السلف هى مذاهب الاشعرى و الماتريدى و ابن حزم و ابن تيمية).
الفرق الاساسى بين الاشعري و الغزالى و الرازى من جهة و ابن تيمية من جهة اخرى ان الاشاعرة ينصون على ان مذهب السلف هو (مذهب تفويض) و (يؤولون) اما ابن تيمية فهو ينص على ان مذهب السلف هو (مذهب اثبات) و (يمنع التأويل).
هذا هو الخلاف الاساسى.
وشيخ الاسلام يتهم مثلا من يفوض و يؤول بالتجهيل (والتفويض فعلا نوع من التجهيل لكنه ليس بالضرورة قدحا) اما الفخر الرازى فيتهم مثلا من يثبت بالتجسيم (و التجسيم و التشبيه لا مهرب منه فى مثل هذه الامور فهو جزء من ثنائية التنزيه-و-التشبية كما بين ذلك ابن عربى فى ميتافيزيقيته).
اذن حسب ما يبدو فان التفويض يؤكد ان الكيف غير موجود اما الاثبات فهو يؤكد ان الكيف موجود لكنه غير معلوم فقط.
والتفويض موجود فى مذهب السلف اكثر من وجود الاثبات حسب ما يذكر الشيخ سيف العصرى فى كتابه الذى قرظه الشيخ القرضاوى.
نذكر مثلا انه فى محنة خلق القرآن فان الامام البخارى رضى الله عنه كان موقفه غير مرضى عنه من اتباع الامام احمد رضى الله عنه و تعرض (البخارى) الى محنة شديدة فى بلده بسبب ذلك.
وهذه القضية (ثنائية التفويض-و-الاثبات) ذات علاقة وطيدة بمعضلة التأويل و ماهية اللغة و فلسفة التفسير.
فقد جاء الغزالى منذ البداية بقانون سماه قانون التأويل ثم جاء بعده الرازى بقانون التأويل الاشهر الذى رد عليه ابن تيمية فى كتابه الدرء و خلاصة رده ان (الكليات غير موجودة فى الخارج) و ان (المجاز غير موجود فى اللغة) و عليه فان التأويل ممنوع بل هو بدعة.
هذه المسألة حقيقة تؤدى بنا مباشرة الى فلسفة الهيرمنوتيكا hermeneutics (فلسفة التأويل) اى كيف يجب ان يفسر النص القرآنى وهذا ما نحتاجه فعلا.
نحن نحتاج الى فلسفة تأويل و علم تفسير جديد ينبنى على اسس عصرية جديدة.
نصل الى القانون الخامس (سلفية التفويض تجهيل و سلفية الاثبات تشبيه و هذه ثنائية سلفية مؤسسة للثنائيات العقلية: التنزيه-و-التشبيه هو العلم-و-الجهل).
وقد كان الفخر الرازى يقول ان (السلف اسلم و ان الخلف اعلم).
وهذا كلام صحيح لان الفلسفة و العلم اليوم هى اكثر تطورا و اقوى بكثير مما كان متوفرا قديما.
اذن هذا الكلام هو ليس قدحا فى السلف كما يريد ان يفهم الجميع من هذه المقولة.
بل ان انكار هذه المقولة هى قدح فى العقل و العلم و كل هذا التطور العلمى و الفلسفى الذى يحققه الانسان يوما بعد يوما و الذى نراه امامنا و نشهد آثاره فى حياتنا.
اذن مذهب السلف اسلم لكن مذهب الخلف هو اكيد اعلم لكنه فى نفس الوقت اخطر لان الاقدام قد تزل و تضل و بسهولة شديدة فى مثل هذه المواضيع الغيبية.
و اذن نصل الى القانون السادس (السلف اسلم و الخلف اعلم و ثنائية السلم-و-العلم هى ثنائية بنائية بالنسبة للسلف و الخلف و خلف الخلف جميعا).
نصل الآن الى السؤال الاخير ماهو الموقف الصحيح من علم الكلام.
الجواب ان علم او فلسفة الكلام هو انتاج عقلى عملاق . وهو جهد جبار لا يمكن انكاره مارسه العقل العربى لقرون طويلة.
وعلم الكلام سماه الجابرى الفلسفة الاسلامية الاصيلة وهو فعلا كذلك. فهو رغم تأسيسه على الفلسفة اليونانية فهو فعلا ابداع اصيل فى الميتافيزيقا مؤسس بالكامل على القرآن العظيم.
واذا كان فعلا هناك من يعتقد ان سبب كل هذه المذاهب المختلفة هو علم الكلامى فهو مخطيء.
سبب الاختلاف هو الوعى و ليس شيئا آخر. و علم الكلام كان فى الحقيقة محاولة لاحتواء هذا الاختلاف بالاضافة الى محاولة التصدى الى الفلسفات و الافكار الدخيلة بطريقة عقلية محضة.
اذن الاختلاف لا محالة منه فى اى فكر فلسفى فهى احدى الغرائز الاولى للبشريين من الهوموسابيانيين و الآدميين.
الموقف السليم من علم الكلام قد صرح به ابى حامد الغزالى منذ الف سنة وهو (الجام العوام عن علم الكلام).
اما علم الكلام فيجب تدريسه فى الجامعات الفلسفية و الشرعية لا محالة مثلما انه يجب تدريس الفلسفة اليونانية لا محالة.
واذا كان هناك من يعتقد انه يجب التوقف عن تدريس علم الكلام فانه يجب اذن ان يطالب ايضا بالتوقف عن تدريس الفلسفة اليونانية و الفلسفة الغربية بصفة عامة وهذا كلام لا يقول به مفكر موضوعى متوازن.
الفرق بين الكلام و الفلسفة اليونانية ان الفلسفة اليونانية تم احيائها فى ثورتين عملاقتين هما ثورة ديكارت و ثورة كانط اما علم الكلام فمازال ينتظر ثورته المعرفية الاولى.
اعتراضى الوحيد على علم الكلام هو اعتراضى على محاولة بعضهم ادخاله الى الفيزياء النظرية و فلسفة الفيزياء لان هذا غير مقبول.
يمكن لعلم الكلام ان يندمج مع فلسفة الفيزياء بشرطين اولا ان يتطور فى المناهج و الاهداف و ثانيا ان يلتزم بقواعد الفلسفة و بذلك يتحول الى ما اسميته فلسفة الكلام.
وكل هذه الاشياء هى امور اكاديمية تحدث فى الجامعات لا علاقة لها بالعوام و عقائد العوام.
نصل اذن الى القانون السابع (الجام العوام عن التكامل السلفى-الكلامى الفلسفى).
المسائل الميتافيزيقية الاساسية فى القرآن الكريم و الاعجاز القرآنى
لو نظرنا الى القرآن الكريم نظرة غير-مختص -وهذا كل ما نستطيعه- لكان اول ما يسترعى الانتباه هو الاهتمام الشديد بثلاثة قضايا ميتافيزيقية اساسية.
اولا توحيد الله سبحانه و تعالى.
ثانيا مسألة القضاء و القدر.
و ثالثا مسألة الموت و البعث.
وهذا هو مدار اهتمام الانسان عبر مختلف فترات عمره.
فعندما يكون الانسان صغيرا شابا فهو يسأل عن وجود الله سبحانه و تعالى و توحيده.
ولو ان القرآن اهتم بالتوحيد اكثر من اهتمامه بالوجود. فوجود الله سبحانه و تعالى لم تكن مسألة معضلة بالنسبة لقريش و لا هى مسألة معضلة بالنسبة لأغلبية البشر.
والقرآن كان حاسما فى هذا الامر (قل هو الله احد الله صمد..).
ثم يكبر الانسان فيزداد اهتمامه اكثر بمعضلة القضاء و القدر.
فهى مسألة تحدد مصير الانسان الآن و بعد الآن.
ثم ان هذه المعضلة هى بالفعل مسألة شائكة عويصة مرتبطة بكثير من الامور المعضلة الاخرى و على رأسها معضلة الشر.
فى هذه المعضلة فان القرآن ثنائى بامتياز و الحل كنت قد اعطيته فى منشورات كثيرة سابقة وهو يكمن فى (الحرية المطلقة المنظوريانية كنظرية فعالة) و (الجبرية الحتمية القهرية كنظرية اساسية).
ونحن كبشر نعيش فى النظرية الفعالة و لا يمكننا ادراك كنه النظرية الاساسية اذن نحن احرار من منظوريانيتنا فى معلمنا العطالى الميتافيزيقى وهذا كل ما يجب ان يهمنا فى الآخير.
اذن الانسان الشاب الصغير يسأل هل الله موجود و يسأل عن التوحيد.
اما الانسان الشاب الذى بلغ الاربعين او ما حولها فهو يسأل هل الانسان حر او مجبور و ما هو معنى و غاية كل هذا الشر الذى نعيش فيه.
اما الانسان الذى بلغ الكهولة فهو سيلتفت الى المسألة القرآنية الاساسية الثالثة (الموت و البعث).
فعنده اذا كان الله غير موجود فهى كارثة وجودية-نفسية لا يستطيع ان يتحملها. اذن الله يجب ان يكون موجودا (وهذا سميته فى منشور قديم برهان الرعب).
واذا كان الله موجود فهو الوجود. و الوجود واحد. و كل شيء آخر هو خيال لانه يستمد وجوده من هذا الوجود الواحد.
اذن بالنسبة للرجل الكهل ليست هناك مشكلة فى الوجود و التوحيد فهما ضروريان من اجل انقاذ وعيه من العبثية و انقاذ نفسه من انعدام الغاية و المعنى و القيمة.
و بالنسبة للرجل الكهل فليس هناك ايضا اى حل لمشكلة القضاء و القدر الا ثنائية القرآن العظيم فى الموضوع التى يمكن ان يأخذ بها على علاتها كما فعل السلف فهذا كافي.
اذن الله موجود واحد و الانسان حر مسؤول و لا تهمنى معضلة الشر. هكذا يقول الرجل الكهل.
بالاضافة الى ذلك فان (وجود الشر) هو نظرية فعالة فقط اما النظرية الاساسية فهى تنص على ان الشيء الوحيد الموجود هو الوجود الواحد الذى هو الله سبحانه و تعالى وهو خير محض.
اليس هذا حل عظيم لمعضلة من اخطر المعضلات مثلما قمنا كما ذكرنا آنفا بحل معضلة القضاء و القدر بحل عظيم آخر هو (مبدأ تكافؤ حرية الارادة).
لكن يبقى هم واحد. الهم الحقيقى امام الرجل الكهل هو مسألة الموت و البعث. فهو سوف يموت يقينا فهل سيبعث فعلا?
اما الموت فهو اليقين لا محالة.
اما البعث فهو المعضلة. و اذا لم يكن البعث موجودا فهى كارثة وجودية-نفسية لا تقل كارثية عن الكارثة الاولى. اذن لا يمكن تحمل هذه الكارثة و مواصلة الحياة كأن شيء لم يقع. اذن البعث يجب ان يكون موجودا. وهذا هو برهان الرعب 2,0.
اذن الانسان عندما يتطور فى العمر فانه يتطور بين مسائل الوجود-و-التوحيد و القضاء-و-القدر و الموت-و-البعث.
اذن القرآن العظيم معجز فعلا لانه يهتم بالضبط بما يهم حقيقة الانسان فى الوعي و اللاوعي.
البعض رغم تقدم العمر بهم فانهم واقعون فى هوس بخصوص عقيدة التوحيد و البعض الآخر واقع فى هوس بخصوص عقيدة القدر. هؤلاء لم يتطوروا فكريا و لا ميتافيزقيا.
كل من فهم فعلا المسألة الوجودية فهو سيصل الى الوجود ثم الى التوحيد لا محالة و اذكر مثلا تولستوى و نيوتن.
وكل من فهم معضلة الشر فعلا فهو سيصل الى ضرورة مسؤولية الانسان الحقيقية كنظرية فعالة.
يبقى الموت و البعث فهذا يصعب على الوعى فهمه لانه مجهول لم يجربه احد من العالمين ثم اخبر عن ذلك منذ عهد آدم.
كل ما نعلمه عن الموت و البعث فهو عن طريق الوحى و الانبياء و هذا هو الاصل و قد يكون عن طريق الكشف و العارفين و هذا طريق اقل حسما من الاول.
اذن اهتمام القرآن العظيم بهذه المسائل الثلاثة هو دليل على ما سميته الاعجاز الفلسفى للقرآن الكريم. و الا فلماذا يهتم الرسول صلى الله عليه و سلم بهذه المواضيع الثلاثة وهو لم يتكلم فيها قط قبل النبوة ثم اكثر من هذا فهو رجل أمى لا يقرا و لا يكتب.
فمهما سمع الرسول صلى الله عليه و سلم من كلام حول هذه المواضيع يتناثر من حوله فلن يكون ذلك كافيا فى اخراج ثنائية القضاء-و-القدر بهذا الشكل و مهما سمع من اساطير اليهود و النصار فلا يمكن لخياله صلى الله عليه و سلم ان يتصور كل هذا الموت و البعث و كأنه يراه بثا حيا.
ثم اصراره صلى الله عليه و سلم على التوحيد هو ايضا ما كان ينبعث من رجل أمى من تلقاء نفسه.
اذن هو ليس كلام النبى بل هو كلام رب النبى.
اذن هذا دليل.
اما الدليل الآخر فهو اختلاف لغة القرآن عن لغة الرسول صلى الله عليه و سلم و اختلاف لغة الرسول عن لغة الصحابة رضى الله عليهم.
وهذا قد تكلم عنه علماء الاعجاز اللغوى-و-البلاغى.
ومنهم اذكر هنا الاستاذ الفاضل (فاضل السامرائى) الذى وجدته يفسر القرآن الكريم من الناحية اللغوية و البلاغية بافضل ما يكون و استفدت منه ايما استفادة.
ثم الدليل الآخر هو دليل التحدى. وهذا دليل معروف لكن النقاش فيه لم ينتهى بعد و لن ينتهى ابدا الى يوم القيامة فهو تحدى و التحدى قائم الى يوم القيامة.
فان القرآن او محمد تحدى قريش بأن تأتى بسورة من مثله فلم يجيبوا فتحداهم بان ياتوا يآية من مثله فلم يجيبوا.
اذن اذا كانت قريش قد جبنت فان الرسول صلى الله عليه و سلم قد تجرأ عليها اكثر بالتحدى الثانى ورغم هذا فهى لم تستجب ايضا لهذا التحدى الثانى.
القضية فعلا هى ليست قضية جبن بل هى قضية عجز على الحقيقة.
و التحدى هو منظوريانى لانه موجه لقريش و لعلماء البلاغة فى كل العصور و ليس للكافة.
اقول ان تفسير القرآن الكريم هو اعظم علوم الشريعة على الاطلاق كما ان تفسير الميكانيك الكمومى هو اعظم علوم الطبيعة.
وكما ان الانسان فعل و كلام. و نحن نحتاج الى تفسير كلامه على الشكل الصحيح حتى نفهم فعله.
فان الطبيعة هى افعال الله سبحانه و تعالى و القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه و تعالى. و نحن نحتاج الى تفسير كلامه سبحانه و تعالى فى القرآن حتى نفهم افعاله سبحانه و تعالى فى الطبيعة.
و نظرية الطبيعة الاساسية هو الميكانيك الكمومى مثلما ان نظرية القرآن الاساسية هو التفسير القرآنى الذى يحتاج فى حد ذاته الى نظرية حتى يتم التفسير البنائى الصحيح للقرآن الكريم.
من (نظرية كل شيء الفيزيائية) الى (نظرية كل عين الميتافيزيقية)
مع نهاية العام 2022 ألخص الفكرة الفلسفية لهذه الصفحة و التى انتهى اليها فهمى بعد صراع شديد مع النفس و العقل و قد تتطور هذه الفكرة اكثر بل قد تتغير تماما فى المستقبل ان شاء الله. من يدرى.
كنا نتكلم فى السابق كثيرا عن الثنائيات -وهى فكرة فيزيائية و فلسفية- لكن هنا سوف نستخدم فكرة فيزيائية بحتة هى فكرة (النظرية الفعالة و النظرية الاساسية).
النظرية الفعالة هى نظرية صالحة فقط فى ريجيم او مجال معين لو ابتعدنا عنه او خرجنا منه فان هذه النظرية تصبح غير-صالحة (ولا نقول خاطئة) و يجب تعويضها بنظرية اكثر اساسية تصلح فى ريجيم او مجال اعلى و ادق.
اذن النظرية الفعالة عندما يتم تطويرها تصبح نظرية اكثر اساسية و هكذا يستمر التطوير حتى نصل الى النظرية الاساسية فعلا التى تصف جميع المجالات.
وقد اعطينا عدة امثلة على هذا الامر فى منشور سابق.
هنا اعتقد ان الوجودية و الفلسفة و العلم و نظرية التطور هى كلها نظريات صحيحة لكنها نظريات فعالة تصلح جدا لكن فقط فى الريجيم الانسانى و الريجيم الكونى.
وكما نعرف فان النظرية الفعالة سوف تفقد فعاليتها و تصبح عقيم اذا خرجت من نطاق تطبيقها الذى سميناه هنا ريجيم النظرية.
اذن الوجودية و العلم و نظرية التطور تصبح منظوريانيات (وجهات نظر معرفية-وجودية)
عقيمة غير صالحة لتحقيق اى تقدم فكرى-و-نفسى-و-روحى اذا خرجنا و ابتعدنا عن نطاقى الانسان و الكون و بدأنا فى الدخول الى نطاقى الميتافيزيقا و الغيب.
عندما نصل الى هنا فان الذى سوف يعوض الوجودية و العلم و نظرية التطور هو التوحيد الابراهيمى و الرسالة المحمدية و نظرية الخلق.
اذن فى الريجيم الميتافيزيقى فان النظرية الفعالة الصالحة للتطبيق هو الفهم السنى لهذا التوحيد الابراهيمى و الرسالة المحمدية و نظرية الخلق.
واقصد بهذا الفهم السنى فهم المدرستان الكلاميتان الاساسيتان و المدرسة الحديثية و المذاهب الفقهية الاربعة و الطرق الصوفية المؤسسة لروحانية المدارس الكلامية و المذاهب الفقهية.
لكن اقول ان هذا الفهم السنى هو فى حد ذاته فهم فعال للريجيم الالهى لا يمكن ان يكون فهما اساسيا.
هو فهم فعال صالح فى المستويات الظاهرية للريجيم الالهى.
وهذا هو لب فكرة السلف الصالح كما قرر ذلك حجة الاسلام الغزالى (الاقتضاب فى التفسير و التوقف عن التأويل و عدم التنظير المجرد فى نصوص الوحى الالهى).
هذا كله لا يسمح لنا الا بالوقوق عند المستويات الظاهرية للريجيم الالهى.
اما المستويات الباطنية اى مستويات الاشياء-فى-ذاتها فان هذا الفهم السنى سوف ينهار تحت تأثير ظغوط هذه المستويات الباطنية على العقل.
الفهم الاساسى للميتافيزيقا هو ما سميته فى منشورات قديمة (نظرية كل عين الميتافيزيقية) على منوال (نظرية كل شيء الفيزيائية).
هذه نظرية مجهولة بطبيعة الحال و آخر من كان يعلم يقينا بالعناصر المكونة لها هو الرسول الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم ﻷن علمه كان علما عن وحى و هذا طريق غير متاح لأى كان من بعده.
اذن (نظرية كل عين الميتافيزيقية) هى النظرية الاساسية للميتافيزيقا مثلما ان (نظرية كل شيء الفيزيائية) هى النظرية الاساسية للفيزياء.
وكلاهما مجهول.
و كما ان الطريق نحو نظرية كل شيء الفيزيائية هو العقل المقيد بالحس فان الطريق نحو نظرية كل عين الميتافيزقية هو الكشف المقيد بالنقل.
والكشف كما قرر حجة الاسلام الغزالى هو شيء موجود متاح متوفر امام الصالحين و العارفين و الاولياء.
و هو ايضا شيء يقرره و يؤكد امكانية حدوثه و وجوده كل من ويليام جايمس و كارل جونغ و كثير غيرهم من علماء و فلاسفة علم و فلسفة النفس الحديثة.
و المصطلح (عين) فى (نظرية كل عين) جئت به من عند الشيخ الاكبر ابن عربى فالاعيان عنده اعم من الاشياء.
فالاعيان او بالضبط الاعيان الثابتة عنده هى ذرات العلم الالهى اى هى المعلومات التى يتشكل منها العلم الالهى القديم.
الاعيان الثابتة هى اذن البرزخ (وهو مصطلح آخر له) بين الذات الالهية و اسمائها و بين الافعال الالهية و العالم الخارجى.
بل اننى اضيف و اقول ان كل ميتافيزيقا ابن عربى (وهو يؤكد شخصيا انها ميتافيزيقا كشفية مقيدة بالنقل) هى محاولة لصياغة النظرية الاساسية للميتافيزقا اى النظرية التى تصلح فى المستويات الباطنية للريجيم الالهى و يكون الفهم السنى الكلاسيكى هو فقط نهاية لها صالحة فى المستويات الظاهرية للريجيم الالهى.
وهذا مثلما ان نظرية الاوتار الممتازة هى محاولة لصياغة النظرية الاساسية للفيزياء تصلح عند المسافات الصغيرة جدا للكون و هى تنتهى الى النموذج القياسى للجسيمات الاولية الذى يصلح عند المسافات الأكبر للكون.
اذن نظرية الاوتار الممتازة هى نظرية اكثر اساسية (والبعض يقول انها هى النظرية الاساسية فعلا) من النموذج القياسى للجسيمات الاولية الذى هو نظرية فعالة.
بالمثل فان نظرية ابن عربى هى نظرية اكثر اساسية (قد يقول البعض انها هى فعلا النظرية الاساسية) من عقيدة اهل السنة و الجماعة التى هى نظرية فعالة فقط.
المهم ان (نظرية كل عين الميتافيزيقية) هى الحقيقة-فى-ذاتها وراء التوحيد الابراهيمى و الرسالة المحمدية و نظرية الخلق اما عقيدة اهل السنة و الجماعة فهى تمثل ظواهرها فقط (وهذه مصطلحات كانط).
بالمناسبة فاننى لا انصح بقراءة ابن عربى لغير المختص.
اولا لانه صعب جدا و قد يشتبه عليكم الفهم فبعض الفاظه اذا لم تفهم على الشكل الصحيح خطيرة جدا.
لكن ثانيا لا انصح بقراءته وبالخصوص بالعربية لانكم ستضيعون بين نعال المكفرين له من جهة و نعال المقدسين له من جهة اخرى.
لكننى انصح لمن استطاع الى ذلك سبيلا بقراءة ابن عربى عند المتخصصين الغربيين لان كل ما يهمهم هو العلم و الحقيقة و ليسوا مهتمين بالتكفير و التقديس او نصرة هذا على هذا.
اذن (نظرية كل عين الميتافيزيقية) هى النظرية الاساسية للغيب الالهى مثلما ان (نظرية كل شيء الفيزيائية) هى النظرية الاساسية للطبيعتين الكونية و الانسانية.
وكلاهما ما زال مجهول وهذا مع حيرة العقل الشديدة امام الحس و النقل و الكشف و حتى امام نفسه (الوعى).
الغزالى الصادق العبقرى و التصوف الجديد
من اصدق المفكرين المسلمين الذين مروا عبر تاريخ الاسلام يبقى حجة الاسلام ابى حامد الغزالى.
و ذروة صدقه هى استقالته الايمانية-و-الفكرية التى ينتقده عليها الجميع.
بالنسبة لى هذه الاستقالة هى ذروة عبقرية الغزالى و ليس كما يعتقد السطحيون انها ذروة عجزه و هم العاجزون.
ففعلا لا يمكن البرهان على الحقائق الدينية بالعقل.
و لا يمكن الاكتفاء بالنقل كبرهان لانه هو نفسه يحتاج الى برهان العقل الذى اصبح غير متوفر.
العقل ليس حاسم و النقل يعتمد على العقل اذن هو ليس حاسم.
و من يعرف قليلا من الرياضيات و يعرف قليلا من المنطق الحديث و يعرف قليلا من الفيزياء النظرية فانه سيعرف فعلا ماذا نعنى بالبرهان و كيف يجب ان يكون البرهان و ما علاقة البرهان بالمبرهن عليه و ماهو الدور الذى يؤديه المبرهن فى البرهان.
من له ادنى خبرة بالفيزياء النظرية و الرياضيات فانه سيعرف بدون ادنى شك انه ليس لدينا أية براهين فى الميتافيزيقا فى مستوى قوة البراهين الهندسية و الحسابية.
وحتى البراهين التحليلية التى تفخر بها الفلسفة فانها لا يمكن ان ترقى الى مستوى البراهين الهندسية و دليل ذلك هذا الخلاف الشديد الذى نراه فى كل مسألة فلسفية يمكن ان تخطر على بالنا.
لذا توجه الغزالى الى التصوف و ابتدأ هذه الظاهرة فى الاسلام وهذا هو الذى سماه منتقدوه بالاستقالة الفكرية. و كأن التصوف هو انعدام التفكير رغم ان اعظم مفكرى الاسلام اصالة و ابداعا هم متصوفة و على رأسهم ابن عربى و الملا صدرا.
الغزالى لم يستقل فكريا بل الغزالى استقال كلاميا و فلسفيا-دينيا. وهذا فرق كبير.
وتوجه بعده اهل السنة الى التصوف و بلغ التصوف ذروته عند ابن عربى الذى بالغ فى فلسفة التصوف حتى اصبحت معرفة غمائضية لا يدرك كنهها الا القليل -ربما-.
ثم جاء آخرون وقالوا لقد توفى الغزالى و على صدره صحيح البخارى و هم بذلك يلوحون بأن الغزالى قد كان سيتحول الى مذهب اهل الحديث لو لم يمت.
و عالم و علم "لو" لا يمكن ان تنتهى ترهاته لو سمحنا لانفسنا بفتح ابوابهما.
البخارى هو سيد اهل السنة و صحيحه هو اصح كتاب كتبه انسان -وليس هو اصح كتاب بعد القرآن لانه لا مجال للمقارنة بين كلام الله و كلام الانسان حتى لو كان هذا الانسان البخارى-.
اذن كون الغزالى توفى و كتاب البخارى على صدره لا يعنى شيئا.
و رأى الغزالى فى الحنابلة و اهل الحديث من المتسلفين معروف.
ثم هل من المعقول ان من يستقيل فكريا من الكلام و فلسفة الدين لا يستقيل فكريا من فكر التسلف.
يا هل ترى من هو الاكثر تهافتا -حسب الغزالى و هو ايضا رأيى- الفلسفة بكل عظمائها العباقرة ام التسلف بكل مخرفيه السفهاء.
الحقيقة هو انه يجب ان نرجع الى الغزالى و عوض ان نغوص فى فلسفة الله و الوجود و نوغل فيها كما فعل ابن عربى علينا ان نوغل فى فلسفة النفس و الوجود و نوغل فيها مثلما فعلت فلسفة الوجودية و على رأسها دويستفسكى و نيتشة و فعل علم النفس الحديث و على رأسه كارل جونغ و ويليام جايمس (و حتى فرويد رغم نزعة هذا الاخير المادية-الميكانيكية التى لا تتزعزع).
علينا ان نقفز مباشرة من الغزالى -الذى ادرك ان الفلسفة الميتافيزيقية لا يمكنها البرهان على شيء- و نهمل ابن عربى رغم عظمته و لو الى حين -و نهمل ايضا حتى لن نضيع وقتنا ابن رشد فى اعتراضاته الجافة و ابن تيمية فى اعتراضاته الهستيرية- و نقفز مباشرة من الغزالى الفذ الى كارل جونغ و مدرسته فى علم النفس الحديث التى تهتم بفلسفة الدين كأحد أهم مقوماتها التى تقوم عليها.
ففلسفة علم النفس على طريقة كارل جونغ ادركت ان الطريق الى العالم الاخرى -الكون اولا ثم الله من وراءه- يجب ان يعبر فيه الوعى عالم اللاوعى النفسى الداخلى.
الطريق الى الخارج ثم الى الله يبدأ من الايغال فى داخل و باطن النفس -وعى ثم لاوعى- ثم الخروج من الجهة الاخرى -وهذا هو ربما ما يسميه المتصوفة الكشف- لانه كما بين الغزالى ليس هناك ارتباط مباشر -ما يسمى البرهان- بين العقل و الخارج كما يصر على ذلك المتعقلة.
هذا هو التصوف الجديد الذى ادعوا اليه.
وهو اكثر تواضعا فكريا-و-روحيا بل هو اكثر واقعية و اكثر منطقية من مقترح علم الكلام الجديد الذى اقترحته منذ سنوات و الذى اقتنعت الآن انه لن يأتى بشيء جديد مفيد يذكر لان المسألة هى ليست مسألة ذات و صفات الهية بل المسألة هى مسألة نفس و وعى انسانى.
حل معضلة الموت
الجزء الاول
و واحد من اسباب اهتمامى بالثقوب السوداء هو انها تقدم نموذج نظرى صريح للموت و كيفية البعث.
وفى هذا المنشور سوف اقدم حل صريح لمعضلة الموت -وهذا حل معضلة كبرى اخرى بعد الحل الذى قدمناه لمعضلتى الحرية و الشر.
اذن الثقب الاسود يتشكل من انهيار نجم على نفسه بسبب قوة الجذب الثقالى.
ثم يبدأ بالتبخر ببطئ شديد وهذا بسبب التفاعلات الكمومية.
وهذا التبخر يعنى التناقص حتى يصل الثقب الى حجم يساوى صفر.
اذن كل تلك المادة التى سقطت بالثقب -وتمسى المعلومات- تكون قد ضاعت بعد تلاشى الثقب الاسود و تبخره بالكامل.
اذن اذا كان هذا الامر صحيحا فان الثقب الاسود هو فعلا ثقب فى الفضاء-زمن.
لكن كل هذا مرفوض بسبب خاصية للميكانيك الكمومى تسمى الاحادية. الحل ان المعلومات يجب ان تخرج من الثقب قبل ان يتلاشى الثقب بالتبخر. لكن كيف هذا هو السؤال.
اذن الروح تلعب دور المعلومات بل هى فعلا معلومات- وهى تضيع فى الموت الذى يلعب بالنسبة لها الدور الذى يلعبه الثقب الاسود بالنسبة للمعلومات.
المعلومات موجودة فى الفضاء-زمن و الثقب الاسود يقسم الفضاء-زمن الى قسمين عبر ما يسمى افق الحدث و هى كرة تحيط بالمفردة.
بنفس الطريقة فان الروح موجودة فى فضاء الأنا-و-الوعى و الموت يقسم فضاء الأنا-و-الوعى عبر ما اسميه افق الموت.
ايضا فان الثقب الاسود عند ضياع المعلومات فيه يصدر عنه فى نفس الوقت اشعاع مادى يسمى اشعاع هاوكينغ. فى الحقيقة فان المعلومات الضائعة و اشعاع هاوكينغ هما فى الحقيقة توأم مادى كمومى. وهما -اى المعلومات الضائعة و اشعاع هاوكينغ- يشكل حالة كمومية واحدة فى الفضاء-زمن يوحدها التشابك الكمومى.
بالمثل فان الموت عند ضياع الروح فيه يجب ان يصدر عنه فى نفس الوقت اشعاع روحى دعنا نسميه اشعاع الروح. الروح الضائعة فى الموت و اشعاع الروح هما توأم روحى-كمومى يشكلان معا حالة روحية-كمومية واحدة فى فضاء الأنا-و-الوعى يوحدها التشابك الروحى-الكمومى.
هنا نفترض ان الميكانيك الكمومى يطبق على الفضاء-زمن (احادية الميكانيك الكمومى) و ما سأسميه الميكانيك الروحى-الكمومى سيطبق على فضاء الأنا-و-الوعى (وحدة الوعى).
معضلة ضياع المعلومات فى الثقب الاسود ان المادة يمكنها ان تعبر افق الحدث من الخارج الى الداخل فقط و الراصد الساقط فى الثقب الاسود لن يرى اى شيء مختلف فى الفضاء-زمن عند عبوره افق الحدث و كل ما سيحدث انه لن يستطيع ان يتواصل مع الراصد الخارجى فى المالانهاية بعد ان يعبر افق الحدث.
بنفس الطريقة فان معضلة ضياع الروح فى الموت تكمن فى ان الروح تعبر افق الموت من الخارج الى الداخل فقط و الراصد الساقط فى الموت فانه يعبر مع الروح افق الموت و لن يرى اى شيء مختلف فى فضاء الأنا-و-الوعى عند عبوره افق الموت و كل ما سيحدث انه لن يستطيع ان يتواصل مع الراصد الخارجى الذى مازال حيا.
الراصد الخارجى فى حالة الثقب الاسود يعلم انه ليس هناك ضياع للمعلومات فى الثقب الاسود لان المعلومات ستعود و تخرج من الثقب الاسود عند زمن يسمى زمن بايج. المعلومات ستبدأ فى الخروج عندما يتوقف انطروبى التشابك الكمومى عن التزايد و يبدأ فى النقصان وهذا عندما يقفز ما يسمى السطح الكمومى القصوى من الصفر الى محاذاة افق حدث الثقب الاسود. و السطح الكمومى القصوى هو ما يحدد المنطقة من الفضاء-زمن التى نحسب فيها التشابك. اذن فى زمن بايج يقع تحول طورى تتغير عنده منطقة التشابك الكمومى التى تسمى حرف التشابك الكمومى من منطقة متصلة الى منطقة منفصلة.
بنفس الطريقة فان الراصد الخارجى -فى حالة الموت- يعلم انه ليس هناك ضياع للروح فى الموت لان الروح ستعود و تخرج عند زمن معين يسمى زمن البعث. الروح ستبدأ فى الخروج عندما يتوقف انطروبى التشابك الكمومى -بين الروح و اشعاع الروح- عن التزايد و يبدأ فى النقصان وهذا عندما يقفز ما سأسميه السطح الروحى-الكمومى القصوى من الصفر الى محاذاة افق الموت. و السطح الروحى-الكمومى القصوى يحدد المنطقة من فضاء الأنا-و-الوعى التى نحسب فيها التشابك الروحى-الكمومى. اذن فى زمن البعث يقع تحول طورى تتغير عنده منطقة التشابك الروحى-الكمومى التى تسمى حرف التشابك الروحى-الكمومى من منطقة متصلة الى منطقة منفصلة.
كما انه فى الثقب الاسود هناك جزيرة تحتوى المعلومات الضائعة متصلة باشعاع هاوكينغ خارج الثقب وهما يبعدان مسافة هائلة عن بعضهما البعض فى الفضاء-زمن.
فانه فى الموت هناك جزيرة -هى البرزخ- تحتوى الروح الضائعة متصلة باشعاع الروح خارج الموت -اى صدى الوعى فى الحياة- رغم انهما يبعدان عن بعضهما البعض مسافة لا يمكننا تقديرها فى فضاء الأنا-و-الوعى.
الجزء الثانى
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ والسَّماواتِ وبَرَزُوا لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ -ابراهيم الآية 48-.
اذن بكل بساطة فان الارض و السماوات سوف تبدلان بأرض اخرى. هذه هى نقطة انطلاق نظرية الموت التى قدمناها منذ ايام بالمقارنة مع الثقوب السوداء.
فان الذى يحدث ان الوعى الذى يعيش فى هذا العالم و يرى هذه الارض و هذه السماوات اى كل هذه الجيولوجيا و هذه البيولوجيا وماهو اعظم منهما هذه الكوسمولوجيا التى يكتشفها الانسان يوما بعد يوم هو لا يرى -اى هذا الانسان- الا مظاهر فقط اما
البواطن فهى محجوبة عنه (وهذه فكرة كانط فى المظاهر و الاشياء-فى-ذاتها).
وعندما ينتقل الوعى الى مرحلة ما اسميه اشعاع الوعى فان كل هذه الارض و هذه السماوات سوف تظهر على حقيقتها و هى ارض البعث.
اذن الارض بدلت غير الارض و السماوات لان الحجب انكشفت عن الوعى او ان الوعى تحول الى وعى ممتاز فاستطاع رؤية الحقيقة.
و كأن العالم كما قال بركلى لا يوجد الا فى ذهن الراصد الذى سوف سيرى العالم حسب ما بنيت عليه نفسيته و وعيه.
لكن افضل و ادق من رأى بركلى هو رأى الغزالى فى ان العقل طور واحد من اطوار الوعى وسوف يليه طور العقل الممتاز بعد الموت. اذن الموت حسب الغزالى هو ليس الا مرحلة تطورية سوف يخضع لها الوعى.
كما سنرى فان الانسان بعد الموت -و بالضبط بعد البعث وهذا حسب النموذج الذى سوف اطرحه هنا- سوف ينتقل من طور العقل -ما أسميه الوعى هنا- الى طور العقل الممتاز -ما اسميه هنا اشعاع الوعى- وهذا فى رأيى هو خلاصة ما ذكره الغزالى منذ 1000 سنة توصل اليه عبر تأمل عقلى-كشفى نادر اما هنا فاننى ساطرح نموذج فيزيائى-نفسى-ميتافيزيقى يتم فيه تنفيذ هذه الفكرة بشكل صريح وهذا بالمقارنة مع فيزياء الثقوب السوداء.
فى هذه المقاربة لدينا 4 افكار معقدة اساسية.
1 كما ان المعلومات المادية الساقطة فى الثقب الاسود لا تضيع فان المعلومات الروحية اى الوعى الساقط فى الموت لا يضيع.
2 المعلومات المادية الساقطة فى الثقب الاسود تعاود الخروج من الثقب بعد زمن معين يسمى زمن بايج -وبايج هو الفيزيائى الذى اقترح هذا الامر فى الثمانينات ثم اتضحت صحته فى النماذج النظرية الحديثة-.
كذلك فان المعلومات الروحية الساقطة فى الموت تعاود الخروج من الموت بعد زمن معين هو زمن البعث.
3 اذن لدينا من جهة الثقوب السوداء:
اولا ثقب اسود يتبخر اى ان الثقب الاسود يتناقص شيئا فشيئا.
ثانيا لدينا اشعاع هاوكينغ الذى خرج من الثقب قبل زمن بايج مع بداية التبخر.
ثالثا لدينا المعلومات الساقطة -التى كنا نظن انها ضائعة- التى سوف تخرج من الثقب بعد زمن بايج.
اشعاع هاوكينغ و المعلومات الساقطة هما توأم فيزيائى متشابك كموميا يوصف بحالة واحدة. المعلومات الساقطة بعد خروجها سوف تنضم الى اشعاع هاوكينغ و تصبح جزءا منه. الثقب فى حالة تناقص مستمر. و بعد تبخر الثقب اى اكتمال خروج جميع المعلومات الساقطة فان الثقب يختفى و لا يبقى لدينا الا اشعاع هاوكينغ.
اذن فى البداية قبل التبخر كان لدينا جسم مادى معين هو (الثقب الاسود) و بعد خروج جميع المعلومات من الثقب وتبخر هذا الاخير فانه سوف سيكون لدينا مادة مختلفة جذريا عن الجسم المادى الذى ابتدأنا به هى بالضبط (اشعاع هاوكينغ). الثقب الاسود الابتدائى و اشعاع هاوكينغ النهائى هما مختلفان جذريا عن بعضهما البعض لكن يحتويان على نفس المعلومات.
4 دعنا نطبق هذا الميكانيزم على الموت. الانسان (جسم مادى + وعى) يسقط فى الموت فيضيع الوعى الى حين و لا يبقى بين ايدينا الا الجسد المادى.
فى هذه المقاربة و على عكس الثقب الاسود الذى يموت عبر التبخر ببطء فان الانسان يموت بالموت دفعة واحدة.
اذن لدينا فى حالة الموت:
اولا ما سوف اسميه (ثقب الموت) الذى يشبه الثقب الاسود. الموت نفسه يشبه اكثر عملية تبخر الثقب الاسود. اذن ثقب الموت هو فى حد ذاته فى حالة تناقص.
ثانيا لدينا ذرات الجسم المادى التى هى كل ما يتبقى لدينا بعد الموت قبل زمن البعث.
ثالثا لدينا المعلومات الروحية -اى الوعى- التى سقطت فى ثقب الموت و التى سوف تخرج من ثقب الموت شيئا شيئا بعد زمن البعث. اذن الوعى حسب هذا النموذج سوف يخرج من ثقب الموت ليس دفعة واحدة لكن ببطء.
الجسم المادى فى حالة ثقب الموت هو الذى يلعب دور اشعاع هاوكينغ الاولى فى حالة الثقب الاسود.
لكن الارض سوف تبدل غير الارض و السماوات لحظة البعث.
اذن هذا الجسم المادى سوف يبدل غير الجسم المادى الذى نعرفه لحظة البعث ويتحول الى كينونة اخرى هى التى سميتها فى المنشور السابق (اشعاع الروح) لكن اسميها هنا (اشعاع الوعى).
اذن الجسم المادى سوف يبدل الى اشعاع الوعى وهذا هو الذى يلعب دور اشعاع هاوكينغ فى الحقيقة.
اشعاع الوعى و المعلومات الساقطة فى ثقب الموت -اى الوعى- هما توأم نفسى متشابك كموميا يوصف بحالة واحدة (هنا نفترض ان الميكانيك الكمومى يطبق ايضا ميتافيزيقيا).
المعلومات الساقطة بعد خروجها من ثقب الموت تتحول هى الاخرى الى اشعاع الوعى. و بعد تبخر ثقب الموت اى اكتمال خروج جميع المعلومات الروحية الساقطة فان ثقب الموت بل الموت فى حد ذاته سوف يموت و لا يبقى لدينا الا اشعاع الوعى.
اذن فى البداية قبل السقوط -فى ثقب الموت- كان لدينا (جسم مادى + وعى) وهذا هو طور العقل الذى يرى هذه الارض و هذه السماوات على الشكل الذى نعرفه لكن بعد الخروج -من ثقب الموت- فانه لدينا (اشعاع الوعى وهو وعى ممتاز) وهذا طور مختلف جذريا عن طور العقل بل هو طور يتعدى طور العقل مثلما ان العقل طور يتعدى طور التمييز و هذا الطور العقلى الممتاز هو الذى سوف يتمكن من رؤية هذه الارض و هذه السماوات على حالتهما الحقيقة.
الحل الميتافيزيقى مابعد-الغزالى
الجزء الاول
من نظريات الغزالى الشهيرة جدا التى لا تنسجم بالمرة مع مبدأ السببية و حرية الانسان و معضلة الشر هو ما يسمى (الخلق فى الآنات) او ما يسمى (الخلق المستمر) او (الخلق المتجدد).
ولأن الله يخلق الخير و الشر فان الله يخلق الشر فى الآنات متجددا و مستمرا.
اذن حسب الغزالى فان الله يجدد خلق الكون و الوعى و الاقتران بينهما (الذى هو المنظوريانية) بشكل مستمر اى فى كل لحظة زمنية من وجود هذا العالم فان هذا العالم يخلق جديدا بارادة الله سبحانه و تعالى القاهرة فوق كل شيء.
فهذا الكون الذى نراه
قديما عمره 14 مليار سنة هو فى حقيقته جديد الخلق قد خلقه الله الآن فى التو و الحين. ثم فى الآن الموالى فان الله يخلق هذا الكون مرة اخرى على الحالة التى كان عليها فى الآن السابق وهكذا الى ما لانهاية.
ولو ترك الله خلق الكون لتلاشى الكون و لما استطاع الاستمرار فى الزمن مستقلا عن ارادة الله.
فان ارادة الله تلعب دورا قاهرا فى نظرية الغزالى.
هذه النظرية (الخلق المتجدد او المستمر) كما بينت فى كل كتاباتى فى السنوات الماضية لا تتلائم تماما مع مبدأ السببية و مع حرية الانسان و مع معضلة الشر.
بل ان هذه الثلاثة (السببية و الحرية و الشر) هى بالضبط المعضلات الاساسية التى يقصر فيها رأى الغزالى عن الحقيقة و لا يمكن فهم رأيه فيها الا كنظرية ناقصة (السببية) او نظرية فعالة (الحرية) او نظرية خاطئة (الشر).
و اننى احب الغزالى لكن لا نستطيع ان نكذب على عقولنا و ضمائرنا. اذن هذه القضايا الاربعة عند الغزالى لا تنسجم مع التحليل الكلامى الجديد الذى ادعوا اليه.
و ان قضية (الخلق المتجدد او المستمر او الخلق فى الآنات) بالخصوص يجب تعويضها بما سوف اسميه (الخلق فى الاحقاب عبر التزامنية).
البداية هى فهم الغزالى ان مبدأ السببية هى ليست الا عادة تقترن فيها الاسباب بالمسببات.
أما مبدأ العادة هذا فقد فهمناه او طورناه بقولنا بمبدأى السببية و التزامنية معا.
السببية لا يمكن انكارها. الاسباب قاهرة لا شك فى ذلك. و انكار السببية يؤدى الى مشاكل ميتافيزيقية لا يمكن حلها حسب رأيى بل حسب رأى اغلبية الفلاسفة. و اكبر و اقوى مؤكد للسببية هى القوانين الفيزيائية و الفيزياء النظرية الحديثة.
اذن الاسباب مؤثرة بالفعل بل هى خالقة -خلقا من الدرجة الثانية او الثالثة- للمسببات.
لكن ايضا علينا ان لا ننسى ان الاسباب هى خلق الله سبحانه و تعالى خلقها مودعة فى الكون عندما خلق الكون اول مرة.
ومن اكبر الاسباب التى لا تتخلف ابدا هى القوانين الفيزيائية و كذا قانون التطور و قوانين الاحتمال و الفوضى و غيرها من القوانين الرياضية و كذلك القوانين البيولوجية و النفسية و الاجتماعية.
كل هذه القوانين هى مخلوقة كامنة فى الكون عندما خلق الله الكون اولا مرة.
لكن هناك ايضا -بالاضافة الى السببية- ما سماه كارل جونغ مبدأ التزامنية وهو المصادفات التى تحمل معنى و قيمة دون ان تكون مقترنة سببيا ببعضها البعض.
فالله خلق الكون و لا يتدخل فيه الا فى نقطة اساسية واحدة هى النبوات و المعجزات -التى هى اقتران تزامنى غير-سببى بين الله سبحانه و تعالى من جهة و الكون من جهة اخرى-.
ومن الاقترانات التزامنية ايضا اذكر ايضا الدعاء و الكرامة.
ولهذا فان الدعاء و الكرامة شيء نادر الاستجابة و الوجود رغم وهم الواهمين.
هما حق لا جدال فى ذلك.
لكن الاسباب هى الاغلبية الساحقة من التأثيرات الفاعلة فى الكون و الانسان و هى لا تتخلف ابدا الا نادرا جدا عند الدعاء و الكرامة.
اذن هناك اسباب حقيقية -عكس ما يقول الغزالى- و هناك ايضا تزامنيات -وهى ما يسميها الغزالى العادة-.
و من اهم تأثيرات السببية هو حرية الانسان المنظوريانية. اى ان الانسان فعلا حر حرية مطلقة و ليس حرية تواؤمية فى معلمه العطالى الميتافيزيقى اى انه حر موضعيا رغم ان الواقع كليا هو جبرى قهرى كما يريد الغزالى. وقد شرحنا هذه النظرية بالمقارنة مع مبدأ التكافؤ من النسبية العامة.
ولان الانسان حر فعلا -منظوريانيا- و هذا بالسببية الحقيقية فانه فعلا يخلق الشر.
اذن العالم خلقه الله سبحانه و تعالى ساعة تعمل بدقة و اتقان عبر القوانين الفيزيائية و البيولوجية و النفسية لا تتخلف ابدا و هذا كله ضرورى تحليليا حتى نستطيع حل معضلة الشر التى تعتمد فى حلها على حل معضلة الحرية.
هذا الرأى هو رأى ابن سينا و ابن عربى و لكن نجد ليبنيز هو افضل من عبر عن هذه الرؤية.
فالله سبحانه و تعالى لا يحتاج ان يتدخل كل آن فى خلق العالم بل هو خلقه ساعة ميكانيكية-نفسية تعمل بشكل دقيق مستمر تحكمه الاسباب التى اودعها الله فيه فى البداية.
لهذا فان الانسان حر. ولهذا فان الشر موجود -عكس ما يقول الغزالى- وهو خلق الانسان.
اذن الغزالى قال بالعادة و الحقيقة ان هناك اسباب قاهرة و تزامنيات يمكن فهمها على انها عادة.
والغزالى قال فى حرية الانسان انها تواؤمية -ما يسمى الكسب- وهذا قاصر ايضا فالحقيقة ان حرية الانسان هى منظوريانية. والفرق بين التواؤمية و المنظوريانية ان الانسان فى التواؤمية مثل العصفور الصغير الموضوع فى قفص فى الواقع اما فى المنظوريانية فان الانسان هو كائن مستقل ساقط سقوطا حرا فى الواقع لا تحده اى حدود الا الحدود الفيزيائية-و-النفسية للواقع.
وايضا فان الغزالى -متابعا فى ذلك رأى ابن سينا الذى تابع افلوطين- يقول ان الشر غير موجود وهذا عكس المشاهد تماما. الشر حقيقة موجود و هو فعل الانسان و خلقه. ولهذا فان رأى مانى الفارسى هو اقرب الى الحقيقة حيث قال ان هناك اله للخير و اله للشر لانه يقر حقيقة الشر. نحن نقول انه ليس هناك اله الا الله سبحانه و تعالى وهو خالق كل شيء خلقا على الحقيقة و هو خالق الكون و الاسباب خلقا مباشرا من الدرجة الاولى.
لكن الانسان كائن حر يخلق الشر ايضا خلقا من الدرجة الثانية بحريته المنظوريانية الحقيقية. وهذا موجود بالفعل فى قصة آدم و ابليس و قصة قابيل و هابيل.
اذن لدينا المسلمات السبعة الاساسية التالية.
اولا خلق الله الكون و اسبابه خلقا مباشرا من الدرجة الاولى بالتجلى عن عدم (ابن عربى, نظرية اساسية) او من عدم (الغزالى, نظرية فعالة).
ثانيا الانسان التطورى اى الهوموسابيانى خلقه الكون خلقا من الدرجة الثانية بالاسباب و التطور (العلم).
ثالثا خلق الله سبحانه و تعالى آدم بيده اى الخلق المباشر من الدرجة الاولى.
رابعا الانسان حر حرية منظوريانية حقيقية فى الجوار الاقرب للوعى الساقط سقوطا حرا فى الواقع.
خامسا الشر هو خلق الانسان من الدرجة الثالثة عبر حرية الارادة المنظوريانية.
سادسا نزول آدم الى ارض غير هذه الارض كان عقابا على اختيار منظورياني حر. فى هذه الارض التى نزل اليها آدم كان الانسان يعمر سنوات طويلة تبلغ قرونا بسنوات تلك الارض. لكن الشر طغى على الانسان و على هذه الارض الاخرى عبر الحرية المنظوريانية فاغرقهم الله بالطوفان -وهذا تزامنية- و لم ينج منهم الا نوح واولاده الذىين استقر بهم الفلك (السفينة الفضائية) على ظهر الجودى اى هذه الارض التى نعرفها حيث تمازج الانسان الآدمى مع الانسان الهوموسابيانى و نجم عن هذا التمازج الجنس البشرى الذى نعرفه اليوم (الحداثة التشريحية و الحداثة السلوكية).
سابعا اذن الاسباب قهرية لا تخلف فيها لكن هناك ايضا تزامنية تحكم تدخل الله سبحانه و تعالى فى هذا العالم ليس فى الآنات لكن فى الاحقاب -مثلا النبوات و المعجزات و الدعاء و الكرامة و العقاب الالهى-.
الجزء الثانى
المثقف المسلم قد يتصور ان هناك اما نظرية خاطئة او نظرية صائبة و لذا فهو ليس امامه اى خيار. وقد يتصور المثقف المسلم ايضا ان النقد او بالاحرى القراءة النقدية قد تتعارض مع الحب و الاجلال. وهذا من اضيق النظرات المعرفية التى نعانى منها.
فاننى لم اجد ابدا سيناوى يقدم نقدا لابن سينا.
و لم اجد ابدا رشدى يقدم نقدا لابن رشد.
و ابدا ابدا لم اجد تيمى يقدم نقدا لابن تيمية -بل قال لى احد هؤلاء مرة ان ابن تيمية لا يخطئ و هذا الشخص نفسه قد قال لى قبل ذلك ان صاحب الشريعة محمدا بن عبد الله صلى
الله عليه و سلم غير معصوم!!!-.
نحن غزاليون ان شاء الله لكننا علميون ايضا. و الغزالى قدره عظيم جدا لا يستطيع ان يضره احد ولأنه غير معصوم فهو يخطئ -وليس كما ادعى صاحبنا ان ابن تيمية لا يخطئ-.
اذن لاننى غزالى و لاننى احب الغزالى فاننى احاول ان اقدم قراءة نقدية تسمح لنا بالانطلاق الى فهم جديد.
اذن الحب لا يتناقض مع الحرية كما قد يعتقد المثقف العربى. اذن قد نحب شخصا ما لكن هذا لا يعنى ابدا ان نفقد حريتنا فى التفكير امام هذا الشخص مهما علا قدره.
ثم نؤكد من الجهة الاخرى ان النظريات لا تنقسم فقط الى نظريات خاطئة و نظريات صائبة بل هى تنقسم الى نظريات فعالة و نظريات اساسية وهذا هو التقسيم الذى دعوت اليه سابقا.
اذن الغزالى هو يقينا نظرية فعالة لكنه ليس نظرية اساسية. و ابن عربى هو نظرية قد تكون فعلا اساسية لمن يستطيع ان يفهمها.
و قد كنا قد تكلمنا عن مفهومى (النظرية الفعالة) و (النظرية الاساسية) فيما مضى. و هو تقسيم من الفيزياء النظرية استلفته حتى اطبقه على الفلسفة الوجودية-النفسية التى ابحث فيها منذ سنوات بشكل منفرد و هاو.
واعطينا امثلة كثيرة على النظرية الفعالة نذكر منها نظرية النسبية العامة التى هى نظرية فعالة لانها لا تصلح الا فى المجال الكلاسيكى اين تكون الحقول الثقالية ضعيفة اى صغيرة بالمقارنة مع الحقول التى نجدها بالقرب من الثقوب السوداء.
اذن النظرية الفعالة هى نظرية صالحة فى مجال او نطاق معين.
بعبارة اخرى يمكن القول -ولو بتحفظ شديد- النظرية الفعالة هى نظرية تقريبية.
الحقيقة ان الطريقة التى تقدم بها الفيزياء النظرية مفهوم النظرية الفعالة عبر معادلة اعادة الاستنظام تجعل النظرية الفعالة نظرية صحيحة تماما فى مجالها و قد نظلمها اذا اطلقنا عليها اسم التقريبية.
عند الخروج من نطاق او مجال تطبيق النظرية الفعالة فانه يجب تعويض هذه الاخيرة بنظرية اخرى فى المجال الاوسع وهذه هى التى تسمى النظرية الاساسية.
اذن النظرية الاساسية هى نظرية اكثر دقة من النظرية الفعالة و هى تطبق فى مجال اوسع. وعموما هناك تناهى للنظرية الاساسية نحو النظرية الفعالة عندما يتناهى مجال التطبيق من الاوسع الى الاضيق.
وقد يكون وراء المجال الاوسع مجال اوسع منه لا تصلح فيه النظرية الاساسية عندها فاننا سنعرف ان هذه النظرية الاساسية ليست اساسية حقيقة بل هى فعالة فقط فى مجال معين اوسع من المجال الاول لكنه ليس هو المجال الكلى.
اذن سيكون عموما لدينا مجموعة من النظريات الفعالة كل واحدة منها افضل من التى سبقتها بمجال تطبيق اوسع حتى نصل الى النظرية الاساسية التى تطبق الى غاية مجال بلانك وهو اوسع مجال فيزيائى ممكن لان طول بلانك هو اصغر طول فيزيائى ممكن.
كمثال على ذلك فان النسبية العامة كما ذكرنا هى نظرية فعالة من اجل الحقول الثقالية الضعيفة اما النظرية الاساسية فهى نظرية الثقالة الكمومية التى تطبق الى غاية طول بلانك.
بنفس الطريقة فان النظريات الميتافيزيقية هى نظريات فعالة او نظريات اساسية.
الجميع بطبيعة الحال يعتقد انه يمتلك النظرية الاساسية لكن الحقيقة غير ذلك بالمرة.
وكمثال على ذلك نأخذ نظرية الغزالى رحمه الله. فهذه نظرية ميتافيزيقية فعالة فى الحقيقة تصلح جدا بالنسبة للمسلم السنى المتوسط.
بل اننى متيقن تماما ان الغزالى هو افضل نظرية على الاطلاق بالنسبة للمسلم السنى لانه متوازن تماما بين الكلام و السلف و التصوف و بين العقل و النقل و الكشف يعرف قدرهم تماما.
لكن الغزالى يبقى نظرية فعالة. لانه كما بينا فى منشور البارحة و غيره مما كتبنا سابقا فانه عندما ننظر الى مجال تطبيق نظرية الغزالى نظرة ضغط و تدقيق نقديان فاننا نجد انه لا يمتد امتدادا كافيا.
و قد اقترحنا فيما سبق ان نظرية ابن عربى هى نظرية اكثر اساسية من نظرية الغزالى يمكن للمسلم السنى غير-المتوسط ان يتبناها. وهذا رأى صحيح.
لكن انطولوجيا و كوسمولوجيا و ابستيمولوجيا ابن عربى هى نظرية ميتافيزقية كشفية اكثر منها نفسية تحليلة و نحن بحاجة الى النفسى اكثر من الميتافيزيقى و لهذا دعوت الى البحث عن نظرية فلسفية اساسية جديدة -دعنا نسميها علم كلام النفس- تنطلق من الغزالى و تقفز مباشرة الى المعرفة الحديثة من الوجودية و علم النفس و الفيزياء النظرية و العلم الطبيعى بصفة عامة.
اذن عندما نقدم نقدا للغزالى فهو نقد موضوعى لاننى نحبه و ليس انتقاد كما قد يفهمه المثقف المسلم الذى تعود على الانتقاد السلبى و تعود على فهم النقد على انه رفض.
نحن بكل بساطة نهدف الى البحث عن نظرية اساسية تنطلق من الغزالى الذى هو وسط الاسلام تستطيع ان تفسر هذا العالم الحديث.
فلسفة الانجابية-العكسية
واذا كان الانسان لا يستطيع ان يحمى ابناءه و لا يستطيع ان يضمن حماية ابناءه على هذه الارض فلماذا ينجبهم و يأتى بهم الى هذا الوجود و يتحمل كل ذلك العناء?
هذا سؤال عملى جدا فى ظل الظروف القاتمة التى يعيشها اخواننا فى فلسطين بل فى كل بلد عربى آخر لا تحميه القوة المادية.
فمصيرنا هو مصيرهم احببنا ام كرهنا و علينا اذن الاكثار من الاسباب وجعل نسبة الاسباب الى الدعاء اكبر من واحد و ليست اقل بكثير من الواحد كما هى عليه الآن.
لكن السؤال (هل يجب علينا انجاب ابناء و الاتيان بهم الى هذا
الوجود) هو فرع على معضلة الخير و الشر و هو يعرف فى هذا الاطار بمعضلة اللذة و الألم.
هذا سؤال -ككل مسلم بل ككل انسان- لم افكر فيه شخصيا عندما كنت شابا لاننى لم اكن قد تشبعت بعد بالفلسفة الوجودية و لم اكن أعلم او بالاحرى لم اكن اعى كل تلك البراهين و البراهين المضادة للاغنوسية و الدهرية و الربوبية و الابراهيمية و الفلسفة و العلم بخصوص الانسان و الحياة و الدين و الكون و الوجود.
فاننى كنت اعرف مثلا (دون ان اتأثر بالمرة) ان مانى صاحب الديانة الفارسية القديمة التى كانت منتشرة هنا فى المغرب العربى قبل انتشار المسيحية -فمثلا القديس اوغستين كان مانويا ولهذا ربما لم ينجب- اذن كنت اعرف ان مانى كان يدعوا الى عدم الزواج و عدم الانجاب حتى نسرع من انقراض الجنس البشرى و كان هذا الطريق بالنسبة اليه هو الطريق الوحيد للخلاص من الشر و الألم على الارض.
هذه المسألة التى ناقشها مانى قديما هى مسألة فلسفية حديثة ذات وزن معتبر تكتب فيها كتب و ابحاث و تأتى تحت مسمى الانجابية-العكسية anti-natalism.
و فى هذه الفلسفة فان الموقف ضد الانجاب يرتقى الى حد المنع الاخلاقى اى ان انه اخلاقيا لا يجوز الاقدام على انجاب اولاد على هذه الارض لان الضرر الذى سوف نتسبب فيه لهؤلاء الاطفال أكبر من اى نفع ممكن او محتمل.
و وجدت بالخصوص ما يسمى مبدأ اللاتناظر asymmetry argument لدايفيد بنعطار David Benatar وهو فيلسوف من جنوب افريقيا فى غاية القوة.
وهو يقوم بكل بساطة على انه لا يوجد تناظر بين الوجود و اللاوجود و بالخصوص لا يوجد اى تناظر بين اللذة و الألم.
اذن بالنسبة للموجود فان وجود الألم هو دائما شر و ضرر اما وجود اللذة فهو دائما خير و نفع.
هذا واضح.
لكن النقيض غير صحيح لانه ليس هناك تناظر بين الألم و اللذة.
بكل بساطة فانه بالنسبة لغير الموجود فان عدم وجود الألم هو خير و نفع ايضا لكن عدم وجود اللذة فهو ليس سيء.
وهنا يكمن الفرق بين الاتجاهين اى بين الموجود و غير الموجود. انظروا الى الجدول.
اذن من الناحية العقلية-الاخلاقية فانه يمنع دائما الاتيان باولاد الى الوجود على حسب هذه النظرية الفلسفية.
وكما يقول بنعطار فيما معناه (فان احسن حياة يمكن تصورها تحتوى فى حد ذاتها على كثير من الضرر).
حجج بنعطار و ردوده على المعارضين تجدونها فى كتابه (الضرر فى المجئ الى الوجود the harm in coming into existence).
مثلا فهو يقدم حجة اخرى تحت اسم حجة السعادة المتوهمة deluded gladness argument التى تنص على انه بسبب اخطاء الوعى فى وعيه بالكون و بنفسه فان الانسان فى مجمله تجده سعيد فى انه موجود و حى على هذه الارض رغم كل الظروف.
بطبيعة الحال فان بنعطار يقر ان اغلب الناس سيجدون هذه النتيجة منفرة وهذا لسبب طغيان التفاؤل على الطبيعة البشرية لان التفاؤل و ليس التشاؤم هو الذى يتماشى مع التطور و ضرورة البقاء.
اذن هذه المعضلة -معضلة المسؤولية الاخلاقية فى الاتيان بأولاد الى هذا الوجود- هى تعبير عن معضلة الخير و الشر حيث تركز هذه المسألة على قيمتى الألم و المتعة المتوقعتان لمن سنأتى بهم الى الوجود عن طريق الجنس و التزاوج و التكاثر وتغليف كل ذلك بامور بيولوجية-تطورية و امور نفسية-اجتماعية و امور دينية-ميتافيزيقية.
الخلاصة انه حتى نشعر نحن بالسعادة فاننا قد نتسبب فى ضرر شديد لغيرنا و هم اقرب الناس الينا اى اولادنا انفسهم وهذا بانجابنا لهم على هذه الارض مع هؤلاء القساة و عدم قدرتنا على ضمان حمياتهم لا من الانسان و لا من الكون.
اسحاق اسيموف و القاعدة
يقول اسحاق اسيموف:
"عندما تأسست إسرائيل عام 1948 وكان جميع أصدقائي اليهود مبتهجين، كنت الهيكل العظمي في المأدبة.
قلت: "نحن نبني لأنفسنا غيتو ghetto آخر.
قلت: سنكون محاطين بعشرات الملايين من المسلمين الذين لن يسامحوا أبدًا، ولن ينسوا أبدًا، ولن يرحلوا أبدًا....
لكن ألا يستحق اليهود وطنًا؟
في الواقع، أشعر أنه لا توجد مجموعة بشرية تستحق "وطناً" بالمعنى
المعتاد للكلمة. ...
أنا لست صهيونيًا، لأنني لا أؤمن بالأمم، والصهيونية لا تهدف الا الى مجرد إنشاء أمة أخرى لإزعاج العالم."
اسحاق اسيموف isaac asimov
و اسحاق اسيموف هو امريكى من اصل روسى وهو يهودى يقول عن نفسه انه انسانى humanist بميول فلسفية دهرية واضحة و ميول سياسية شيوعية اوضح.
اسحاق اسيموف -وهذا هو الذى يهمنى شخصيا- هو فى الحقيقة اكبر كتاب الخيال العلمى science fiction فى العالم قاطبة فهو مثل اينشتاين هذا المجال و كما ترون فهم كلهم يهود و و شخصيا مازلت لا اعرف تفسيرا لذلك.
اذكر هنا بالخصوص ان اسحاق اسيموف هو صاحب الموسوعة الادبية المعروفة باسم -القاعدة foundation- التى تحتوى على 18 رواية تحكى تاريخ الانسانية المستقبلى على مدار ال 20 الف سنة القادمة و تنقسم على ثلاثة مراحل اساسية:
-مرحلة الربوتات robots و هى المرحلة التى بدأت فيها الارض استعمار مجرة درب التبانة و اكتشاف العوالم القريبة من المجموعة الشمسية و هذا بمساعدة الربوتات او الذكاء الاصطناعى artificial intelligence.
فى هذه المرحلة مازالت الارض هى مركز الحضارة الانسانية وهى الاكثر عددا رغم ان ما يسمى الفضائيين spacers وهم البشر الذين هاجروا من الارض و سكنوا الفضاء ينظرون الى اهل الارض نظرة دونية.
-مرحلة الامبراطورية المجرية galactic empire وهى المرحلة التى يتم فيها اكتشاف السفر فى الفضاء باسرع من سرعة الضوء و يسمى تكنولوجيا الطوى الفضائى space folding التى سمحت للانسانية باكتشاف المجرة باكملها وفى هذه المرحلة ايضا تقع الحرب بين الانسانية و الذكاء الاصطناعى تنتهى بانتصار الانسان و منع تقنية الذكاء الاصكناعى منعا باتا فهذه التقنية و كذا تقنية الطوى هى تقنيات غير مسموح بها الا للامبراطور و دولته.
فى هذه المرحلة فان الفضائيين اصبحوا جنسا شبه منفصل حيث نجدهم قد تطوروا و اصبحوا مختلفين كثيرا عن الانسان الذى نعرفه فمثلا يمكنهم السفر عبر الطوى الفضائى دون الحاجة الى النوم-التبريدى cryosleep لكن هذا ادى الى ضعف بنيوى بيولوجى لا يملك سر علاجه الا الامبراطورية و لهذا فهم رهائن لديها يقومون بخدمتها دون اى مقاومة.
نلاحظ انه فى هذه المرحلة فان الارض و تاريخها يضيعان و تصبح الارض شيئا مجهولا اما عاصمة الامبراطورية المجرية فهى كوكب يسمى ترانتور trantor.
-مرحلة القاعدة foundation و فى هذه المرحلة تسقط الامبراطورية المجرية و تنهار الحضارة الانسانية و يرجع الانسان الى العصر الحجرى لكنه عصر حجرى فى العوالم الفضائية التى عمرها او استعمرها الانسان.
هذا العصر الحجرى فى الفضاء ليس هناك اى مهرب منه لولا تدخل منظمة اشبه بالدولة تسمى -القاعدة foundation- بقيادة الرياضى هارى سلدون harry seldon الذى هو اعظم رياضى فى تاريخ البشرية يكتشف شيئا يسمى علم التاريخ-النفسى psychohistory يسمح له بتنبأ مستقبل البشرية باكمله و لهذا فهو يؤسس هذه المنظمة لانه كان قد تنبأ بسقوط الامبراطورية المجرية بل انه يستطيع حساب المستقبل باكمله عن طريق نظرية التاريخ-النفسى.
لذا فان هدفه من تأسيس منظمة القاعدة هو تخفيف كارثية السقوط الانسانى و حفظ أكبر قدر ممكن من الحضارة البشرية.
النتيجة ان دولة الامبراطورية المجرية يتم تعويضها بدولة اعظم منها هى القاعدة و تتم بنجاج فرملة تدهور الحضارة الانسانية فى المجرة و بداية بوادر اكتشاف الكون بمجمله.
نلاحظ انه بسبب قدرة هارى سلدون على التنبأ بالمستقبل فان منظمة القاعدة تتفوق تكنولوجيا على الامبراطورية المجرية فمثلا استطاعت هذه المنظمة تطوير تقنية جديدة فى الطوى الفضائى لا يحتاج فيها الانسان الى النوم-التبريدى و ايضا فان هذه المنظمة تحكمت بالكامل فى تنكولوجيا الذكاء الاصطناعى بل انها تعدت ذلك و تحكمت فى عملية نسخ الهوية شخصية personal identity و بالتالى قهر الموت باستخدام الوعى الكمومى quantum consciousness و لهذا نجد مثلا ان هارى سلدون رغم موته فانه يتم ارجاعه افتراضيا virtually -وهذا سهل بالنسبة للاساس و للامبراطورية- لكن يتم ارجاعه ايضا فى الواقع -وهذا سهل بالنسبة لمنظمة القاعدة فقط لانها تتحكم فى ما هو اكثر من الوعى الكمومى-. ايضا فان القاعدة تتحكم علميا ايضا فى كثير من التزامنيات synchronicities التى تكلم عنها كارل جونغ و كانت معجزات للانبياء على الارض القديمة.
هذه المرحلة تنتهى باعادة اكتشاف كوكب الارض.
الخلاصة ان هذا العمل من اسحاق اسيموف هو عمل جبار فى ادب الخيال العلمى و انصح العلميين و الادباء و الفلسفيين من الشباب بقراءته فهو افضل بكثير من كثير من القراءات التراثية التى اضعنا وقتنا فيها دون ان نفيد او نستفيد.
آيات العتاب من اكبر دلائل النبوة
و لا نعرف احد من الفلاسفة او المفكرين او العلماء او حتى علماء الشريعة او العارفين بالحقيقة من قدم نقدا لنفسه فى كتبه و كتاباته. فانه من طبيعة الانسان ان لا يقبل النقد و لا يتحمله.
فالجميع و على رأسهم العلماء و الفلاسفة لا يتحمل النقد و كلهم يستميت فى اخفاء عيوبه و حتى الطريقة العلمية و الرياضيات فهما لا يتضمنان بل لا يتحملان النقد الذاتي الا على مضض شديد.
لكن القرآن الكريم فيه نقد -او ما اصطلح على تسميته عتاب- شديد للرسول صلى الله عليه و سلم.
اذن هنا الموقف من العلاقة بين
الظاهرة القرآنية و الظاهرة المحمدية (التى هى ثنائية كما بينا فى أماكن اخرى فكل طرف هو دليل على الطرف الآخر و كل طرف يصلح للوصف و التفسير من منظور لا يصلح فيه الطرف الاخر) اذن العلاقة بين هاتين الظاهرتين هو احد ثلاثة امور:
-اما ان الرسول كاذب و هو يعلم انه كاذب فى ادعاءه ان القرآن وحى من عند الله. وهذا هو موقف الكفار فى كل زمان و مكان و على رأسهم اليهود و المسيحيين و العلم الغربى الذي اسسوه. فهؤلاء هم على التحقيق اكبر الكفار لانهم الاقرب الى بل الاقدر على رؤية الحقيقة لكنهم جميعا يرفضونها.
-او ان الرسول يعتقد صادقا انه يقول الحقيقة لكن كل ذلك الذى يذكره خيال. اذن الرسول هو فعلا يقول الحقيقة من منظوريانيته لكن تلك الحقيقة هى فقط شيء فى نفسه متخيل عنده ليس له حقيقة فى الخارج. هذا هو رأى علم النفس و بخاصة جونغ و جايمس فى ان النبوة و الوحى شيء نابع من اللاوعى و الوعى فعلا يعتقد بصدق ذلك الوحى رغم ان هذا الاخير نابع من الداخل (الخيال) و ليس من الخارج (الحقيقة). و هذا رأى متوازن الى حد ما.
-الموقف الثالث هو ان الرسول صادق و ان الذى يذكره حقيقى. اذن حتى لو كان الوحى نابعا من اللاوعى فان ذلك اللاوعى الذى هو اعمق مستويات الباطن هو النقطة الوحيدة التى يمكن ان يتواصل عبرها الوعى مع الخارج.
اذن الربط بين الوعى و الخارج هو ليس عبر (خارج العالم) كما يقول ابن تيمية و لا هو عبر (لا داخل و لا خارج العالم) كما يقول الغزالى بل الربط هو عبر اللاوعى كما يقول جونغ. اذن منفذ الوعى الى الخارج هو عبر اللاوعى و هو اذن ربط طوبولوجى و لهذا السبب فاننى مهتم بفلسفة جونغ و بخاصة التزامنية.
هذا هو موقف الاسلام الوجودى كما افهمه و هنا فاننى اتابع الشيخ دراز (الذى هو افضل من كتب فى علوم القرآن و اعجاز القرآن فى العصر الحديث) اذن اتابعه فى القول فى ان اعظم دلائل النبوة تكمن فى ما يسمى آيات العتاب التى هى اكبر دليل ليس فقط على ان القرآن هو ليس بكلام محمد بل هو كلام من الخارج (اى كلام الله سبحانه و تعالى) بل هى ايضا دليل على عصمته صلى الله عليه و سلم.
هنا نرتب القضايا الاساسية لهذا الدليل كما يلى:
اولا الرسول صادق بالاجماع. فقد كانت قريش تصدقه فى كل الامور الا أنها تكذبه فى الوحى عن الله وهذا من اكبر التناقض. و تذكروا مثلا قصة سبب نزول سورة المسد و تصديق ابى لهب للرسول فى اخباره عن العدو و تكذيبه له فى اخباره عن الله سبحانه و تعالى.
ثانيا الرسول غير متوهم. و قد اعتقد الرسول فى بداية الوحى انه متوهم فكاد ان يتردى -اى يرمى بنفسه- من شواهق الجبال و هو الرسول المعصوم. وحديث التردى كنت اعتقد انه من دلائل نقض النبوة لكننى اعتقد اليوم -بعد تعرفى قليلا على علم النفس عند جونغ- انه من اقوى الدلائل على النبوة.
ثالثا الرسول لو كان مؤلفا لكتاب كغيره من المؤلفين لما راجع ما يكتبه و خطأ نفسه و عاتبها و انتقدها على المباشر فى ما يكتب.
هذا لا نعرفه فى جميع المؤلفين. بل ان بعض آيات العتاب هى مدعاة الى الاخفاء لكنه لم يخفها لانه ليس هو المؤلف بل هو المبلغ.
اذن آيات العتاب هى افضل دليل على ان القرآن ليس تأليفا للرسول صلى الله عليه و سلم بل هو وحى مجبر على ابلاغه (وتذكروا نظرية الجبر على ابلاغ الوحى التى يذكرها مالك بن نبى فى الظاهرة القرآنية و التى كنت بسطت النقاش فيها هنا منذ سنوات).
اذن بالاضافة الى الدليل اللغوى و اعجازه -وهذا يحتاج الى البلاغة و الفصاحة لادراكه-.
و بالاضافة الى الدليل العلمى و اعجازه -وهذا تفسير و تأويل يحتاج الى معرفة بالعلم الطبيعى و الكونى-.
و بالاضافة الى الدليل العددى و اعجازه -وهذا ايضا تفسير و تأويل يرتبط بالعلوم الغمائضية-.
هناك ايضا الدليل المنظوريانى و منه الوعى المنظوريانى -وقد ناقشناه من قبل- وهو ما يعقله و يراه كل مستمع عندما يُقرأ القرآن و منه ايضا الاسلوب القرآنى الذى يختلف عن الاسلوب النبوى و منه ايضا الضمير المتكلم فى القرآن ومنه ايضا -وهذا هو الذى تكلمنا عنه هنا اليوم- آيات العتاب.
ومن آيات العتاب نذكر مثلا:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ
فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلً
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا
الوعى و الحرية و الموت و الشر
و فى الظاهرة القرآنية يتكرر الحديث بشكل مستمر عن الوعى و الموت و الحرية و الشر وهذه هى الاربعة اشياء المميزة للانسان.
والوعى يذكره القرآن تحت مسمى القلب (و الكثير يعتقد ان القلب هو العضلة التى تضخ الدم) اما الارادة فيذكرها القرآن تحت مسمى المشيئة (التى هى اقتران الارادة بالفعل اى اقتران النفسى بالمادى).
و قد حاولنا تفسير الوعى بالمنظوريانية الكمومية و التزامنية النفسية و مبدأ التكامل و حاولنا تفسير الموت بالاحادية الكمومية و نظرية ضياع المعلومات فى الثقب الاسود و حاولنا تفسير
الحرية بالسقوط الحر و مبدأ التكافؤ و النسبية و حاولنا تفسير الشر بالاخطاء الكمومية.
وهكذا.
لكن هناك تفسيران ابسطان لجميع هذه الامور فى اطار نظرية واحدة. التفسير الاول هى نظرية بولتزمان-شوتز و نظرية المحاكاة. و التفسير الثانى هو نظرية السوليبسيزم.
نبدأ بالسوليبسيزم الذى ينص بكل بساطة على ان جميع الوجود هو غير موجود الا فى ذهن الراصد. اذن الراصد هو فقط الحقيقى او بعبارة اخرى عقل الراصد هو الشيء الوحيد المؤكد الوجود بالنسبة للراصد. فكل راصد هو حقيقى اذن فى معلمه من منظوريانيته اما كل شيء آخر فهو مثل او خيالات فى ذهن ذلك الراصد ليس الا.
اذن حسب هذه النظرية فلا يوجد موت او شر الا فى ذهن الراصد.
اما النظرية الاولى فهى توليف لفرضية بولتزمان-شوتز مع فرضية المحاكاة.
فى هذه النظرية فان هذا الكون الذى نعيش فيه هو تجلى واحد من عدد لانهائى من التجليات للعالم اللانهائى الميت حراريا و الموت الحرارى نقصد به التوازن الترموديناميكى.
اذن الذى يلعب فى هذا النموذج دور الله سبحانه و تعالى هو هذا العالم اللانهائى المتوازن.
ايضا اذكر هنا ان هذه نظرية وحدة وجود على طريقة ابن عربى لكن فى قالب فيزيائى محض.
فى هذا النموذج فان الكون الذى نعيش فيه يكلف طاقة معينة (هائلة جدا) من اجل ايجاده. لكن نفس هذا النموذج يتنبأ فى ان هذا الكون الذى نعيش فيه سوف يكلف طاقة اقل بكثير لو كان محاكاة.
و لان الطبيعة و الفيزياء تفضل صرف طاقة اقل فان الكون المحاكى هو الاقرب الى التحقق فى الواقع من الكون المادى.
اذن نحن نعيش فى محاكاة لكن هذا لا يعنى ان هذه المحاكاة اقل حقيقية من المادة لانه اذا كان كل شيء محاكاة فتلك المحاكاة هى الحقيقة لا اقل و لا اكثر.
اذن لان كل شيء هو محاكاة فجميع المعضلات هى محاكاة و هذا يحلها جميعا و بالخصوص معضلتى الموت و الشر.
أما الوعى فيذكره الله تحت مسمى القلب فمثلا:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ.
أما الحرية فيذكرها الله تحت مسمى المشيئة فمثلا:
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.
لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
و أما الموت فمثلا:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
و اما الشر فمثلا:
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ.
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ.
الحكمة الالهية او المجهول الميتافيزيقى الاكبر
يقول هيوم ان اكبر مجهول هو الموت.
ثم يأتى كانط و يقول بل ان اكبر مجهول هو الله.
ثم يأتى نيتشة و يقول بل ان اكبر مجهول هو العبثية.
اقول شخصيا ان اكبر مجهول هو ليس الموت و لا هو الله و لا هى العبثية بل اكبر مجهول هى حكمة الله سبحانه و تعالى اذا كان الله موجودا وهذا اذن هو تحدى اضافى للايمان بالاضافة الى تحدى كانط.
ثم اقول مع ابن عربى ان الموت الذى أرعب هيوم هو نفسه الله الذى ارعب كانط و هى نفسها العبثية التى تحكم الكون والتى ارعبت نيتشة. وبهذا نكون قد اختزلنا عدد المجاهيل من ثلاثة
الى 1.
و الحقيقة ان الموت هو أكبر مجهول بالنسبة للعلم.
أما الله فهو أكبر مجهول بالنسبة للايمان.
والعبثية فهى أكبر مجهول بالنسبة للدهرية.
وبعد توحيد هذه المجاهيل فان الموت هو ليس الا اله العلم اما العبثية فهى ليست الا اله الدهرى. أما الله بالنسبة للمؤمن فيبقى المجهول الحقيقى. اذن فعلا اختزلنا عدد المجاهيل من ثلاثة الى 1.
ثم ان العلم هو الدهرية نفسها احببنا ذلك ام كرهناه. هذه هى الحقيقة المرة التى يجب قبولها على مضض. وهذا اذن اختزال آخر للمجاهيل. و تذكروا فان الفيزياء العظيمة بل الرياضيات الاعظم تبحثان عن اقل عدد ممكن من المجاهيل.
لكن الحكمة الالهية تعاود و تزيد عدد المجاهيل الى 2 وهذا يضعف موقف المؤمن مرة اخرى بل يضعفه اضعافا كثيرة بالمقارنة مع موقف الدهرى و العلمى.
و بالنسبة للمؤمن فان اكبر مجهول هو ليس الله بل هى حكمة الله. وهذا المجهول هو اكبر المجاهيل على الاطلاق.
و كما يقول المثل الامريكى الدارج (الله يعمل بطرق غامضة God works in mysterious ways).
واقول ان رهان المؤمن على وجود الله اخطر بسنوات ضوئية لو كان خاطئا من رهان الدهرى على عدم وجود الله لو كان خاطئا.
وهو رهان بالفعل.
لانه كما قرر كانط لا يوجد برهان على وجود الله حاسم شامل نهائى رغم قوة بعض تلك البراهين . فمثلا البرهان الانطولوجى ليبنيز-و-غودل هو فى غاية الاحكام الرياضى.
لكن التحقيق هو ما قدمه كانط فى أنه لا يوجد برهان على وجود الله و كل ما هنالك هو فى الحقيقة اختيار منظوريانى perspectival choice يلتقى فيه الوعى (الذى يسميه القرآن القلب) بالحرية (التى يسميها القرآن بالمشيئة).
هذا الاختيار المنظوريانى هو اختيار نقوم به ثم نحاول بعد ذلك البرهان عليه. اذن هو مسلمة فى الحقيقة.
هذا ما يفعله جميع المؤمنين فى براهينهم على وجود الله سبحانه و تعالى و صفاته باستثناء الكشف الذى هو منظوريانية بحتة لكنها لا تفيد العلم الا لصاحبها.
بل حتى الوحى الذى هو ايضا منظوريانية لا تفيد العلم الا اذا كان مقترنا مع معجزة النبى فيقع عند ذلك العلم.
اذن الله هو مسلمة اذا تساوق فيها الوعى مع العلم و الواقع فان الضمير يصبح معذورا.
اذن الايمان بالله هو رهان اخطر من عدم الايمان به لانه اذا لم يكن صحيحا فان الانسان يكون قد خسر الارض و لن يربح شيئا تحت الارض حيث لن يجد شيئا.
اما لو كان الرهان على عدم الايمان غير صحيح فان الانسان سوف يجد الله تحت الارض و الله افضل الحاكمين.
ان تجد الله افضل من ان لن تجد شيئا و لذا فان رهان المؤمن اخطر من رهان الدهرى.
لكن هناك فعلا كفار بالتعريف القرآنى.
وهم الذين تم تبليغهم و اقيمت عليهم الحجج و ظهرت امامهم المعجزات لكنهم عاندوا رغم انهم يعرفون الحق (يعرفونه كما يعرفون ابناءهم) مثل فرعون و اليهود و قريش و قوم نوح و غيرهم فهؤلاء لم يتساوق عندهم الوعى مع العلم و الواقع (ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على ابصارهم غشاوة).
اذن هناك المؤمن و هناك الدهرى و هناك الكافر فالدهرى و الكافر ليسا بالضرورة نفس الشيء.
اذن اليهود و قريش كانا يعرفان النبى. اليهود بما فى أيديهم من الكتاب و قريش بما تعرفه من العربية. لكنهم جادلوا و كفروا رغم انهم يعرفونه -اى النبى صلى الله عليه و سلم- كما يعرفون اولادهم فختم الله على وعيهم غشاوة.
و هؤلاء الكفار من اليهود و قريش و قوم فرعون و غيرهم هم اشر الخلق لان الدليل قام عندهم على صحة دعوة النبى لكنهم صم بكم لا يعقلون وهم على ذلك شر الخلق (ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون و هم ايضا الذين كفروا فهم لا يؤمنون).
اذن رهان المؤمن اخطر من رهان الدهرى. اما وجود الكافر فى هذه المعادلة فهو يرجح صحة رهان المؤمن على صحة رهان الكافر. فبعض الكفار يرون افضل من رؤية كثير من المؤمين لكنهم لا يؤمنون. وهذا يجعلنا نطمئن الى رهاننا باذن الله.
لكن بالنسبة الى المؤمن فان اكبر رهان هو فهم حكمته سبحانه و تعالى من خلق هذا العالم و من خلق كل هذا الكفر و الشر و القتل و الظلم و الفساد فى هذا العالم فهى حكمة يعجز العقل عن ادراك الغاية من وراءها رغم ان العقل ادرك و لو بصورة تقريبية او احتمالية مجاهيل الموت و العبث و الله لكبار الفلاسفة.
أشير فى الاخير ان فهم هذه الحكمة او ايجاد نموذج او نسق احتمالى و تقريبى لفهم هذه الحكمة هو احد الاهداف الاساسية لمدونة الوعى و الوجود وهذا تعبير آخر عن جميع المعضلات التى تؤرقنى و تقض مضجعى.
المقولات العشر
هذه مواضيع شائكة فيها لغط كبير يرجع الى آلاف السنوات و اذن الخص رأى الفلسفة و العلم و الدين فيها بشكل موضوعى قدر الاستطاعة فى 10 مقولات (بغض النظر عن اختياراتى الايمانية المنظوريانية او ترجيحاتى العقلية التحليلية).
المقولة الاولى و هى مقولة هيوم (فضيحة الفلسفة الاولى انها لم تستطع حتى اليوم اثبات وجود العالم الخارجى).
المقولة الثانية و هى مقولة كانط (فضيحة الفلسفة الثانية انه لا يمكن ابدا لا اليوم و لا فى المستقبل البرهان على وجود الله).
المقولة الثالثة و هى رأي الغزالى أصيغه
على شاكلة مقولتى هيوم و كانط فى الفلسفة فاقول (فضيحة علم الكلام انه لم يستطع حتى اليوم اثبات الاسلام و لا نبوة محمد صلى الله عليه و سلم و لا اعجاز القرآن الكريم).
المقولة الرابعة وهى خلاصة رأى ابن تيمية (فضيحة أهل السنة و الجماعة انهم لم يستطيعوا اثبات لا وجود السلف و لا صحة السنة و لا الاجماع على الاجماع).
المقولة الخامسة وهى خلاصة رأى ابن عربى (فضيحة التصوف انه لا يمكن ابدا اثبات الكشف).
المقولة السادسة وهى فضيحة العلم الاولى (فضيحة علم النفس و علوم الوعى انه لا يمكن ابدا اثبات وجود النفس و لا اثبات وجود الوعى).
المقولة السابعة وهى فضيحة العلم الثانية (فضيحة البيولوجيا و نظرية التطور انها لا يمكن ابدا ان تفسر انبعاث الحياة و الوعى).
المقولة الثامنة و هى فضيحة العلم الثالثة (فضيحة الفيزياء انها لا يمكن ابدا ان تجد نظرية كل شيء و ان تفسر انبعاث الكون).
المقولة التاسعة وهى فضيحة مشتركة بين الفلسفة و العلم و الدين (لا يمكن ابدا نفى العبثية و لا اثبات الحرية و لا نفى او اثبات الشر فى هذه الحياة).
المقولة العاشرة وهى فضيحة مشتركة بين الفلسفة و العلم و الدين (لا يمكن ابدا ان نعرف ماذا يحدث بعد الموت).
عبقرية كارل جونغ
وكنت متوقفا بشأن كثير من الامور اللاطبيعية مثل - حقيقة الاحلام و تأثير الحسد و العين و التنجيم و ما يسمى علم الاعداد و التفاؤل و التشاؤم و القوى الخارقة للطبيعة و الخطوة و التخاطر و السحر و الخيمياء- و غيرها من الامور التى لا تخضع لسطة العلم و مبدأ السببية و هيمنة العقل.
لكن شخص واحد غير رأيى فى هذا الموضوع هو كارل جونغ و هذا فى مدة اقل من اربعة سنوات.
فهذه المواضيع قد يكون لها حقيقة خفية و مجال دراستها هو علم النفس الورائى parapsychology.
و اننى اعتبر كارل جونغ من
الاكتشافات الفكرية المتأخرة بالنسبة لى.
و لو كنت اكتشفته قبل عشرين او ثلاثين سنة لتغيرت كثير من الافكار الخاطئة و المخطوءة و لما ضيعنا وقت عظيم على فكر و افكار هدامة لا يهمها الا الربح و الخسارة الشخصية و المذهبية على حساب الحقيقة و الحق.
كارل جونغ تشعر انه يريد فعلا ان يقنعك و يريد لك الخير فهو من الواضح انه لا يهمه ان يربح او يخسر الفكرة اما كثير من الفكر الموجود هنالك فان همهم الغلبة و لا يهم شيء آخر.
و فى قراءتى لكارل جونغ و صراعه المرير مع فرويد و العزلة الشديدة التى تعرض لها بسبب ذلك عرفت ان اساس الصراع بينهما هو ليس الجنس و عقدة اوديب كما كنت اعتقد -ولو انها لعبت دورا فى الخلاف- لكن محور الخلاف بينهما يرتكز على المعرفة الغمائضية او الاوكولت occult التى يدافع عنها جونغ بل هى مرتكز مدرسته النفسية لكن نجد فرويد يرفضها رفضا باتا.
الاوكولت occult او المعرفة الغمائضية -وهذا تعريبى- هو كل معرفة لا تخضع للطريقة العلمية و على رأسها التصوف و الروحانيات و الدين بصفة عامة لكن ايضا تضم السحر و التنجيم و غيرها من علوم الظلام.
هذه الامور جميعها يريد ان يضمها جونغ الى حضن العلم و يعتقد ان هناك حقيقة ورائها فهى ليست خرافات و خزعبلات فقط بل تنطوى على حقيقة كثيرة لا يمكن للعلم ان يصل اليها بطرقه و اساس هذا الاعتقاد عنده هو ما يسمى السنكرونيسيتى synchronicity او التزامن (وهذا ايضا تعريبى).
و التزامن هو تأثير اضافى فى الكون زائد على تأثير السببية. و قد تكلمت عنه كثيرا من قبل.
واذا كان البعض يصر على السببية وهم محقون تماما.
فان الغزالى بنفيه للسببية قد حولها تقريبا الى شيء يشبه التزامن و هو يسميه مبدأ العادة.
الحقيقة ان هناك سببية صلبة لا يمكن نكرانها تحكم العالم و العقل و مجال المعرفة لكن هناك ايضا كما يقول جونغ تزامن و هو ليس السببية بل هو شيء يحكم مثلا عالم الاحلام و الرؤيا فى النوم و عالم القوى الخارقة الذى لا نستطيع نفى وجوده لان العلم لا يستطيع البرهان على استحالته -و الكرامات هى قوى خارقة و المعجزات هى قوى اخرق تدمر بالكامل مبدأ السببية-.
اذن العالم الغمائضى تحكمه السببية و التزامن معا.
واننى شخصيا قد تبنيت التزامن فى تفسيرى للميكانيك الكمومى -حيث ان انهيار دالة الموجة عند الرصد هو تأثير تزامنى بين الراصد و المرصود-.
والعلاقة بين العقل و الجسم هى ايضا قد تكون تزامن و ليست سببية كما يعتقد الاغلبية -واقرب من قال بهذا هو ليبنيز بفكرة التوازوية parallelism-.
بل ان فكرة ان العلاقة بين العقل و الجسم يجب فعلا ان تكون تزامن هى فكرة جونغ مع الفيزيائى النظرى باولى فقد كتبا كتابا كاملا مشتركا حول هذا الموضوع. فالعبقرى باولى رغم عدم حاجته الى شيء بعد نجاحه الساحق فى الفيزياء النظرية فانه كان يحتاج الى فهم العلاقة بين المادى و الروحى و لم يجد الا جونغ و مفهوم التزامن عنده كنقطة انطلاق.
اذن المعرفة الغمائضية هى محاولة سبر العالم الذى لا يخضع لسطوة العلم -اى على الاقل فى المرحلة الحالية- لكن بطرق علمية و هذا هو رأى كارل جونغ.
وكل هذا العالم هو عالم خيالى بالنسبة لمن يرفض المعرفة الغمائضية لكن بالنسبة لجونغ فان عالم الخيال لا يقل حقيقة عن العالم المادى.
وقد كانت هذه هى فكرة ابن عربى -فى ان عالم الخيال اكثر حقيقية من عالم الواقع- هى نقطة انطلاقى فى اكتشاف جونغ.
ولهذا انطلقت و ذهبت الى جونغ و قراءته و تركت ابن عربى و لو الى حين ان شاء الله.
لان الخيال الذى يتكلم عنه جونغ هو خيال فى النفس الانسانية يمكن للعقل ان يدركه اما الخيال الذى يتكلم عنه ابن عربى فهو خيال فى النفس الالهية وهذا اذن مفهوم من اعقد مفاهيم ابن عربى.
اذن مفهوم الخيال عند جونغ يعتمد بالاساس على فكرة التزامن و هذه الفكرة هى اساس فلسفة الدين عند جونغ و بدون هذه الفكرة فانه لا فرق بين فرويد و جونغ.
فعند فرويد فان الدين هو تفاعلات نفسية داخلية سببية.
اما عند جونغ فان الدين هو تفاعلات نفسية داخلية سببية لكنها تتأثر تزامنيا مع الخارج فهى ليست معزولة و لا هى موهومة فى النفس.
التزامنية و الرمزية عند كارل جونغ
فهم التزامنية synchronicity عند كارل جونغ يتطلب التحكم فى الرمزية symbolism.
و التزامنية تعنى مما تعنى ان الفرد -الأنا ego و الذات self و الظل shadow و غيرهم- متوحد مع الكون و مع وراء الكون عبر اللاوعى unconscious.
اذن التزامنية تنص على ان عالم الأنا-و-الوعى مرتبط بالعالم الخارجى -الكون و الله- عبر اللاوعى.
يحكى هنرى فيرز Henry Fierz احد معارف كارل جونغ Carl Jung انه كُلف من قبل بعض الناشرين بالاشتراك مع جونغ بمراجعة و نشر كتاب احد العلماء الذى توفى حديثا.
تم تنظيم لقاء بين
الرجلين (فيرز وجونغ) على ال 5 مساءا من اجل مناقشة الموضوع و تحديد القرار النهائى بشأن نشر الكتاب من عدم نشره.
فيرز كان مع النشر.
اما جونغ فكان مع عدم النشر حسب ما يروى فيرز.
و امتد اللقاء بينهما الى اكثر من نصف ساعة دون أن يستطيع فيرز ان يغير من رأى جونغ الذى نظر الى ساعة يده معلنا بذلك ضرورة مغادرته و كأنه يقول انه ذكر كل ما لديه بخصوص هذا الموضوع.
عندما نظر جونغ الى ساعته وجدها تشير الى ال 5 و 5 دقائق. لكنه كان يعلم ان النقاش بين الرجلين استمر الى اكثر من 5 دقائق.
التفت جونغ الى فيرز و سأله متى ابتدأ الاجتماع فرد فيرز على ال 5 كما اتفقنا.
فقال له جونغ هذا غريب جدا لان ساعة يدى قمت باصلاحها مؤخرا و قد رجعت من عند الساعاتى هذا الصباح فقط. لكن هى الآن تشير الى 5 و 5 دقائق و نحن هنا فى هذا الاجتماع لمدة اكثر من خمسة دقائق أليس كذلك. كم الساعة عندك.
فرد فيرز ال 5 و 35 دقيقة.
عندها قال جونغ لديك الوقت الصحيح و لدى الوقت الخطأ. دعنا نجلس اذن و نناقش هذا الكتاب مرة اخرى. يبدو اننى كنت متسرعا بشأنه -يقصد بشأن نشر الكتاب-.
خلال الجلسة الثانية استطاع فيرز ان يقنع جونغ بضرورة نشر هذا الكتاب الموكل لهما.
اذن هذا مثال على التزامنية. اى المصادفة بين الفيزيائى و النفسانى التى هى ليست صدفة محضة و لا هى سببية حتمية.
فليس هناك اى علاقة سببية بين توقف عمل ساعة يد كارل جونغ من جهة (هذا هو الحادث الفيزيائى) و عدم رغبة جونغ فى نشر الكتاب من جهة اخرى (هذا هو الحادث النفسانى).
لكن جونغ ادرك ان هناك علاقة تزامنية بينهما.
و توقف ساعة يده دل له ان رأيه بخصوص نشر الكتاب كان متعجلا و خاطئا. و قرر عندها الاستماع الى وجهة نظر فيرز من جديد لكن بنفسية متفتحة اكثر.
اذن التزامنية هى الربط غير-السببى بين المصادفات من ناحية المعنى و فهم هذه المصادفات غير-المحضة ذات-المعنى يتطلب القبول بالتزامنية اولا ثم القدرة على التفسير الرمزى ثانيا.
و اغلب هذه المصادفات غير-المحضة ذات-المعنى تنطوى على اقتران حادث فيزيائى من جهة و حادث نفسى من جهة اخرى يقعان ليس بالضرورة فى نفس الوقت -رغم اسم التزامنية- لكنهما يحملان معنى مشترك.
وهذا ابسط تفسير للتزامنية وقعت عليه.
الوعى و حالات غياب الوعى
و اذا اردنا ان نفهم حالات حضور الوعى فعلينا ان نفهم الحالات التى يكون فيها الوعى غائبا.
مثلا الرضع infants هل لهم وعى.
والحيوان animal هل له وعى.
والآلات machines هل يمكن ان يكون لها وعى.
ثم الاصل التطورى للوعى. هل الوعى هو ناجم عن الانتقاء الطبيعى natural selection مثل غيره من ميزات الكائن البيولوجى. بعبارة اخرى لماذا طور الكائن البيولوجى الوعى و هل الوعى فعلا ضرورى من اجل بقاء هذا الكائن و استمراريته.
ثم
ماهو الفرق بين الوعى الاستعرافى cognitive cosnciousness و الوعى الانفعالى affective consciousness. و الوعى الانفعالى هو الوعى الذى يلى مباشرة الوعى الغريزى.
ثم الحالات غير الاعتيادية للوعى وعلى رأسها الحلم dream.
ثم الحالات المرضية pathological للوعى و على رأسها الذهان psychosis بفرعيه الوهام delusions و الهلوسة halucinations وكذا السكيزوفرينيا Schizophrenia.
ثم ماذا عن حالات الوعى المستحثة induced الناجمة عن استهلاك المخدرات.
ثم نصل الى حالة الوعى فى التأمل meditation.
وبعدها الى حالة الوعى فى التصوف mysticism.
ثم هناك حالات وعى اكلينيكية clinical و على رأسها البصر-الاعمى blind-sight الذى يكون فيه المريض قادرا على الرؤية لكنه غير مدرك تماما لما يرى. اذن هذه الحالة تنص على عدم لعب الوعى اى دور فى الابصار.
ومن الحالات الاكلينكية ايضا حالات المخ-المنشطر split-brain حيث ان النصف اليمينى للدماغ يتصرف باستقلال كلى عن النصف اليسارى بعد ان يتم قطع الربط بينهما فى بعض حالات علاج الصرع. فى هذه الحالة لدينا اذن وعيان فى جسم واحد.
ثم ماذا يحدث للوعى-الذاتى self-consciousness خلال الحالات المرضية للوعى مثل السكيزوفرينيا.
و ايضا كيف تتحقق وحدة الوعى unity of consciousness رغم تعدد مركباته و كثرتها فى حالات الوعى الصحية و كيف ينشطر الوعى فى حالاته المرضية.
هذه هى المواضيع التى يتناولها الجزء الثانى من هذا الكتاب.
السباندرال بين الهندسة المعمارية و البيولوجيا التطورية
عندما نقوم برسم دائرة وسط مربع فان الأسطح الأربعة الشبيهة-بالمثلث و المرتبطة-تقريبا المحصورة بين الدائرة و المربع تسمى بالانجليزية سباندرال spandrel و بالفرنسية كوانسون coinçon.
مثلا الاقواس فى الهندسة المعمارية الاسلامية -العباسية و الفاطمية بالخصوص- تحتوى كلها على عنصر السباندرال الذى هو ليس هدف التصميم الاول لكنه امر لا يمكن ايضا تفاديه و يستخدم اذن عادة فى التزيين و المنمنمات.
فى السبعينات تبنى البيولوجى-التطورى ستيفان غاى غولد Stephen Jay Gould هذا المصطلح التقنى من
الهندسة المعمارية و ادخله الى البيولوجيا التطورية evolutionary biology وهى تعنى فى هذا المجال تلك الميزات traits التى لم يتم تطويرها عبر الانتقاء الطبيعى natural selection لكنها كانت نتيجة غير مقصودة لعملية التطور.
اذن السباندرال فى البيولوجيا التطورية هى ليست ميزة ناجمة بشكل مباشر عن الانتقاء الطبيعى و التكيف adaptation بل هى خاصية للكائن البيولوجى غير مقصودة فى حد ذاتها من عملية التطور لان الكائن ليس بحاجة اليها من اجل البقاء survival لكنها خاصية ناجمة عن ميزة اخرى للكائن البيولوجى تم تطويرها عبر الانتقاء الطبيعى و التكيف.
اذن ليس كل شيء يتميز به الكائن البيولوجى نجم عن ضرورة التكيف من اجل البقاء -وهذه هى الميزات traits- بل هناك كثير من الامور هى ليست الا نتائج فرعية غير مقصودة للتطور تسمى السباندرال.
واهم مثال يعطى هو شكل ذقن الانسان. فهذا حسب الكثيرين خاصية ليس لها اى وظيفة و هى اذن ليست الا سباندرال.
و مثال آخر مذهل يعطيه نعوم تشومسكى Noam Chomsky هو اللغة. حيث ان خاصية التقطع اللانهائى discrete infinity التى تقع فى اساس قدرة الانسان على تعلم اللغة و بخاصة ما يسمى القواعد الكونية universal grammar هى ليست الا سباندرال.
هذه فكرة وجدتها مذهلة. و الذى اذهلنى اكثر ان البعض يقول ان الوعى نفسه -و اللغة جزء صغير من الوعى- هى ليست الا سباندرال ليست مقصودة فى حد ذاتها من عملية التطور وهى ليست ضرورية من اجل البقاء وانها نجمت كنتيجة غير مقصودة عن تكييف الانسان لميزات اخرى.
ملحوظة: اذكر مرة اخرى برأيى فى نظرية التطور على انها نظرية فعالة و ليست نظرية اساسية و انها اكثر من هذا لا تصلح فى التفسير الا بعيدا عن حدود المفردات التخلقية - بزوغ الكون و بزوغ الحياة و بزوغ الوعى و بزوغ العقل و بزوغ النبوة و بزوغ الانسان الكامل-.
Comments
Post a Comment